عوائق الاستقامة وموانع التوبة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الاستقامة على شرع الله تعالى منزلة عظيمة من منازل الدين، وركيزة هامة من ركائز الإسلام يجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسعى لتحصيلها والثبات عليها، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف:13).
ومع هذا الترغيب ومع أن الله تعالى قد فتح الباب لمن انحرف عن طريقه وسلك غير سبيله ليرجع إليه، وبشره بقبول التوبة والفرح بها ، فإن كثيرا من الناس يبقى مترددا، هو يريد أن يتوب وأن يكون من المستقيمين، ولكن ثمة بعض الشبهات تحجبه عن التوبة، وهناك عوائق تقف كالحاجز بينه وبين الاستقامة على الشرع، وهذه الشبهات والوساوس والعوائق تختلف من شخص إلى آخر وتتعدد وتتنوع، فرأيت أن أجمعها في جزء مع الجواب عنها، حتى يتشجع المسلمون المقصرون على التوبة ويحرصوا على الاستقامة والثبات عليها.
العائق الأول : الاعتماد على سعة رحمة الله تعالى
كثير من المبتلين ببعض المعاصي وبالانحراف عن منهج الله تعالى، إذا نُصح أو أراد أن يقلع عما هو عليه يأتيه شيطانه فيقول له : إن رحمة الله واسعة وإن الله غفور رحيم. فيثبطه ويبرد همته ويضعف إرادته اتكالا على رحمة الله تعالى وعلى عفوه ومغفرته.
والجواب أن هذا نوع من الغرور، فإن الله تعالى يقول: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف:56) فهل أنت من المحسنين بالإصرار على الذنوب؟ فهل أنت من المحسنين إن لم تكن من التوابين إلى الله تعالى؟ واسمع إلى قول الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:156) فمع أن رحمته واسعة لكنه سيخص بها المتقين، فهل أنت بتماديك في غيك منهم ؟
وعلينا أن نتذكر أن الله كما أنه التواب الرحيم كذلك هو العزيز الجبار القوي المقتدر، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (الحجر:49-50) .
ومثل هذا المتكل على رحمة الله دون عمل ودون توبة، كمثل من يضيع أمواله ويبذرها ويترك نفسه وعياله فقراء، فإذا نُصح وذُكِّر قال إن فضل الله تعالى واسع وهو الرزاق الكريم الوهاب، فهل هذا جواب عاقل !؟
أيها المسلم إنه إذا علمت سعة رحمة ربك ومغفرته، فالواجب عليك المسارعة إلى أسباب نيلها، وأن تترك المعاصي وتستحيي من الله أن تعود إلى مثلها.
العائق الثاني : احتقار الذنوب
بعض الناس يرى نفسه على خير ، ويأتيه الشيطان فيجعله يحتقر الذنوب التي يقترفها ، فيراها قليلة يسيرة هينة لا تستحق أن يتاب منها .
ونحن نقول قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم :"إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ"، قال ابن مسعود:"وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا"([1]).
وقد قال بعض السلف:« لا تنظر إلى الذنب وانظر إلى من تعصي » ، انظر إلى عظمة الله تعالى وتأمل في إحسانه ونعمه، فإن الله أعظم وأجل من أن يستهان بمعاصيه . ومنه فمن علامة الإيمان تعظيم هذه الذنوب والمسارعة إلى الاستغفار والتوبة منها، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا"([2]). وعلى العبد أن لا يحتقر الذنب مهما كان، فإن الذنب بالاستصغار والاحتقار يعظم عند الله تعالى، حتى قال العلماء :" لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار ".
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والمغرب"([3])، فانظر عبد الله معصية واحدة، وقد تكون كلمة تطلق من غير تبين تهوي بصاحبها في أعماق جنهم، بل اسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"([4]). وتأمل هذا ، أوليس هذا العمل مما يحقره كثير من الناس؟!
العائق الثالث : الاغترار بالأعمال الصالحةويقول الشيطان لبعض الناس: أنت تصلي فلا مزيد، ولماذا تتوب؟ ومن ماذا تتوب؟ ويقول للآخر: ولماذا تصلي فأنت إنسان صالح لا تؤذي الجار وترحم الصغار، وتعين الفقراء وتحترم العلماء وقلبك سليم أبيض .
واحذر أيها المسلم من الاغترار ببعض طاعتك لله تعالى، فكم من طاعة أهلكت صاحبها إذا اغتر بها وفرح، قال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99). وما يدريك أن عملك هذا مقبول عند الله تعالى، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) سألت عائشة رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ([5]). وقال فضالة بن عبيد رضي الله عنه:"لأن أكون أعلم من الله قد تقبل مني مثقال حبة خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27)".
وتذكر أن من المعاصي ما هو محبط للعمل الصالح ، كترك صلاة العصر وإخراجها عن وقتها، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"([6]). ومنه فلا صلاح لمن ترك الصلاة ولا يمكن أن يكون قلبه أبيض كما يزعمه الشيطان.
العائق الرابع : اليأس من رحمة الله تعالى
وأناس آخرون يدخل عليهم الشيطان من جهة أخرى، من جهة اليأس من رَوح الله ، فيقول له أنت فعلت وفعلت فكيف يغفر الله لك؟ يعظم في نفسه الذنب ليصده عن الاستقامة وعن التوبة .
والجواب: أن اليأس من رحمة الله حرام وسوء ظن بالله تعالى قال تعالى: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( (يوسف:87) واسمع إلى نداء الرحمن إلى العباد الغارقين في العصيان: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) . نعم إنه يغفر الذنوب جميعا بما فيها الشرك والكفر إذا تاب العبد إليه وأناب.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"([7])، وقد غفر الله تعالى لمن كان مشركا يقاتل المسلمين كسيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وغفر لمن قتل مائة نفس وتاب ولم يعمل خيرا قط، ورحمته سبحانه أوسع من أن تضيق عن ذنوب بني آدم مهما كثرت، قال تعالى في الحديث القدسي :"يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"([8]) .
العائق الخامس : التعلل بالهداية ومما يتعلل به البعض عندما يُنصح بالتوبة والاستقامة أن يقول:"أتوب عندما يهديني الله تعالى"!!.
وهذا خطأ جسيم وظلم عظيم في حق الرب الحكيم جل جلاله، لأن الله تعالى قد هدانا وبين لنا السبيل، وإلا كيف نتوقع أن يعاقب أهل الكفر وأهل المعاصي وهو لم يقم عليهم الحجة بالهداية؟ والله تعالى هدى الناس بالفطرة التي هي الميل إلى الحق والإسلام، وبالعقل المميز بين الخير والشر وبين الحسن والقبيح، وبالرسل الذي أرسل للناس ، وهداهم بالكتب المنزلة والآيات المتلوة، وهداهم بالآيات المشهودة في الكون، وبحملة هذا الدين ورثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ثم أنت أيها المحتج قد فضلك الله فجعلك من أمة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فأي هداية أعظم من أن تولد بين المسلمين؟! وأنت أيها المحتج! قد هداك الله بنصيحة هذا الناصح، إذن فقد هداك الله بطرق كثيرة؛ الهداية التي يسميها العلماء هداية البيان والدلالة والتي بها تقوم عليك الحجة وينقطع عذرك عند الله تعالى.
ومن كان يريد هداية التوفيق والتثبيت وتزيين الإيمان في القلوب؛ مثل ما هدى الله أنبياءه وخيار عباده، فنقول له إن هذه الهداية منحة وجائزة لا ينالها كل أحد، ولكن ينالها من استجاب لنداء الله عز وجل واستقام واتبع الهداية الأولى، كما قال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (مريم76). ولكي نزيد هذا المعنى وضوحا نقول: هل القرآن هدى للناس جميعا أم هدى للمتقين فقط؟ كلاهما وصف به القرآن([9]) وكلاهما صحيح، فالقرآن كتاب هداية للناس جميعا للمسلم والكافر يعني أن من قرأه وفهمه تقوم عليه الحجة ويعرف الخير من الشر ويتبين له الحق من الباطل، ثم يؤمن به طائفة من الناس فيبحثون عن معانيه ويجتهدون في العمل بأحكامه فيزدادون هداية وهذه الهداية الزائدة خاصة بالمتقين، فمن أراد هذا النوع من الهداية فعليه أولا أن يخلص في التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
العائق السادس : الاحتجاج بالقدر وربما يقول بعضهم إن الله قدر لي أن أكون عاصيا غير تائب، منحرفا غير مستقيم ، وهذا هو الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي.
وهذا غير جائز بل سوء اعتقاد في الله تعالى، وإنّ قَدَرَ الله تعالى أمر غيبي لا نعلمه إلا بعد وقوع الأعمال والأقوال، فكيف يكون حجة عليها؟ وكما يحتج العاصي على معصيته يحتج الكافر على كفره، فيبطل الدين والتكليف وينسب رب العزة جل جلاله إلى الظلم وإلى العبث، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا؛ لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه ، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه ويتناقض، وتناقض القول يدل على فساده ، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول"([10]).
ويقال لمن يقول إذا قدر لي ربي التوبة فسأتوب وإلا فلا معنى للتوبة:"إذن إذا مرضت فلا تشرب الدواء، فإن الله إذا قدر لك الشفاء فسوف تشفى وإلا فلن ينفعك الدواء، وإن هاجمك سبع فلا تفر فإنه إن قدر لك النجاة ستنجو وإلا لم ينفعك الفرار، بل إذا أردت أن يرزقك الله الولد فلا تتزوج، فإن الله إن قدر رزقك بالأولاد فسوف يأتونك".
وهذا الكلام في حقيقة الأمر من وسوسة الشيطان، بل هو سنة سنها إبليس حين قال : (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16)، وهو دليل بعض المشركين كما أخبر ربنا سبحانه: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148)، لذلك قال ابن تيمية:" هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى"([11]).
العائق السابع : بعض الناس يقول الالتزام صعب !
فنقول له ماذا تعني بالالتزام؟
1-إن كنت تعنى الانقياد الكلي (الذي هو ركن في الإسلام) فهذا إعلان للكفر والعياذ بالله، والتفريق الذي يتردد على ألسنة كثير من الناس هذا مسلم ملتزم وهذا غير ملتزم، تفريق غير مقبول في الإسلام ومصدره النصرانية الضالة ، لأن ديننا قول وعمل، ولا يكفي فيه مجرد القول أو التمني.
2-وإن كنت تعني الالتزام بالصلاة والمحافظة عليها، فهذه مغالطة لأن الله تعالى يقول : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (الحج 78) وهو قدح في حكمة المولى عز وجل في التكليف لأن الله تعالى يقول : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة286)، ومن أراد أن يتأكد من رحمة الله تعالى بنا وأنه لم يكلفنا بشيء صعب علينا فلينظر إلى ما كلف به الملائكة، إذ منهم من هو ساجد من يوم أن خلقه الله عز وجل، ومنهم من هو راكع ومنهم القائم، ومنهم المسبح وهكذا عبادة واحدة دائمة. فهل بعد هذا نصدق من يقول إن الالتزام صعب؟
ثم إننا نقول إن للعبادة لذة يجدها من يألفها ويداوم عليها، نعم إن للطاعة طعم وحلاوة وتورث في القلب فرحا وسرورا وانشراحا، كما أن للمعصية طعما ولذة إلا أنها لذة زائلة سرعان ما تورث صاحبها حزنا وكآبة وظلمة في القلب وضيقا في الصدر.
3-وإن كنت تعني الالتزام بالصلاة في المسجد، فهذا أيضا مغالطة لأن الالتزام بالصلاة في المساجد في هذه الأيام يعد أكثر من ضرورة لأنه لا ثبات للعبد من دون ذلك، فالعبادة في المسجد، العلم في المسجد، والصالحون في المسجد. وفي خارج المسجد لا تجد إلا ما يدعوك إلى الغفلة أو المعصية، ولتعلم أن الصحابة رضي الله عنهم أول الأمر لما كان الإسلام في المدينة فقط فرض الله تعالى عليهم الهجرة من ديارهم ومن أرض الكفر إلى المدينة أرض الإسلام ليحافظوا على دينهم، فكان ربما خرج الواحد منهم حافيا عاريا مهاجرا إلى الله ورسوله، فهل هجرتهم أصعب أم هجرتك للشارع والملعب؟
4-وإن كنت تعني بقولك هو صعب أن الالتزام فيه جهد، فهذا حق والله تعالى يقول : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) أي الذي جاهدوا هواهم والشيطان، ثم إنه لا يوجد شيء ينال بغير جهد، الخبز لابد له من جهد وكل شيء لابد له من جهد! حتى المعاصي الناس تنالها بالجهد! وإذا كنت ترى في التنقل إلى المسجد جهدا وفي الصلاة جهدا فلِمَ لا ترى إلى الجهد الذي يبذله المتنقل إلى الملاعب البعيدة، وفي ذلك الصراخ والصياح أليس ذلك صعبا وفيه جهد أيضا؟ ولتعلم أن سلعة الله غالية ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"([12]).
العائق الثامن : ضعف الإرادة مع طول الأمل من الناس من يفكر في الاستقامة ويتمنى أن يستقيم، ويحسد الناس المستقيمين على ما هم عليه من خير، لكنه لا يتحرك ولا يتقدم، وما ذلك إلا لضعف إرادته من جهة، ولتغلب الشيطان عليه من جهة أخرى ؛ إذ غره بالتسويف وتطويل الأمل، إذ منهم من يقول غدا أتوب، ومنهم من يقول الجمعة المقبل، أو إذا جاء رمضان وهكذا …
وعلاج هذا الضعف وهذا التغرير أن يتذكر العبد أن الموت يترصد له وينتظره، وإذا أخذه أخذه بغتة وعلى حين غفلة، وأنه إذا جاء فكما أنه لا يتقدم فإنه لا يتأخر، وأن يتذكر أنه ليس كل الناس يموت في سن متقدمة وعن عمر طويل، ولا كل الناس يموت في الفراش بين أهله، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون99-100)
يا من بدنياه اشتغل وقد غره طول الأمل
الموت يأتي بغتــة والقبر صندوق العمل
وليعلم العبد أن مجرد نية التوبة دون تحقيق لها ، لا تنفعه ولا تشفع له وأن العبرة بالعمل وبحسن الخاتمة.
العائق التاسع : الخجل بالطاعة هو ما يسميه بعضهم حياء، وهو في الحقيقة تلبيس شيطاني وضعف في الإرادة (وفي الشخصية) ودنو في الهمة والإيمان، لأن الحياء شعبة من شعب الإيمان، وهو كله خير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظم الحياء: الحياء من الله عز وجل فمِن أوَّل صفة الحيي أن يستحيي من ربه فلا يعصيه ، وإذا عصاه سارع إلى الاعتذار، وليس من صفته أنه يعصيه ويفرط في طاعته ثم يحتج بالحياء؛ فهذا يقول أستحيي أن أصلي في المسجد وهذا يستحيي أن يلبس القميص للصلاة أو أن ألبس سروالا فوق الكعبين، وذاك يستحيي أن يعفي لحيته وهكذا، وربما يلعب الشيطان بأحدنا حتى يترك الدين كله حياء ولا أدري هو حياء ممن؟ في المقابل المتبرجة التي تكشف بعض عورتها لا تستحيي، والمدخن لا يستحيي، ومن يشرب الخمر لا يستحيي، ومن يترك الصلاة لا يستحيي. إن هذا الذي نعيشه من انقلاب الميزان وإلا كيف يقول أحدنا استحييت أن أنصح ذلك الشاب عندما كان يعاكس تلك الفتاة ؟! أليس هذا انقلابا في الميزان ؟!
ومن الجواب أن يقال الواجب أن يستحيي العبد من المعصية فيستتر ولا يجاهر بها لا أن يستحيي بالطاعة والتوبة، الواجب أن يستحيي من النقص والرذيلة لا من الكمال والفضيلة.
العائق العاشر : الاستحياء بالمعاصي السابقة
بعض الناس إذا سمع الكلام السابق يقول لكن أنا كنت من المجاهرين بالمعاصي، والناس كلهم يعرفونني بذلك ومع ندمي وتوبتي، فأنا أستحيي أن أجيء إلى المسجد وألبس القميص و ..و..
ونحن نقول لك الواجب أن لا تستحيي من الحق، ونرشدك إلى أن هذا من تثبيط الشيطان ليرجعك إلى معاصيك بعد أن تبت منها؛ فأنت لما كنت في المعصية لم يُذكِّرك بكلام الناس، ولما تُبت وأردت أن تلتزم بشعائر الدين جاءك-الشيطان- واعظا ومذكرا بالحياء.
تذكر أنك تعبد الله وأن الناس لن يغنوا عنك شيئا وتذكر أنك في قبرك تكون أنت وعملك فقط، وأن الله يزنك يوم القيامة بأعمالك ليس إلا وأن كل إنسان وهمُّه يومها .
وتذكر أن الله قَبِل توبة أناس كانوا يعبدون الأصنام وقتلوا أبناءهم، وحاربوا الإسلام وعذبوا المسلمين وأرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أتعلم أنه في جاهليته فعل كل ذلك؟(وأنت لم تفعل شيئا من ذلك!) فأسلم (ولم يمنعه الحياء من دخول الإسلام) ثم أصبح من خيار وكبار الصحابة، وأصبح عالما من علمائهم ثم خليفة المسلمين بعد أبي بكر، لا شك أنك تعرف وحشي أنه قتل أسد الله حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك تاب وأسلم ولم يمنعه الحياء من ذلك وأصبح من الصحابة.
العائق الحادي عشر : الاستحياء بسبب التوبة وبعض الناس يأتيه شيطانه فيصده عن التوبة فيقول له إنك تبت بسبب كذا وكذا وربما يكون الشيطان إنسيا يعيره بذلك .
والجواب: أنه لابد في التوبة من مناسبة وسبب، فهذا تاب لما نصح أو سمع موعظة، وهذا تاب لما مات والده أو صديقه، وهذا تاب لما دخل المقبرة، وهذا تاب بسبب الزلزال، وهذا تاب لما نجاه الله تعالى من حادث سيارة، فهذه وغيرها أسباب يهدي بها الله عباده ولا يهم في التوبة شرف السبب أو دناءته، والذي يهم هو الثبات والاستقامة وحسن الإسلام، فكثير من الصحابة أسلموا يوم الفتح لما تغلب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهل كان ذلك قادحا في إيمانهم؟ وبعض الصحابة أسلم لكي يتزوج من صحابية، ولم يكن ذلك قادحا فيه لأنه آمن واستمر على الهداية حتى مات على الإسلام وطريق الاستقامة.
العائق الثاني عشر: المن على الله عز وجل بعض الناس يتمسك ببعض الحجج الواهية في ترك الالتزام بالشعائر والاستقامة، وهذه الحجج قد نفهم منها أنه يمن على الله سبحانه (كأنه عندما يصلي يقدم خدمة لله الغني سبحانه) فهذا يقول أنه جاء يصلى فسرق حذاؤه، وذاك يزعم أن بعض المصلين المستقيمين نظر إليه نظرة معينة، وآخر يقول إنهم لا يسلمون علي، وقد يقول إن المسجد ضيق حار وليس فيه مكيفات، أو الإمام لا نفهم درسه أو صوته ليس حسنا …الخ.
وجواب هذا أن يقال أنت مكلف بعبادة الله تعالى (بلا منة منك) لأن الله عز وجل هو الذي خلقك ويملكك، ولست مخيرا في العبادة حتى تضع من تلقاء نفسك شروطا، (بل لو أمرك بالسجود على الشوك لفعلت). واعلم أنك تعبد الله سبحانه وأن الناس لن يغنوا عنك شيئا، فإن جعلت من هذه الترهات حجة تقنع بها نفسك فإنها لا تساوي عند الله شيئا.
وقد قال تعالى متوعدا من هذا حاله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
واعلم أيضا أن الله تعالى كما ابتلاك بالصلاة والعبادة شرعا لينظر أتصبر عليها أم لا ؟ فقد يبتليك بأمور أخرى قدرا (بالمصائب وأذى الناس) فيبتليك بسرقة الحذاء ونظرة الناس وحرارة المسجد، والمطلوب منك الصبر على البلاء كما أنك مطالب بالصبر على الطاعة.
ولنبين لك أن هذه الحجج واهية نقول لك لو سرقت في الحافلة فهل ستقاطعها ؟ وإذا سرقت في السوق فهل ستحرم نفسك من دخوله؟ وإذا آذاك بعض الناس في مكان عملك فهل ستترك عملك؟ لا شك أنك قد أيقنت أن هذه العوائق إنما هي من إملاءات الشيطان الذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم وأنها في الواقع ليست بشيء.
العائق الثالث عشر: اعتراض الأولياء من العوائق التي تعترض بعض الصغار –وربما الكبار أيضا- اعتراض أوليائهم على استقامتهم، وربما قد يكون الاعتراض من غيرهم من الأقارب أيضا.
وهنا نقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولو كان ذلك المخلوق هو أحد الوالدين المأمور ببرهما والإحسان إليهما، قال تعالى:" (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) (العنكبوت8).
ومن ابتلي فعلا بهذه المعارضة مطالب بأن يصبر على الطاعة، وأن يصبر على والديه أيضا، وأن يعتقد أن هذا من الامتحانات التي يمتحنه الله بها ليتبين أهو من الصادقين أم هو من المترددين؟ قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3)
ثم عليه أن يتأدب بأدب الإسلام معهما، فلا يقول لهما إلا خيرا ولا يعصيهما في المعروف ولا يتأفف ، بل عليه أن يحسن إليهما فوق ذلك، فإن فعل فإنه بصبره وثباته وأخلاقه يكون إن شاء الله سببا لهداية هؤلاء المعترضين .
ونقول لمن قد يرى الأمر صعبا وعظيما إنه مهما كان غضب الوالدين وأذاهما لك، فلن يبلغ مبلغ ما فعله كفار قريش بأبنائهم من تعذيب وتنكيل، فهم لن يربطوك في البيت ويحرموك من الأكل والشرب، ولن يخرجوك إلى الصحراء ليلتهمك حرها، ولن يجلدوك بالسوط حتى يدموك ولن …ولن …وإنما هو في الغالب اعتراض لفظي (وتجريب منهم لحظهما معك)، ثم ترجع الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، لذلك نؤكد على ضرورة التأدب معهما وإن كانا ينهيانك عن الالتزام بالشعائر والاستقامة على الشرائع.
العائق الرابع عشر : هل الاستقامة تمنع التمتع بشيء من الدنيا؟ بعض الناس لأسباب مختلفة (جهل بالشرع أو وسوسة شيطان أو سماع لكلام أعداء الدين) ربما يتوهم أنه عندما يتوب ويستقيم، ويصبح من رواد بيت الله تعالى أنه سيصبح راهبا أو ملاكا، حرام عليه الأكل والشرب والزواج، وحرام عليه أن يكسب المال والبيت الواسع والسيارة الخ.
ونحن نقول من قال هذا ؟ ومن أخبرك بهذا؟ اقرؤوا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعلموا أن هذا زيف وتشويه، وصد عن سبيل الله بالباطل، فقد ثبت أن بعض الصحابة لما سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم استقلوها (رأوها قليلة)؛ فقال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الثالث وأما أنا فلا أتزوج النساء، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب وأخرج المنبر وخطب في الناس وقال:" مَا بَالُ أَقْوامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"([13]). وقال الله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32) وقال تعالى مخبرا عمن نصح قارون الذي بغى وباع الدنيا بالآخرة: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77) فلم يُطلب منه ترك دنياه كلها وإنما أمره بعبادة الله تعالى.
ولما وعد النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص مالا فرد عمرو:" يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"([14]). وقال صلى الله عليه وسلم :"مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ"([15]). وبعد هذا نعود فنقول من أين جاءت تلك التصورات التي تصد الناس وتقنطهم من الالتزام بالشرع وتصعبه عليهم؟!
العائق الخامس عشر : التعلل بالشغل والعمل
ومن أعجب الاعتذارات التي يتمسك بها بعض المعرضين عن سلوك طريق الاستقامة ، احتجاجهم بأنهم عمال في معاملهم وليس لديهم الوقت ، سبحان الله وهل يظنون المستقيمين على الشرع بطالين؟ ألم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم أعمال ووظائف ؟ ألم تكن للصحابة رضي الله عنهم أشغالهم وأعمالهم؟ ألم تكن لهم تجارات ومزارع؟ إننا لم نسمع بهذا التعارض إلا في هذا الزمان الذي استولى فيه الشيطان على عقل الإنسان.
ثم نقول لمن يفكر هذا التفكير ما معنى قولك ليس عندي وقت ؟ إن الله تعالى لم يخلقك لتعمل وتأكل وتشرب ، وإنما خلقك وأعطاك الوقت لتعبده، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ثم إنه سبحانه أمر بخمس صلوات في اليوم والليلة قد يدوم مجموعها ساعة واحدة لا أكثر، وهذه العبادة التي تتكرر وجوبا كل يوم، فكيف بك تتجاهل غاية خلقك ؟ وتزعم أنه ليس لديك وقت .
وإننا نعلم أنك تضيع ربع يومك أو أكثر فيما لا ينفع من لهو ومشاهدة للتلفاز وكلام مع الأصحاب والأحباب، فهذه الأمور وغيرها قد وجدت لها وقتا وحق رب العالمين لم تجد له وقتا، وقد تمارس الرياضة وتجعل لها وقتا ولا يتعارض ذلك مع العمل والأشغال أما الصلاة ونحوها من أعمال الخير فتعارضها.
وأما إن كان المقصود أنه لا يمكنك أن تحافظ على الصلاة في المسجد جماعة لأجل العمل -والاستقامة أعم من الصلاة -، فيقال لك تَعذُّر الصلاة في الجماعة لا يسقطها ، والصلاة تقبل في كل موضع تؤدى فيه إلا المقبرة والحمام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ"([16]).
وهذا الفكر المعوج هو الذي يجعل بعض الناس يؤخر أمر الاستقامة على الشرع إلى التقاعد ، وهو لا يعلم أن الموت إذا جاء لا يتأخر كما لا يتقدم، وأنه إن مد الله في عمره إلى سن الشيخوخة فإنه لن يكون قادرا على كثير من الطاعات التي ينشط لها في شبابه كقيام الليل وحج بيت الله الحرام.
العائق السادس عشر : الخوف من البقاء على بعض المعاصي بعض الناس عنده أخلاق سيئة أو معاصي كثيرة لم يقو على تركها دفعة واحدة فيقول هو أو يقول له الشيطان:" إذا استقمت لابد أن تترك كل معاصيك، وإذا لم تتركها كلها فسوف يقولون عنك منافق، ومسلم مزور، أو سوف تشوه صورة المسلمين الملتزمين الخ".
والجواب : أننا جميعا لا نخلو من معاصي ظاهرة وباطنة والمطلوب منا أن نتوب وأن نجدد التوبة ، ومن جعل مثل هذا حجة في ترك الالتزام؛ كأن يقول لا أصلي حتى أدع الدخان أو حتى أدع الغناء فهذا قد لعب به الشيطان، ونخشى أن يأتيه يوما ما فيقول دع الصيام حتى تصلي وتدع الدخان، ويستدرجه حتى يخرجه من الإسلام .
-وكذلك ليعلم العبد أن فعل المحرمات كلها لا تعدل في الإثم ترك الصلاة لأن الصلاة عمود الإسلام وأحد أركانه، والرسول صلى الله عليه وسلم وصف تاركها بالكفر والعلماء مختلفون في خلوده في جهنم.
-والمسلم الذي عنده معاصي كثيرة منها ترك الصلاة نقول له ابدأ بالصلاة ثم جاهد نفسك لتقلع عن بقية المعاصي والله يعينك، وصلاتك إن خشعت فيها وأديتها في جماعة هي التي ستنهاك عن بقية المعاصي، وقد قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت45).
-ونقول أيضا إن الله تعالى مثل الإيمان في كتابه بالشجرة فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24) نحن نعلم أن الشجرة بعد غرسها لا تؤتي ثمارها في يومها، وإنما تحتاج إلى وقت وإلى سقي وتعهد فكذلك شجرة الإيمان إذا غرست في القلب فهي تحتاج إلى سقي بالعلم والطاعة، ثم تأتي الثمار ويصبح المسلم التائب يتخلى عن معاصيه شيئا فشيئا .
العائق السابع عشر : سوء أخلاق بعض المسلمين وهذا قد يكون أمرا فعليا وواقعا في نظر البعض، وقد يكون وهميا وهو الغالب، وإنما حكايات وأخبار يروجها أعداء الإسلام عن أهل الاستقامة وعن أهل الإسلام، تنفيرا منهم وصدا للناس عن دينهم.
ومع ذلك نحن نجيب عن هذا العائق بما سبق أن بيناه من أن المسلم مطالب بالالتزام بالشعائر والاستقامة؛ وإن كان فيه أخلاق سيئة أو بعض المعاصي، فإنه ليس من حق أي أحد أن يطرد أحدا، أو يقول له كن ملاكا وإلا ابتعد عنا، فالمسلمون المصلون منا ونحن منهم، ولا نتبرأ منهم وإن فعلوا بعض المعاصي لأجل كلمات هؤلاء المغرضين .
وفي الحديث:" كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"([17])، فلا يسلم من الأخطاء والمعاصي أحد، وخير الناس الذين يتوبون إلى الله تعالى من ذنوبهم وأخطائهم، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"([18]).
ثم نقول لمن سمع الذي يقول هذا الكلام (أن المسلمين فيهم وفيهم ) قل له: افرض أن كلامك هذا صحيح وقد يكون صحيحا .. لكن هل أمر الإسلام بهذه الأخلاق؟ لا شك أنك تعلم أنها ليست من الإسلام في شيء، ويقال لمن صده هذا الكلام اعزم أنت وتوكل على الله تعالى وكن المسلم المثالي.
وخير هذه الأمة على الإطلاق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا جميعا في رتبة واحدة من الإيمان، أو كلهم في منزلة أبي بكر وعمر مع أنهم كانوا جميعا ملتزمين بالشرع ومقيمين للصلاة فلم يكن يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق. فقد ثبت أن صحابيا شرب الخمر فعوقب مرارا فلعنه أحد الصحابة استعظاما لمعصيته فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم ودافع عن شارب الخمر، وقال إنه يحب الله رسوله([19]). كذلك زنت المرأة الغامدية وكانت متزوجة فجاءت معترفة بذنبها تائبة إلى الله تعالى فأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:" تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ "، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :" لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ "([20]). وتأملوا كيف دافع النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، وكيف أنه لم يقل لهم اذهبوا قد شوهتم صورة الإسلام أو الصحابة!! زيادة على ذلك نقول إننا ما سمعنا أن كافرا من كفار العرب استدل على بطلان الإسلام يومها بهذه الحوادث الشاذة!!
العائق الثامن عشر : الخوف من الانتكاس هناك من الناس من يجعل الخوف من الانتكاس وعدم الثبات عائقا يحول بينه وبين الاستقامة كالتي لا تلبس الحجاب خوفا من نزعه، ومن يقول لا أصلي لأني أخاف أن أتركها.
والجواب عن هذا أنه ورع إبليسي ، وأنه من استهزاء الشيطان ببعض الناس وهو أضعف شبهة وعائق على الإطلاق، ويجاب عنه أولا بضرب المثال؛ فهذا مثله مثل غريق في وسط أمواج قيل له اركب في سفينة فقال أخاف أن تتكسر السفينة، فآثر الغرق على محاولة النجاة بهذا الخوف الأحمق،(في حين أننا نعلم أن الغريق يتعلق بأي شيء من أجل النجاة)، وكذلك هذا العاصي هو في النار فقيل له اخرج منها وأنقذ نفسك فقال أخاف أن أقع في النار مرة أخرى!!!
ويقال لمن راوده هذا التفكير إن الخوف من الانتكاس شيء طيب وجميل لكن إذا كان بعد التوبة والاستقامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"([21])، وهو في هذه الحال أمر معقول لأنك كسبت شيئا أنت تخاف من ضياعه ، فيقال لصاحب هذه الحجة تب واستقم وابق خائفا من التراجع؛ فإن ذلك من وسائل ثباتك إن شاء الله تعالى .
وإن كان في الناس من يظن أن من يتوب ثم يضعف، ثم يتوب ثم يضعف هو منافق؛ فهذا خطأ كبير، بل الذي يخشى عليه من أن يطبع على قلبه هو الذي لا يتوب بإطلاق ، أما هذا الذي تتكرر منه التوبة والندم فمجاهد نعم إنه مجاهد يجاهد نفسه والشيطان، فمرة يَغلِب ومرة يُغلَب وهو دائما يصارع ولا ييأس، وهكذا ينبغي لمن بلي بالمعاصي، فإن قيل وهل يقبل الله تعالى توبة العبد بهذه الصورة ؟ قيل نعم إذا كانت شروطها متحققة كالندم والعزم على أن لا يعود مرة أخرى، وقد جاء في الحديث القدسي الصحيح أن العبد المذنب إذا تاب واستغفر يقول الله تعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب فقد غفرت له ، ثم يعود إلى الذنب (لضعف إيمان أو فتور أو غفلة) ثم يستفيق ويندم ويستغفر فيقول الله تعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب فقد غفرت له([22])، وهكذا يقول له مع التكرر لأنه علم أنه صادق في توبته وعزمه وعلم أنه يصارع نفسه وهواه والشيطان.
الخاتمة
وفي الختام فليعلم العبد المسلم أنه عبد مملوك لله تعالى ضعيف لا يقدر على شيء، وأنه لا مفرَّ من الله تعالى إلا إليه، قال تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50)، وليتذكر أن هذه الدار دار فانية وأنها مجرد جسر ومعبر للدار الآخرة الباقية، وليتذكر أن الدنيا مهما طالت فسوف تنتهي وكأنها ساعة أو بعض ساعة، وأن الآخرة دائمة ولا نهاية لها وأن يوم العرض والحساب فقط مقداره خمسون ألف سنة، وأن نعيم الآخرة الذي لا حد له ولا وصف له، سبب تحصيله هو الاستقامة على الشرع قال تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف43) وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[1]/ أحمد (1/402) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2470) وله شاهد عن سهل بن سعد عند أحمد (5/331) وهو صحيح أيضا .
[2]/ البخاري (6308) .
[3]/ البخاري (6477) مسلم (2988).
[4]/ البخاري (3318) مسلم (2619).
[5]/ الترمذي (3175) ابن ماجة (4198) وصححه الألباني.
[6]/ البخاري (553).
[7]/ مسلم (2759).
[8]/ الترمذي (3540) وصححه الألباني.
[9]/ قال تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) وقال : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (البقرة:185).
[10]/ مجموع الفتاوى (8/179).
[11]/ مجموع الفتاوى (8/107).
[12]/ مسلم (2823).
[13]/ البخاري (5063) مسلم (1401).
[14]/ أحمد (4/197) وصححه ابن حبان (3210).
[15]/ أحمد (3/407) وصححه الألباني.
[16]/ البخاري (335) مسلم (521).
[17]/ الترمذي (2499) ابن ماجة (4251) وحسنه الألباني.
[18]/ مسلم (2749).
[19]/ البخاري (6780).
[20]/ مسلم (1696).
[21]/ البخاري (16) مسلم (43).
[22]/ البخاري (5707) مسلم (2758).
أما بعد: فإن الاستقامة على شرع الله تعالى منزلة عظيمة من منازل الدين، وركيزة هامة من ركائز الإسلام يجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسعى لتحصيلها والثبات عليها، قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (الأحقاف:13).
ومع هذا الترغيب ومع أن الله تعالى قد فتح الباب لمن انحرف عن طريقه وسلك غير سبيله ليرجع إليه، وبشره بقبول التوبة والفرح بها ، فإن كثيرا من الناس يبقى مترددا، هو يريد أن يتوب وأن يكون من المستقيمين، ولكن ثمة بعض الشبهات تحجبه عن التوبة، وهناك عوائق تقف كالحاجز بينه وبين الاستقامة على الشرع، وهذه الشبهات والوساوس والعوائق تختلف من شخص إلى آخر وتتعدد وتتنوع، فرأيت أن أجمعها في جزء مع الجواب عنها، حتى يتشجع المسلمون المقصرون على التوبة ويحرصوا على الاستقامة والثبات عليها.
العائق الأول : الاعتماد على سعة رحمة الله تعالى
كثير من المبتلين ببعض المعاصي وبالانحراف عن منهج الله تعالى، إذا نُصح أو أراد أن يقلع عما هو عليه يأتيه شيطانه فيقول له : إن رحمة الله واسعة وإن الله غفور رحيم. فيثبطه ويبرد همته ويضعف إرادته اتكالا على رحمة الله تعالى وعلى عفوه ومغفرته.
والجواب أن هذا نوع من الغرور، فإن الله تعالى يقول: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف:56) فهل أنت من المحسنين بالإصرار على الذنوب؟ فهل أنت من المحسنين إن لم تكن من التوابين إلى الله تعالى؟ واسمع إلى قول الله تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:156) فمع أن رحمته واسعة لكنه سيخص بها المتقين، فهل أنت بتماديك في غيك منهم ؟
وعلينا أن نتذكر أن الله كما أنه التواب الرحيم كذلك هو العزيز الجبار القوي المقتدر، قال تعالى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ) (الحجر:49-50) .
ومثل هذا المتكل على رحمة الله دون عمل ودون توبة، كمثل من يضيع أمواله ويبذرها ويترك نفسه وعياله فقراء، فإذا نُصح وذُكِّر قال إن فضل الله تعالى واسع وهو الرزاق الكريم الوهاب، فهل هذا جواب عاقل !؟
أيها المسلم إنه إذا علمت سعة رحمة ربك ومغفرته، فالواجب عليك المسارعة إلى أسباب نيلها، وأن تترك المعاصي وتستحيي من الله أن تعود إلى مثلها.
العائق الثاني : احتقار الذنوب
بعض الناس يرى نفسه على خير ، ويأتيه الشيطان فيجعله يحتقر الذنوب التي يقترفها ، فيراها قليلة يسيرة هينة لا تستحق أن يتاب منها .
ونحن نقول قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم :"إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ"، قال ابن مسعود:"وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ فَيَجِيءُ بِالْعُودِ وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا فَأَجَّجُوا نَارًا وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا"([1]).
وقد قال بعض السلف:« لا تنظر إلى الذنب وانظر إلى من تعصي » ، انظر إلى عظمة الله تعالى وتأمل في إحسانه ونعمه، فإن الله أعظم وأجل من أن يستهان بمعاصيه . ومنه فمن علامة الإيمان تعظيم هذه الذنوب والمسارعة إلى الاستغفار والتوبة منها، قال ابن مسعود رضي الله عنه:"إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ فَقَالَ بِهِ هَكَذَا"([2]). وعلى العبد أن لا يحتقر الذنب مهما كان، فإن الذنب بالاستصغار والاحتقار يعظم عند الله تعالى، حتى قال العلماء :" لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار ".
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ والمغرب"([3])، فانظر عبد الله معصية واحدة، وقد تكون كلمة تطلق من غير تبين تهوي بصاحبها في أعماق جنهم، بل اسمع إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ"([4]). وتأمل هذا ، أوليس هذا العمل مما يحقره كثير من الناس؟!
العائق الثالث : الاغترار بالأعمال الصالحةويقول الشيطان لبعض الناس: أنت تصلي فلا مزيد، ولماذا تتوب؟ ومن ماذا تتوب؟ ويقول للآخر: ولماذا تصلي فأنت إنسان صالح لا تؤذي الجار وترحم الصغار، وتعين الفقراء وتحترم العلماء وقلبك سليم أبيض .
واحذر أيها المسلم من الاغترار ببعض طاعتك لله تعالى، فكم من طاعة أهلكت صاحبها إذا اغتر بها وفرح، قال تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف:99). وما يدريك أن عملك هذا مقبول عند الله تعالى، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) سألت عائشة رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ قَالَ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ([5]). وقال فضالة بن عبيد رضي الله عنه:"لأن أكون أعلم من الله قد تقبل مني مثقال حبة خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها لأن الله تعالى يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة:27)".
وتذكر أن من المعاصي ما هو محبط للعمل الصالح ، كترك صلاة العصر وإخراجها عن وقتها، قَالَ النبي صلى الله عليه وسلم:" مَنْ تَرَكَ صَلَاةَ الْعَصْرِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ"([6]). ومنه فلا صلاح لمن ترك الصلاة ولا يمكن أن يكون قلبه أبيض كما يزعمه الشيطان.
العائق الرابع : اليأس من رحمة الله تعالى
وأناس آخرون يدخل عليهم الشيطان من جهة أخرى، من جهة اليأس من رَوح الله ، فيقول له أنت فعلت وفعلت فكيف يغفر الله لك؟ يعظم في نفسه الذنب ليصده عن الاستقامة وعن التوبة .
والجواب: أن اليأس من رحمة الله حرام وسوء ظن بالله تعالى قال تعالى: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ( (يوسف:87) واسمع إلى نداء الرحمن إلى العباد الغارقين في العصيان: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (الزمر:53) . نعم إنه يغفر الذنوب جميعا بما فيها الشرك والكفر إذا تاب العبد إليه وأناب.
وقَالَ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا"([7])، وقد غفر الله تعالى لمن كان مشركا يقاتل المسلمين كسيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه ، وغفر لمن قتل مائة نفس وتاب ولم يعمل خيرا قط، ورحمته سبحانه أوسع من أن تضيق عن ذنوب بني آدم مهما كثرت، قال تعالى في الحديث القدسي :"يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ وَلَا أُبَالِي يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً"([8]) .
العائق الخامس : التعلل بالهداية ومما يتعلل به البعض عندما يُنصح بالتوبة والاستقامة أن يقول:"أتوب عندما يهديني الله تعالى"!!.
وهذا خطأ جسيم وظلم عظيم في حق الرب الحكيم جل جلاله، لأن الله تعالى قد هدانا وبين لنا السبيل، وإلا كيف نتوقع أن يعاقب أهل الكفر وأهل المعاصي وهو لم يقم عليهم الحجة بالهداية؟ والله تعالى هدى الناس بالفطرة التي هي الميل إلى الحق والإسلام، وبالعقل المميز بين الخير والشر وبين الحسن والقبيح، وبالرسل الذي أرسل للناس ، وهداهم بالكتب المنزلة والآيات المتلوة، وهداهم بالآيات المشهودة في الكون، وبحملة هذا الدين ورثة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، ثم أنت أيها المحتج قد فضلك الله فجعلك من أمة خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، فأي هداية أعظم من أن تولد بين المسلمين؟! وأنت أيها المحتج! قد هداك الله بنصيحة هذا الناصح، إذن فقد هداك الله بطرق كثيرة؛ الهداية التي يسميها العلماء هداية البيان والدلالة والتي بها تقوم عليك الحجة وينقطع عذرك عند الله تعالى.
ومن كان يريد هداية التوفيق والتثبيت وتزيين الإيمان في القلوب؛ مثل ما هدى الله أنبياءه وخيار عباده، فنقول له إن هذه الهداية منحة وجائزة لا ينالها كل أحد، ولكن ينالها من استجاب لنداء الله عز وجل واستقام واتبع الهداية الأولى، كما قال تعالى: (وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (مريم76). ولكي نزيد هذا المعنى وضوحا نقول: هل القرآن هدى للناس جميعا أم هدى للمتقين فقط؟ كلاهما وصف به القرآن([9]) وكلاهما صحيح، فالقرآن كتاب هداية للناس جميعا للمسلم والكافر يعني أن من قرأه وفهمه تقوم عليه الحجة ويعرف الخير من الشر ويتبين له الحق من الباطل، ثم يؤمن به طائفة من الناس فيبحثون عن معانيه ويجتهدون في العمل بأحكامه فيزدادون هداية وهذه الهداية الزائدة خاصة بالمتقين، فمن أراد هذا النوع من الهداية فعليه أولا أن يخلص في التوبة والرجوع إلى الله تعالى.
العائق السادس : الاحتجاج بالقدر وربما يقول بعضهم إن الله قدر لي أن أكون عاصيا غير تائب، منحرفا غير مستقيم ، وهذا هو الاحتجاج بالقدر على الذنوب والمعاصي.
وهذا غير جائز بل سوء اعتقاد في الله تعالى، وإنّ قَدَرَ الله تعالى أمر غيبي لا نعلمه إلا بعد وقوع الأعمال والأقوال، فكيف يكون حجة عليها؟ وكما يحتج العاصي على معصيته يحتج الكافر على كفره، فيبطل الدين والتكليف وينسب رب العزة جل جلاله إلى الظلم وإلى العبث، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:"وليس لأحد أن يحتج بالقدر على الذنب باتفاق المسلمين وسائر أهل الملل وسائر العقلاء، فإن هذا لو كان مقبولا؛ لأمكن كل أحد أن يفعل ما يخطر له من قتل النفوس وأخذ الأموال وسائر أنواع الفساد ويحتج بالقدر. ونفس المحتج بالقدر إذا اعتدي عليه ، واحتج المعتدي بالقدر لم يقبل منه ويتناقض، وتناقض القول يدل على فساده ، فالاحتجاج بالقدر معلوم الفساد في بداية العقول"([10]).
ويقال لمن يقول إذا قدر لي ربي التوبة فسأتوب وإلا فلا معنى للتوبة:"إذن إذا مرضت فلا تشرب الدواء، فإن الله إذا قدر لك الشفاء فسوف تشفى وإلا فلن ينفعك الدواء، وإن هاجمك سبع فلا تفر فإنه إن قدر لك النجاة ستنجو وإلا لم ينفعك الفرار، بل إذا أردت أن يرزقك الله الولد فلا تتزوج، فإن الله إن قدر رزقك بالأولاد فسوف يأتونك".
وهذا الكلام في حقيقة الأمر من وسوسة الشيطان، بل هو سنة سنها إبليس حين قال : (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) (الأعراف:16)، وهو دليل بعض المشركين كما أخبر ربنا سبحانه: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام:148)، لذلك قال ابن تيمية:" هؤلاء القوم إذا أصروا على هذا الاعتقاد كانوا أكفر من اليهود والنصارى"([11]).
العائق السابع : بعض الناس يقول الالتزام صعب !
فنقول له ماذا تعني بالالتزام؟
1-إن كنت تعنى الانقياد الكلي (الذي هو ركن في الإسلام) فهذا إعلان للكفر والعياذ بالله، والتفريق الذي يتردد على ألسنة كثير من الناس هذا مسلم ملتزم وهذا غير ملتزم، تفريق غير مقبول في الإسلام ومصدره النصرانية الضالة ، لأن ديننا قول وعمل، ولا يكفي فيه مجرد القول أو التمني.
2-وإن كنت تعني الالتزام بالصلاة والمحافظة عليها، فهذه مغالطة لأن الله تعالى يقول : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج ) (الحج 78) وهو قدح في حكمة المولى عز وجل في التكليف لأن الله تعالى يقول : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة286)، ومن أراد أن يتأكد من رحمة الله تعالى بنا وأنه لم يكلفنا بشيء صعب علينا فلينظر إلى ما كلف به الملائكة، إذ منهم من هو ساجد من يوم أن خلقه الله عز وجل، ومنهم من هو راكع ومنهم القائم، ومنهم المسبح وهكذا عبادة واحدة دائمة. فهل بعد هذا نصدق من يقول إن الالتزام صعب؟
ثم إننا نقول إن للعبادة لذة يجدها من يألفها ويداوم عليها، نعم إن للطاعة طعم وحلاوة وتورث في القلب فرحا وسرورا وانشراحا، كما أن للمعصية طعما ولذة إلا أنها لذة زائلة سرعان ما تورث صاحبها حزنا وكآبة وظلمة في القلب وضيقا في الصدر.
3-وإن كنت تعني الالتزام بالصلاة في المسجد، فهذا أيضا مغالطة لأن الالتزام بالصلاة في المساجد في هذه الأيام يعد أكثر من ضرورة لأنه لا ثبات للعبد من دون ذلك، فالعبادة في المسجد، العلم في المسجد، والصالحون في المسجد. وفي خارج المسجد لا تجد إلا ما يدعوك إلى الغفلة أو المعصية، ولتعلم أن الصحابة رضي الله عنهم أول الأمر لما كان الإسلام في المدينة فقط فرض الله تعالى عليهم الهجرة من ديارهم ومن أرض الكفر إلى المدينة أرض الإسلام ليحافظوا على دينهم، فكان ربما خرج الواحد منهم حافيا عاريا مهاجرا إلى الله ورسوله، فهل هجرتهم أصعب أم هجرتك للشارع والملعب؟
4-وإن كنت تعني بقولك هو صعب أن الالتزام فيه جهد، فهذا حق والله تعالى يقول : (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69) أي الذي جاهدوا هواهم والشيطان، ثم إنه لا يوجد شيء ينال بغير جهد، الخبز لابد له من جهد وكل شيء لابد له من جهد! حتى المعاصي الناس تنالها بالجهد! وإذا كنت ترى في التنقل إلى المسجد جهدا وفي الصلاة جهدا فلِمَ لا ترى إلى الجهد الذي يبذله المتنقل إلى الملاعب البعيدة، وفي ذلك الصراخ والصياح أليس ذلك صعبا وفيه جهد أيضا؟ ولتعلم أن سلعة الله غالية ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ"([12]).
العائق الثامن : ضعف الإرادة مع طول الأمل من الناس من يفكر في الاستقامة ويتمنى أن يستقيم، ويحسد الناس المستقيمين على ما هم عليه من خير، لكنه لا يتحرك ولا يتقدم، وما ذلك إلا لضعف إرادته من جهة، ولتغلب الشيطان عليه من جهة أخرى ؛ إذ غره بالتسويف وتطويل الأمل، إذ منهم من يقول غدا أتوب، ومنهم من يقول الجمعة المقبل، أو إذا جاء رمضان وهكذا …
وعلاج هذا الضعف وهذا التغرير أن يتذكر العبد أن الموت يترصد له وينتظره، وإذا أخذه أخذه بغتة وعلى حين غفلة، وأنه إذا جاء فكما أنه لا يتقدم فإنه لا يتأخر، وأن يتذكر أنه ليس كل الناس يموت في سن متقدمة وعن عمر طويل، ولا كل الناس يموت في الفراش بين أهله، قال الله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون99-100)
يا من بدنياه اشتغل وقد غره طول الأمل
الموت يأتي بغتــة والقبر صندوق العمل
وليعلم العبد أن مجرد نية التوبة دون تحقيق لها ، لا تنفعه ولا تشفع له وأن العبرة بالعمل وبحسن الخاتمة.
العائق التاسع : الخجل بالطاعة هو ما يسميه بعضهم حياء، وهو في الحقيقة تلبيس شيطاني وضعف في الإرادة (وفي الشخصية) ودنو في الهمة والإيمان، لأن الحياء شعبة من شعب الإيمان، وهو كله خير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وأعظم الحياء: الحياء من الله عز وجل فمِن أوَّل صفة الحيي أن يستحيي من ربه فلا يعصيه ، وإذا عصاه سارع إلى الاعتذار، وليس من صفته أنه يعصيه ويفرط في طاعته ثم يحتج بالحياء؛ فهذا يقول أستحيي أن أصلي في المسجد وهذا يستحيي أن يلبس القميص للصلاة أو أن ألبس سروالا فوق الكعبين، وذاك يستحيي أن يعفي لحيته وهكذا، وربما يلعب الشيطان بأحدنا حتى يترك الدين كله حياء ولا أدري هو حياء ممن؟ في المقابل المتبرجة التي تكشف بعض عورتها لا تستحيي، والمدخن لا يستحيي، ومن يشرب الخمر لا يستحيي، ومن يترك الصلاة لا يستحيي. إن هذا الذي نعيشه من انقلاب الميزان وإلا كيف يقول أحدنا استحييت أن أنصح ذلك الشاب عندما كان يعاكس تلك الفتاة ؟! أليس هذا انقلابا في الميزان ؟!
ومن الجواب أن يقال الواجب أن يستحيي العبد من المعصية فيستتر ولا يجاهر بها لا أن يستحيي بالطاعة والتوبة، الواجب أن يستحيي من النقص والرذيلة لا من الكمال والفضيلة.
العائق العاشر : الاستحياء بالمعاصي السابقة
بعض الناس إذا سمع الكلام السابق يقول لكن أنا كنت من المجاهرين بالمعاصي، والناس كلهم يعرفونني بذلك ومع ندمي وتوبتي، فأنا أستحيي أن أجيء إلى المسجد وألبس القميص و ..و..
ونحن نقول لك الواجب أن لا تستحيي من الحق، ونرشدك إلى أن هذا من تثبيط الشيطان ليرجعك إلى معاصيك بعد أن تبت منها؛ فأنت لما كنت في المعصية لم يُذكِّرك بكلام الناس، ولما تُبت وأردت أن تلتزم بشعائر الدين جاءك-الشيطان- واعظا ومذكرا بالحياء.
تذكر أنك تعبد الله وأن الناس لن يغنوا عنك شيئا وتذكر أنك في قبرك تكون أنت وعملك فقط، وأن الله يزنك يوم القيامة بأعمالك ليس إلا وأن كل إنسان وهمُّه يومها .
وتذكر أن الله قَبِل توبة أناس كانوا يعبدون الأصنام وقتلوا أبناءهم، وحاربوا الإسلام وعذبوا المسلمين وأرادوا قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، مثل الصحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أتعلم أنه في جاهليته فعل كل ذلك؟(وأنت لم تفعل شيئا من ذلك!) فأسلم (ولم يمنعه الحياء من دخول الإسلام) ثم أصبح من خيار وكبار الصحابة، وأصبح عالما من علمائهم ثم خليفة المسلمين بعد أبي بكر، لا شك أنك تعرف وحشي أنه قتل أسد الله حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك تاب وأسلم ولم يمنعه الحياء من ذلك وأصبح من الصحابة.
العائق الحادي عشر : الاستحياء بسبب التوبة وبعض الناس يأتيه شيطانه فيصده عن التوبة فيقول له إنك تبت بسبب كذا وكذا وربما يكون الشيطان إنسيا يعيره بذلك .
والجواب: أنه لابد في التوبة من مناسبة وسبب، فهذا تاب لما نصح أو سمع موعظة، وهذا تاب لما مات والده أو صديقه، وهذا تاب لما دخل المقبرة، وهذا تاب بسبب الزلزال، وهذا تاب لما نجاه الله تعالى من حادث سيارة، فهذه وغيرها أسباب يهدي بها الله عباده ولا يهم في التوبة شرف السبب أو دناءته، والذي يهم هو الثبات والاستقامة وحسن الإسلام، فكثير من الصحابة أسلموا يوم الفتح لما تغلب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فهل كان ذلك قادحا في إيمانهم؟ وبعض الصحابة أسلم لكي يتزوج من صحابية، ولم يكن ذلك قادحا فيه لأنه آمن واستمر على الهداية حتى مات على الإسلام وطريق الاستقامة.
العائق الثاني عشر: المن على الله عز وجل بعض الناس يتمسك ببعض الحجج الواهية في ترك الالتزام بالشعائر والاستقامة، وهذه الحجج قد نفهم منها أنه يمن على الله سبحانه (كأنه عندما يصلي يقدم خدمة لله الغني سبحانه) فهذا يقول أنه جاء يصلى فسرق حذاؤه، وذاك يزعم أن بعض المصلين المستقيمين نظر إليه نظرة معينة، وآخر يقول إنهم لا يسلمون علي، وقد يقول إن المسجد ضيق حار وليس فيه مكيفات، أو الإمام لا نفهم درسه أو صوته ليس حسنا …الخ.
وجواب هذا أن يقال أنت مكلف بعبادة الله تعالى (بلا منة منك) لأن الله عز وجل هو الذي خلقك ويملكك، ولست مخيرا في العبادة حتى تضع من تلقاء نفسك شروطا، (بل لو أمرك بالسجود على الشوك لفعلت). واعلم أنك تعبد الله سبحانه وأن الناس لن يغنوا عنك شيئا، فإن جعلت من هذه الترهات حجة تقنع بها نفسك فإنها لا تساوي عند الله شيئا.
وقد قال تعالى متوعدا من هذا حاله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ) (الحج:11).
واعلم أيضا أن الله تعالى كما ابتلاك بالصلاة والعبادة شرعا لينظر أتصبر عليها أم لا ؟ فقد يبتليك بأمور أخرى قدرا (بالمصائب وأذى الناس) فيبتليك بسرقة الحذاء ونظرة الناس وحرارة المسجد، والمطلوب منك الصبر على البلاء كما أنك مطالب بالصبر على الطاعة.
ولنبين لك أن هذه الحجج واهية نقول لك لو سرقت في الحافلة فهل ستقاطعها ؟ وإذا سرقت في السوق فهل ستحرم نفسك من دخوله؟ وإذا آذاك بعض الناس في مكان عملك فهل ستترك عملك؟ لا شك أنك قد أيقنت أن هذه العوائق إنما هي من إملاءات الشيطان الذي يجرى من ابن آدم مجرى الدم وأنها في الواقع ليست بشيء.
العائق الثالث عشر: اعتراض الأولياء من العوائق التي تعترض بعض الصغار –وربما الكبار أيضا- اعتراض أوليائهم على استقامتهم، وربما قد يكون الاعتراض من غيرهم من الأقارب أيضا.
وهنا نقول لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، ولو كان ذلك المخلوق هو أحد الوالدين المأمور ببرهما والإحسان إليهما، قال تعالى:" (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا) (العنكبوت8).
ومن ابتلي فعلا بهذه المعارضة مطالب بأن يصبر على الطاعة، وأن يصبر على والديه أيضا، وأن يعتقد أن هذا من الامتحانات التي يمتحنه الله بها ليتبين أهو من الصادقين أم هو من المترددين؟ قال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت:2-3)
ثم عليه أن يتأدب بأدب الإسلام معهما، فلا يقول لهما إلا خيرا ولا يعصيهما في المعروف ولا يتأفف ، بل عليه أن يحسن إليهما فوق ذلك، فإن فعل فإنه بصبره وثباته وأخلاقه يكون إن شاء الله سببا لهداية هؤلاء المعترضين .
ونقول لمن قد يرى الأمر صعبا وعظيما إنه مهما كان غضب الوالدين وأذاهما لك، فلن يبلغ مبلغ ما فعله كفار قريش بأبنائهم من تعذيب وتنكيل، فهم لن يربطوك في البيت ويحرموك من الأكل والشرب، ولن يخرجوك إلى الصحراء ليلتهمك حرها، ولن يجلدوك بالسوط حتى يدموك ولن …ولن …وإنما هو في الغالب اعتراض لفظي (وتجريب منهم لحظهما معك)، ثم ترجع الأمور إلى ما كانت عليه من قبل، لذلك نؤكد على ضرورة التأدب معهما وإن كانا ينهيانك عن الالتزام بالشعائر والاستقامة على الشرائع.
العائق الرابع عشر : هل الاستقامة تمنع التمتع بشيء من الدنيا؟ بعض الناس لأسباب مختلفة (جهل بالشرع أو وسوسة شيطان أو سماع لكلام أعداء الدين) ربما يتوهم أنه عندما يتوب ويستقيم، ويصبح من رواد بيت الله تعالى أنه سيصبح راهبا أو ملاكا، حرام عليه الأكل والشرب والزواج، وحرام عليه أن يكسب المال والبيت الواسع والسيارة الخ.
ونحن نقول من قال هذا ؟ ومن أخبرك بهذا؟ اقرؤوا كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعلموا أن هذا زيف وتشويه، وصد عن سبيل الله بالباطل، فقد ثبت أن بعض الصحابة لما سألوا عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم استقلوها (رأوها قليلة)؛ فقال أحدهم أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر أما أنا فأقوم ولا أنام، وقال الثالث وأما أنا فلا أتزوج النساء، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم غضب وأخرج المنبر وخطب في الناس وقال:" مَا بَالُ أَقْوامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"([13]). وقال الله تعالى : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (الأعراف:32) وقال تعالى مخبرا عمن نصح قارون الذي بغى وباع الدنيا بالآخرة: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) (القصص:77) فلم يُطلب منه ترك دنياه كلها وإنما أمره بعبادة الله تعالى.
ولما وعد النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص مالا فرد عمرو:" يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَسْلَمْتُ مِنْ أَجْلِ الْمَالِ وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَنْ أَكُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:« يَا عَمْرُو نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"([14]). وقال صلى الله عليه وسلم :"مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْجَارُ الصَّالِحُ وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ"([15]). وبعد هذا نعود فنقول من أين جاءت تلك التصورات التي تصد الناس وتقنطهم من الالتزام بالشرع وتصعبه عليهم؟!
العائق الخامس عشر : التعلل بالشغل والعمل
ومن أعجب الاعتذارات التي يتمسك بها بعض المعرضين عن سلوك طريق الاستقامة ، احتجاجهم بأنهم عمال في معاملهم وليس لديهم الوقت ، سبحان الله وهل يظنون المستقيمين على الشرع بطالين؟ ألم تكن للنبي صلى الله عليه وسلم أعمال ووظائف ؟ ألم تكن للصحابة رضي الله عنهم أشغالهم وأعمالهم؟ ألم تكن لهم تجارات ومزارع؟ إننا لم نسمع بهذا التعارض إلا في هذا الزمان الذي استولى فيه الشيطان على عقل الإنسان.
ثم نقول لمن يفكر هذا التفكير ما معنى قولك ليس عندي وقت ؟ إن الله تعالى لم يخلقك لتعمل وتأكل وتشرب ، وإنما خلقك وأعطاك الوقت لتعبده، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ثم إنه سبحانه أمر بخمس صلوات في اليوم والليلة قد يدوم مجموعها ساعة واحدة لا أكثر، وهذه العبادة التي تتكرر وجوبا كل يوم، فكيف بك تتجاهل غاية خلقك ؟ وتزعم أنه ليس لديك وقت .
وإننا نعلم أنك تضيع ربع يومك أو أكثر فيما لا ينفع من لهو ومشاهدة للتلفاز وكلام مع الأصحاب والأحباب، فهذه الأمور وغيرها قد وجدت لها وقتا وحق رب العالمين لم تجد له وقتا، وقد تمارس الرياضة وتجعل لها وقتا ولا يتعارض ذلك مع العمل والأشغال أما الصلاة ونحوها من أعمال الخير فتعارضها.
وأما إن كان المقصود أنه لا يمكنك أن تحافظ على الصلاة في المسجد جماعة لأجل العمل -والاستقامة أعم من الصلاة -، فيقال لك تَعذُّر الصلاة في الجماعة لا يسقطها ، والصلاة تقبل في كل موضع تؤدى فيه إلا المقبرة والحمام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ"([16]).
وهذا الفكر المعوج هو الذي يجعل بعض الناس يؤخر أمر الاستقامة على الشرع إلى التقاعد ، وهو لا يعلم أن الموت إذا جاء لا يتأخر كما لا يتقدم، وأنه إن مد الله في عمره إلى سن الشيخوخة فإنه لن يكون قادرا على كثير من الطاعات التي ينشط لها في شبابه كقيام الليل وحج بيت الله الحرام.
العائق السادس عشر : الخوف من البقاء على بعض المعاصي بعض الناس عنده أخلاق سيئة أو معاصي كثيرة لم يقو على تركها دفعة واحدة فيقول هو أو يقول له الشيطان:" إذا استقمت لابد أن تترك كل معاصيك، وإذا لم تتركها كلها فسوف يقولون عنك منافق، ومسلم مزور، أو سوف تشوه صورة المسلمين الملتزمين الخ".
والجواب : أننا جميعا لا نخلو من معاصي ظاهرة وباطنة والمطلوب منا أن نتوب وأن نجدد التوبة ، ومن جعل مثل هذا حجة في ترك الالتزام؛ كأن يقول لا أصلي حتى أدع الدخان أو حتى أدع الغناء فهذا قد لعب به الشيطان، ونخشى أن يأتيه يوما ما فيقول دع الصيام حتى تصلي وتدع الدخان، ويستدرجه حتى يخرجه من الإسلام .
-وكذلك ليعلم العبد أن فعل المحرمات كلها لا تعدل في الإثم ترك الصلاة لأن الصلاة عمود الإسلام وأحد أركانه، والرسول صلى الله عليه وسلم وصف تاركها بالكفر والعلماء مختلفون في خلوده في جهنم.
-والمسلم الذي عنده معاصي كثيرة منها ترك الصلاة نقول له ابدأ بالصلاة ثم جاهد نفسك لتقلع عن بقية المعاصي والله يعينك، وصلاتك إن خشعت فيها وأديتها في جماعة هي التي ستنهاك عن بقية المعاصي، وقد قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) (العنكبوت45).
-ونقول أيضا إن الله تعالى مثل الإيمان في كتابه بالشجرة فقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ) (إبراهيم:24) نحن نعلم أن الشجرة بعد غرسها لا تؤتي ثمارها في يومها، وإنما تحتاج إلى وقت وإلى سقي وتعهد فكذلك شجرة الإيمان إذا غرست في القلب فهي تحتاج إلى سقي بالعلم والطاعة، ثم تأتي الثمار ويصبح المسلم التائب يتخلى عن معاصيه شيئا فشيئا .
العائق السابع عشر : سوء أخلاق بعض المسلمين وهذا قد يكون أمرا فعليا وواقعا في نظر البعض، وقد يكون وهميا وهو الغالب، وإنما حكايات وأخبار يروجها أعداء الإسلام عن أهل الاستقامة وعن أهل الإسلام، تنفيرا منهم وصدا للناس عن دينهم.
ومع ذلك نحن نجيب عن هذا العائق بما سبق أن بيناه من أن المسلم مطالب بالالتزام بالشعائر والاستقامة؛ وإن كان فيه أخلاق سيئة أو بعض المعاصي، فإنه ليس من حق أي أحد أن يطرد أحدا، أو يقول له كن ملاكا وإلا ابتعد عنا، فالمسلمون المصلون منا ونحن منهم، ولا نتبرأ منهم وإن فعلوا بعض المعاصي لأجل كلمات هؤلاء المغرضين .
وفي الحديث:" كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ"([17])، فلا يسلم من الأخطاء والمعاصي أحد، وخير الناس الذين يتوبون إلى الله تعالى من ذنوبهم وأخطائهم، بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ"([18]).
ثم نقول لمن سمع الذي يقول هذا الكلام (أن المسلمين فيهم وفيهم ) قل له: افرض أن كلامك هذا صحيح وقد يكون صحيحا .. لكن هل أمر الإسلام بهذه الأخلاق؟ لا شك أنك تعلم أنها ليست من الإسلام في شيء، ويقال لمن صده هذا الكلام اعزم أنت وتوكل على الله تعالى وكن المسلم المثالي.
وخير هذه الأمة على الإطلاق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يكونوا جميعا في رتبة واحدة من الإيمان، أو كلهم في منزلة أبي بكر وعمر مع أنهم كانوا جميعا ملتزمين بالشرع ومقيمين للصلاة فلم يكن يتخلف عن الصلاة إلا منافق معلوم النفاق. فقد ثبت أن صحابيا شرب الخمر فعوقب مرارا فلعنه أحد الصحابة استعظاما لمعصيته فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم ودافع عن شارب الخمر، وقال إنه يحب الله رسوله([19]). كذلك زنت المرأة الغامدية وكانت متزوجة فجاءت معترفة بذنبها تائبة إلى الله تعالى فأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:" تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَقَدْ زَنَتْ "، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم :" لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ "([20]). وتأملوا كيف دافع النبي صلى الله عليه وسلم عنهم، وكيف أنه لم يقل لهم اذهبوا قد شوهتم صورة الإسلام أو الصحابة!! زيادة على ذلك نقول إننا ما سمعنا أن كافرا من كفار العرب استدل على بطلان الإسلام يومها بهذه الحوادث الشاذة!!
العائق الثامن عشر : الخوف من الانتكاس هناك من الناس من يجعل الخوف من الانتكاس وعدم الثبات عائقا يحول بينه وبين الاستقامة كالتي لا تلبس الحجاب خوفا من نزعه، ومن يقول لا أصلي لأني أخاف أن أتركها.
والجواب عن هذا أنه ورع إبليسي ، وأنه من استهزاء الشيطان ببعض الناس وهو أضعف شبهة وعائق على الإطلاق، ويجاب عنه أولا بضرب المثال؛ فهذا مثله مثل غريق في وسط أمواج قيل له اركب في سفينة فقال أخاف أن تتكسر السفينة، فآثر الغرق على محاولة النجاة بهذا الخوف الأحمق،(في حين أننا نعلم أن الغريق يتعلق بأي شيء من أجل النجاة)، وكذلك هذا العاصي هو في النار فقيل له اخرج منها وأنقذ نفسك فقال أخاف أن أقع في النار مرة أخرى!!!
ويقال لمن راوده هذا التفكير إن الخوف من الانتكاس شيء طيب وجميل لكن إذا كان بعد التوبة والاستقامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ"([21])، وهو في هذه الحال أمر معقول لأنك كسبت شيئا أنت تخاف من ضياعه ، فيقال لصاحب هذه الحجة تب واستقم وابق خائفا من التراجع؛ فإن ذلك من وسائل ثباتك إن شاء الله تعالى .
وإن كان في الناس من يظن أن من يتوب ثم يضعف، ثم يتوب ثم يضعف هو منافق؛ فهذا خطأ كبير، بل الذي يخشى عليه من أن يطبع على قلبه هو الذي لا يتوب بإطلاق ، أما هذا الذي تتكرر منه التوبة والندم فمجاهد نعم إنه مجاهد يجاهد نفسه والشيطان، فمرة يَغلِب ومرة يُغلَب وهو دائما يصارع ولا ييأس، وهكذا ينبغي لمن بلي بالمعاصي، فإن قيل وهل يقبل الله تعالى توبة العبد بهذه الصورة ؟ قيل نعم إذا كانت شروطها متحققة كالندم والعزم على أن لا يعود مرة أخرى، وقد جاء في الحديث القدسي الصحيح أن العبد المذنب إذا تاب واستغفر يقول الله تعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب فقد غفرت له ، ثم يعود إلى الذنب (لضعف إيمان أو فتور أو غفلة) ثم يستفيق ويندم ويستغفر فيقول الله تعالى علم عبدي أن له ربا يغفر الذنوب فقد غفرت له([22])، وهكذا يقول له مع التكرر لأنه علم أنه صادق في توبته وعزمه وعلم أنه يصارع نفسه وهواه والشيطان.
الخاتمة
وفي الختام فليعلم العبد المسلم أنه عبد مملوك لله تعالى ضعيف لا يقدر على شيء، وأنه لا مفرَّ من الله تعالى إلا إليه، قال تعالى : (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذريات:50)، وليتذكر أن هذه الدار دار فانية وأنها مجرد جسر ومعبر للدار الآخرة الباقية، وليتذكر أن الدنيا مهما طالت فسوف تنتهي وكأنها ساعة أو بعض ساعة، وأن الآخرة دائمة ولا نهاية لها وأن يوم العرض والحساب فقط مقداره خمسون ألف سنة، وأن نعيم الآخرة الذي لا حد له ولا وصف له، سبب تحصيله هو الاستقامة على الشرع قال تعالى : (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الأعراف43) وقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) (فصلت:30) وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
[1]/ أحمد (1/402) وصححه الألباني في صحيح الترغيب (2470) وله شاهد عن سهل بن سعد عند أحمد (5/331) وهو صحيح أيضا .
[2]/ البخاري (6308) .
[3]/ البخاري (6477) مسلم (2988).
[4]/ البخاري (3318) مسلم (2619).
[5]/ الترمذي (3175) ابن ماجة (4198) وصححه الألباني.
[6]/ البخاري (553).
[7]/ مسلم (2759).
[8]/ الترمذي (3540) وصححه الألباني.
[9]/ قال تعالى : (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2) وقال : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (البقرة:185).
[10]/ مجموع الفتاوى (8/179).
[11]/ مجموع الفتاوى (8/107).
[12]/ مسلم (2823).
[13]/ البخاري (5063) مسلم (1401).
[14]/ أحمد (4/197) وصححه ابن حبان (3210).
[15]/ أحمد (3/407) وصححه الألباني.
[16]/ البخاري (335) مسلم (521).
[17]/ الترمذي (2499) ابن ماجة (4251) وحسنه الألباني.
[18]/ مسلم (2749).
[19]/ البخاري (6780).
[20]/ مسلم (1696).
[21]/ البخاري (16) مسلم (43).
[22]/ البخاري (5707) مسلم (2758).
الرد على شبهة من يقول : إذا هداني الله فسأصلي
السؤال
يقول السائل: ما رأيك فيمن نقول له: صلِّ أو تُب إلى الله، ويقول: إذا الله هداني صليت؟
الجواب
كما قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] إذا أراد الله أن يهدينا فليهدنا، أراد الله أن نسجد للصنم فنسجد للصنم، وهذه عقيدة تسمى عقيدة الجبرية، وهي عقيدة ضالة ليست من عقائد أهل السنة.
أهل السنة كما قال الله جل وعلا فيهم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] ابدأ يا عبد الله، لا تقل: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، أسألك بالله الآن سؤالاً: أنت لِمَ تأتي إلى هذا المكان وتلبس هذا الزي وتحضر الدوام لِمَه؟ لأجل المعاش والراتب، لِمَ لا تجلس في البيت وتقول: إذا أراد الله أن يرزقني يرزقني؟ ما تفعلها، تأتي وتتعب وتقوم من نومك مبكراً وتحضر الدوام، لأن هذا العاقل يسعى حتى يحصل على الرزق، هل إذا جعت أخي الكريم تجلس تنتظر وتقول: إذا أراد الله أن يشبعني أتاني بالطعام؟ لا تفعلها، بل تذهب إلى المطبخ، وإلى الثلاجة، وإلى المطعم، وتطلب الطعام وتأكل حتى تشبع، لِمَ تبذل السبب؟ لأجل الدنيا؛ لكن لما نقول لك: تعال صلِّ؛ تقول: إذا أراد الله أن أصلي صليت، سبحان الله! هنا تسعى لأجل الدنيا ولكن لأجل الآخرة ما تبذل ولا تسعى؟! قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] أنت الذي جنيت على نفسك ولا تقل: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذه كلمة كاذبة من ناصية خاطئة.
عبد الله! إذا سعيتَ إلى الهداية وفقك الله، وإذا بذلت أعانك الله، وإذا سعيت فتح الله لك أبواب الخير، أما أن تجلس في البيت وتقول: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذا كله ضحك، وما تخدع إلا نفسك يا عبد الله.
يقول السائل: ما رأيك فيمن نقول له: صلِّ أو تُب إلى الله، ويقول: إذا الله هداني صليت؟
الجواب
كما قال المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام:148] إذا أراد الله أن يهدينا فليهدنا، أراد الله أن نسجد للصنم فنسجد للصنم، وهذه عقيدة تسمى عقيدة الجبرية، وهي عقيدة ضالة ليست من عقائد أهل السنة.
أهل السنة كما قال الله جل وعلا فيهم: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] ابدأ يا عبد الله، لا تقل: إذا أراد الله أن يهديني اهتديت، أسألك بالله الآن سؤالاً: أنت لِمَ تأتي إلى هذا المكان وتلبس هذا الزي وتحضر الدوام لِمَه؟ لأجل المعاش والراتب، لِمَ لا تجلس في البيت وتقول: إذا أراد الله أن يرزقني يرزقني؟ ما تفعلها، تأتي وتتعب وتقوم من نومك مبكراً وتحضر الدوام، لأن هذا العاقل يسعى حتى يحصل على الرزق، هل إذا جعت أخي الكريم تجلس تنتظر وتقول: إذا أراد الله أن يشبعني أتاني بالطعام؟ لا تفعلها، بل تذهب إلى المطبخ، وإلى الثلاجة، وإلى المطعم، وتطلب الطعام وتأكل حتى تشبع، لِمَ تبذل السبب؟ لأجل الدنيا؛ لكن لما نقول لك: تعال صلِّ؛ تقول: إذا أراد الله أن أصلي صليت، سبحان الله! هنا تسعى لأجل الدنيا ولكن لأجل الآخرة ما تبذل ولا تسعى؟! قال الله جل وعلا: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] أنت الذي جنيت على نفسك ولا تقل: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذه كلمة كاذبة من ناصية خاطئة.
عبد الله! إذا سعيتَ إلى الهداية وفقك الله، وإذا بذلت أعانك الله، وإذا سعيت فتح الله لك أبواب الخير، أما أن تجلس في البيت وتقول: لو أراد الله أن يهديني اهتديت، هذا كله ضحك، وما تخدع إلا نفسك يا عبد الله.
سؤال يراود الكثير من ضعاف الإيمان
السؤال
أرجو العناية بهذا السؤال؛ لأنني أخشى أن أكون قد كفرت!!!! أنجدوني أنجدكم الله. حتى إنني بكيت بكاء الطفل والمرأة، ولم يتبق سوى أن أبكي دما عند قوله تعالى: "أكفرت بالذي خلقك من تراب" هناك وعود من الله، ومن نبيه صلى الله عليه وسلم لا أفهمها، ولا أفهم ما الفائدة منها، بل وقد أكون وصلت إلى درجة أنني لا أصدقها؛ نظرا لما مررت به من تجارب شخصية، ونظرا لما مر به آخرون، فالوعد الوحيد الذي أصدقه هو أن الله سيبتلي العبد بالسراء والضراء لا محالة، بغض النظر عن بقية الوعود بالخير أي أن الضراء ستحصل ستحصل لا مفر منها. فما فائدة هذه الوعود, على سبيل المثال لا الحصر: أولا: حديث الخصال الأربع التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" فلقد عملت هذه الخصال الأربع والحمد لله، ولكنني أعلم علم اليقين أن الجنة ليست مضمونة لأحد، والصحابة أنفسهم كانوا يخافون ألا يدخلوها، وأنا أعلم علم اليقين أنني لو توقفت عن الصلاة مثلا لكوني ضمنت الجنة بناء على هذا الحديث، فسأدخل النار. فما فائدة هذا الوعد بدخول الجنة؟ ثانيا: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. وأن الله يحفظ العبد الصالح، ويحفظ ولده. كم من الآباء الصالحين بل وأئمة المساجد نجد أبناءهم عاقين وفاسدين, بل نوح عليه السلام نفسه ولده فاسد. فلماذا لم يحفظ الله ولده لكون نوح عبدا صالحا؟ ثالثا: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وحفظ القرآن يحفظ العبد. هذا أكبر ما سبب لي إحباطا، وجعلني أنتكس، فلي ذنوب أعملها أحاول أن أتركها منذ عشرين سنة، ولم أستطع، فقلت: السبيل الوحيد هو أن أحفظ القرآن، فبدأت في الحفظ، وحفظت عشرة أجزاء محاولة مني لكي أتخلص من هذه الذنوب، وما زلت مستمرا عليها, صلاتي حافظت عليها والفجر أحافظ عليه في الجماعة. فلماذا لم تنهني صلاتي عن الفحشاء والمنكر؟ ولماذا لم يحفظني القرآن؟ وإن كان هذا هو الحال فما فائدة هذا الوعد؟ رابعا: قوله تعالى: "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" منذ أن بدأت العمل منذ ثماني سنين، وأنا أخصص جزءا من راتبي للصدقة، وأزيد فيه حتى وصل إلى 23% ومع ذلك أصاب بالحزن والاكتئاب بل حتى إنني أصبت بمرض نفسي يسبب لي كآبة شديدة، كانت سببا في فصلي من العمل، من أربع وظائف مختلفة. فما فائدة هذا الوعد؟ رابعا: أن الصدقة تزيد المال، ونحن نعلم أن الصحابة أكثر الناس صدقة، وأن كثيرا منهم عاشوا فقراء، وماتوا فقراء. فإن كان هذا صحيحا لكانوا أثرى الأثرياء. فما فائدة هذا الوعد؟ خامسا: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأنا أعلم علم اليقين أنني لو اكتفيت بالشهادة، ولكن لم أصل سأدخل النار. فما فائدة هذا الوعد؟ سادسا: قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. كم من المتزوجين عاشوا عيشة يقشعر لها البدن من الفقر، والضيق، والمصائب حتى ماتوا على ذلك. فلماذا لم يغنهم الله من فضله؟ ما فائدة هذا الوعد؟ وإن كان المقصود من هذا الوعد أن الله يغنيهم يوم القيامة وليس في الدنيا. فلماذا يدفعنا الدعاة، وأئمة المساجد، والعلماء إلى الزواج وعدم الخشية من الفقر بدافع هذه الآية؟ بدأت أشعر وكأنهم يدخلوننا في ورطة بتفسير الآيات بغير مبتغاها. الوعد الوحيد الذي أصدقه هو أن الله سيبتلي المؤمن بالسراء والضراء، وعلينا فقط أن نصبر أما باقي الوعود وبصراحة أصبحت لا أعيرها اهتماما عندما أمر بها في القرآن أو السنة أو أسمعها في محاضرة. بعد ما ذكرت أعلاه أريد سببا واحدا يجعلني أصدق هذه الوعود وأنا أراها أمامي تــنــتـقـض في كل مرة. علما بــأنني محافظ على صلواتي الخمس في مواعيدها، وأتصدق، وأصوم، وبار بوالدي، وأقوم الليل بل وحتى مجرد سماع الأغاني تركـتــه. بعد ما ذكرت أعلاه أريد سببا واحدا يجعلني أصدق هذه الوعود وأنا أراها أمامي تــنــتـقـض في كل مرة.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننبهك أولا إلى أنه قد ورد في سؤالك تعبيرات خطيرة، ولا تليق بمن يدعي أنه مؤمن بالله، ومحافظ على الصلوات الخمس في مواعيدها، ويتصدق، ويصوم، وبار بوالديه ويقوم الليل، ولا يستمع إلى الأغاني...
مع أن عبارة: "بل وحتى مجرد سماع الأغاني تركته" لا يخفى ما فيها من الاستخفاف بهذا الحكم الشرعي.
وكيف يدعي الإيمان، والمحافظة على أوامر الله من يقول إن هناك وعودا من الله، ومن نبيه صلى الله عليه وسلم قد يكون وصل إلى درجة أنه لا يصدقها... وأن ما سوى ابتلاء المؤمن بالسراء والضراء من الوعود قد أصبح لا يعيره اهتماما عندما يمر به في القرآن، أو السنة، أو يسمعه في محاضرة...
فننصحك بالمبادرة إلى التوبة من هذا الكلام؛ فإنه في غاية الخطورة.
وفي خصوص ما أوردته من استشكالات: فاعلم أن نصوص الوعد، وكذلك نصوص الوعيد لها شروط وموانع، فإذا حصلت الشروط، وانتفت الموانع حصل الوعد والوعيد. وإذا تخلف شرط، أو وجد مانع فإنه قد يوجد العكس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى: وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال. فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله. وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بألا يكون متأولا، ولا مجتهدا مخطئا. فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. انتهى.
وقال أيضا رحمه الله: والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب قد بين سبحانه أنه بشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه. وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وبأن لا يشاء الله أن يغفر له. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فهكذا الوعد له تفسير وبيان. فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله، وكذب الرسول، فهو كافر باتفاق المسلمين. وكذلك إن جحد شيئا مما أنزل الله. فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول. ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له؛ فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا، كان في النار. فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة. ومن كان له حسنات وسيئات، فإن الله لا يظلمه بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والله تعالى قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته. ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار. انتهى.
وفوائد ذكر الوعد بالجنة على أعمال معينة ظاهرة لمن تأملها، فمنها الترغيب في فعل الطاعات، والحرص عليها ورجاء الثواب عليها، وأنها سبب لدخول الجنة.
وأما حديث: بروا آباءكم... الحديث. فقد ضعفه الألباني في الضعيفة، وفي بعض أسانيده كذاب؛ ولهذا قال الشوكاني- رحمه الله- في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: وَفِي لَفْظٍ: بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم. في إسناده: كذاب. انتهى.
وأما ما ذكرته من (أن الله يحفظ العبد الصالح ويحفظ ولده) فهو ليس بحديث، ولكنه منقول عن السلف بمعناه وبلفظ قريب منه.
فقد ذكر ابن جرير الطبري- رحمه الله- في تفسيره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا {الكهف:82}. قال: حفظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح. انتهى.
ونقل البغوي- رحمه الله- في تفسيره عن محمد بن المنكدر- رحمه الله- أنه قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَعِتْرَتَهُ، وَعَشِيرَتَهُ، وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ. انتهى.
وهذا الاستشكال هو من نفس الباب السابق، وهو أن صلاح الوالدين سبب لحفظ وصلاح الأولاد، ولكن قد يتخلف لاختلال شرط أو وجود مانع. كما أن فساد الوالدين سبب لفساد الأولاد، ولكن قد يتخلف تأثير هذا السبب لحكمة يعلمها الله، كما هو شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فإن أباه كان مشركا، أما إبراهيم فكان إمام الحنفاء.
وكذلك القول في الصلاة وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن القرآن حافظ لصاحبه، فلهذه الأمور شروط قد تتخلف، ولها موانع قد تمنع ما يترتب عليها.
قال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- في تفسيره: ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها، وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها. وثَمَّ في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله، بالقلب واللسان والبدن. انتهى.
وكذلك يتضح مما سبق جواب استشكالك عمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله ... الخ ، ويزيده وضوحا قول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في الفتاوى الكبرى: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وَلِهَذَا لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ؛ وَلَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ مِنْ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]. وَالْعَبْدُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَلَا يُحْبِطُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ. انتهى.
وكذلك يقال في تخلف انشراح الصدر مع الصدقة في بعض الحالات، وتخلف زيادة المال مع الصدقة مع بعض الناس، أو تخلف الغنى مع الزواج في بعض الزيجات، أن ذلك كله لحكم عظيمة لا نعلمها على جهة التفصيل، مع أن الواقع يشهد أن كثيرا من المتصدقين قد انشرحت صدورهم وازدادت أموالهم، وأن كثيرا من المتزوجين قد أغناهم الله من فضله، ولكن تخلف ذلك مع بعض الناس يكون لحكمة قد نعلمها وقد نجهلها.
قال ابن القيم- رحمه الله- في عدة الصابرين: قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، والمرض لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن النبي فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك. إني أدبر عبادي بهم خبير بصير. انتهى.
فأصل هذه الإشكالات والشبهات –إذا تأملتها- راجعة إلى الخوض في فعل الرب سبحانه وتعالى، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في تائيته في القدر:
- وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
- فإنهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية
- فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة
- وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة
- مشيئته مع علمه، ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية
-وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي- رحمه الله- في شرحه لهذه التائية: يذكر الشيخ: أن أصل ضلال الخلق من جميع فرق الضلال، الخوض في فعل الرب. وذلك: أن جميع الكون العالم العلوي، والسفلي وما فيهن من المخلوقات، خلقها الله وأوجدها بمشيئته وقدرته. فإنه تعالى هو الواجب بأسمائه، وصفاته القديمة التي لا أول لها؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، ولم يزل بأسمائه وصفاته كذلك. فإذا كانت أوصافه كلها قديمة واجبة؛ لأنه واجب الوجود. فمن لوازم صفاته اللازمة لذاته:
1- العلم المحيط بكل شيء.
2- والقدرة الشاملة لكل شيء.
3- والمشيئة العامة لكل موجود.
فهو تعالى لم يزل عليما، فعالا لما يريد. وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها. فلم يخلق ولن يخلق شيئا عبثا، بل خلق المخلوقات، وأبدع المبدعات بالحق وللحق، فهي صدرت عن الحق، واشتملت على الحق، وكانت غاياتها المقصودة الحق. فهذا التقرير الصحيح لمذهب أهل السنة والجماعة. وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة. فكما أنه تعالى أخبر: أنه على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه إذا أراد أمرا قال له: "كن" فيكون، وأن كل شيء خلقه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر، فكذلك قد أخبر: أنه الحكيم الذي شملت حكمته كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن بالحق، ولم يخلقهما باطلا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (صّ: 27) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115) {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36) . إلى غير ذلك من الآيات الدالات على الأصلين، وهما: عموم مشيئته لكل موجود، وشمول حكمته للخلق والأمر. هذا: الذي يتعين على المكلفين الاعتراف به واعتقاده. انتهى.
والله أعلم.
أرجو العناية بهذا السؤال؛ لأنني أخشى أن أكون قد كفرت!!!! أنجدوني أنجدكم الله. حتى إنني بكيت بكاء الطفل والمرأة، ولم يتبق سوى أن أبكي دما عند قوله تعالى: "أكفرت بالذي خلقك من تراب" هناك وعود من الله، ومن نبيه صلى الله عليه وسلم لا أفهمها، ولا أفهم ما الفائدة منها، بل وقد أكون وصلت إلى درجة أنني لا أصدقها؛ نظرا لما مررت به من تجارب شخصية، ونظرا لما مر به آخرون، فالوعد الوحيد الذي أصدقه هو أن الله سيبتلي العبد بالسراء والضراء لا محالة، بغض النظر عن بقية الوعود بالخير أي أن الضراء ستحصل ستحصل لا مفر منها. فما فائدة هذه الوعود, على سبيل المثال لا الحصر: أولا: حديث الخصال الأربع التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" فلقد عملت هذه الخصال الأربع والحمد لله، ولكنني أعلم علم اليقين أن الجنة ليست مضمونة لأحد، والصحابة أنفسهم كانوا يخافون ألا يدخلوها، وأنا أعلم علم اليقين أنني لو توقفت عن الصلاة مثلا لكوني ضمنت الجنة بناء على هذا الحديث، فسأدخل النار. فما فائدة هذا الوعد بدخول الجنة؟ ثانيا: بروا آباءكم تبركم أبناؤكم. وأن الله يحفظ العبد الصالح، ويحفظ ولده. كم من الآباء الصالحين بل وأئمة المساجد نجد أبناءهم عاقين وفاسدين, بل نوح عليه السلام نفسه ولده فاسد. فلماذا لم يحفظ الله ولده لكون نوح عبدا صالحا؟ ثالثا: الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وحفظ القرآن يحفظ العبد. هذا أكبر ما سبب لي إحباطا، وجعلني أنتكس، فلي ذنوب أعملها أحاول أن أتركها منذ عشرين سنة، ولم أستطع، فقلت: السبيل الوحيد هو أن أحفظ القرآن، فبدأت في الحفظ، وحفظت عشرة أجزاء محاولة مني لكي أتخلص من هذه الذنوب، وما زلت مستمرا عليها, صلاتي حافظت عليها والفجر أحافظ عليه في الجماعة. فلماذا لم تنهني صلاتي عن الفحشاء والمنكر؟ ولماذا لم يحفظني القرآن؟ وإن كان هذا هو الحال فما فائدة هذا الوعد؟ رابعا: قوله تعالى: "الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" منذ أن بدأت العمل منذ ثماني سنين، وأنا أخصص جزءا من راتبي للصدقة، وأزيد فيه حتى وصل إلى 23% ومع ذلك أصاب بالحزن والاكتئاب بل حتى إنني أصبت بمرض نفسي يسبب لي كآبة شديدة، كانت سببا في فصلي من العمل، من أربع وظائف مختلفة. فما فائدة هذا الوعد؟ رابعا: أن الصدقة تزيد المال، ونحن نعلم أن الصحابة أكثر الناس صدقة، وأن كثيرا منهم عاشوا فقراء، وماتوا فقراء. فإن كان هذا صحيحا لكانوا أثرى الأثرياء. فما فائدة هذا الوعد؟ خامسا: من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة، وأنا أعلم علم اليقين أنني لو اكتفيت بالشهادة، ولكن لم أصل سأدخل النار. فما فائدة هذا الوعد؟ سادسا: قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله. كم من المتزوجين عاشوا عيشة يقشعر لها البدن من الفقر، والضيق، والمصائب حتى ماتوا على ذلك. فلماذا لم يغنهم الله من فضله؟ ما فائدة هذا الوعد؟ وإن كان المقصود من هذا الوعد أن الله يغنيهم يوم القيامة وليس في الدنيا. فلماذا يدفعنا الدعاة، وأئمة المساجد، والعلماء إلى الزواج وعدم الخشية من الفقر بدافع هذه الآية؟ بدأت أشعر وكأنهم يدخلوننا في ورطة بتفسير الآيات بغير مبتغاها. الوعد الوحيد الذي أصدقه هو أن الله سيبتلي المؤمن بالسراء والضراء، وعلينا فقط أن نصبر أما باقي الوعود وبصراحة أصبحت لا أعيرها اهتماما عندما أمر بها في القرآن أو السنة أو أسمعها في محاضرة. بعد ما ذكرت أعلاه أريد سببا واحدا يجعلني أصدق هذه الوعود وأنا أراها أمامي تــنــتـقـض في كل مرة. علما بــأنني محافظ على صلواتي الخمس في مواعيدها، وأتصدق، وأصوم، وبار بوالدي، وأقوم الليل بل وحتى مجرد سماع الأغاني تركـتــه. بعد ما ذكرت أعلاه أريد سببا واحدا يجعلني أصدق هذه الوعود وأنا أراها أمامي تــنــتـقـض في كل مرة.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننبهك أولا إلى أنه قد ورد في سؤالك تعبيرات خطيرة، ولا تليق بمن يدعي أنه مؤمن بالله، ومحافظ على الصلوات الخمس في مواعيدها، ويتصدق، ويصوم، وبار بوالديه ويقوم الليل، ولا يستمع إلى الأغاني...
مع أن عبارة: "بل وحتى مجرد سماع الأغاني تركته" لا يخفى ما فيها من الاستخفاف بهذا الحكم الشرعي.
وكيف يدعي الإيمان، والمحافظة على أوامر الله من يقول إن هناك وعودا من الله، ومن نبيه صلى الله عليه وسلم قد يكون وصل إلى درجة أنه لا يصدقها... وأن ما سوى ابتلاء المؤمن بالسراء والضراء من الوعود قد أصبح لا يعيره اهتماما عندما يمر به في القرآن، أو السنة، أو يسمعه في محاضرة...
فننصحك بالمبادرة إلى التوبة من هذا الكلام؛ فإنه في غاية الخطورة.
وفي خصوص ما أوردته من استشكالات: فاعلم أن نصوص الوعد، وكذلك نصوص الوعيد لها شروط وموانع، فإذا حصلت الشروط، وانتفت الموانع حصل الوعد والوعيد. وإذا تخلف شرط، أو وجد مانع فإنه قد يوجد العكس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- في مجموع الفتاوى: وتناول نصوص الوعد للشخص مشروط بأن يكون عمله خالصا لوجه الله، موافقا للسنة؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليقال. فأي ذلك في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله. وكذلك تناول نصوص الوعيد للشخص مشروط بألا يكون متأولا، ولا مجتهدا مخطئا. فإن الله عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان. انتهى.
وقال أيضا رحمه الله: والذي عليه أهل السنة والجماعة الإيمان بالوعد والوعيد، فكما أن ما توعد الله به العبد من العقاب قد بين سبحانه أنه بشروط: بأن لا يتوب، فإن تاب، تاب الله عليه. وبأن لا يكون له حسنات تمحو ذنوبه؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات، وبأن لا يشاء الله أن يغفر له. {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}. فهكذا الوعد له تفسير وبيان. فمن قال بلسانه: لا إله إلا الله، وكذب الرسول، فهو كافر باتفاق المسلمين. وكذلك إن جحد شيئا مما أنزل الله. فلا بد من الإيمان بكل ما جاء به الرسول. ثم إن كان من أهل الكبائر فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له؛ فإن ارتد عن الإسلام ومات مرتدا، كان في النار. فالسيئات تحبطها التوبة، والحسنات تحبطها الردة. ومن كان له حسنات وسيئات، فإن الله لا يظلمه بل من يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. والله تعالى قد يتفضل عليه ويحسن إليه بمغفرته ورحمته. ومن مات على الإيمان فإنه لا يخلد في النار. انتهى.
وفوائد ذكر الوعد بالجنة على أعمال معينة ظاهرة لمن تأملها، فمنها الترغيب في فعل الطاعات، والحرص عليها ورجاء الثواب عليها، وأنها سبب لدخول الجنة.
وأما حديث: بروا آباءكم... الحديث. فقد ضعفه الألباني في الضعيفة، وفي بعض أسانيده كذاب؛ ولهذا قال الشوكاني- رحمه الله- في الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة: وَفِي لَفْظٍ: بَرُّوا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم. في إسناده: كذاب. انتهى.
وأما ما ذكرته من (أن الله يحفظ العبد الصالح ويحفظ ولده) فهو ليس بحديث، ولكنه منقول عن السلف بمعناه وبلفظ قريب منه.
فقد ذكر ابن جرير الطبري- رحمه الله- في تفسيره عن ابن عباس- رضي الله عنهما- في قوله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا {الكهف:82}. قال: حفظا بصلاح أبيهما، وما ذكر منهما صلاح. انتهى.
ونقل البغوي- رحمه الله- في تفسيره عن محمد بن المنكدر- رحمه الله- أنه قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْفَظُ بِصَلَاحِ الْعَبْدِ وَلَدَهُ، وَوَلَدَ وَلَدِهِ، وَعِتْرَتَهُ، وَعَشِيرَتَهُ، وَأَهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللَّهِ مَا دَامَ فِيهِمْ. انتهى.
وهذا الاستشكال هو من نفس الباب السابق، وهو أن صلاح الوالدين سبب لحفظ وصلاح الأولاد، ولكن قد يتخلف لاختلال شرط أو وجود مانع. كما أن فساد الوالدين سبب لفساد الأولاد، ولكن قد يتخلف تأثير هذا السبب لحكمة يعلمها الله، كما هو شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فإن أباه كان مشركا، أما إبراهيم فكان إمام الحنفاء.
وكذلك القول في الصلاة وأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأن القرآن حافظ لصاحبه، فلهذه الأمور شروط قد تتخلف، ولها موانع قد تمنع ما يترتب عليها.
قال الشيخ السعدي- رحمه الله تعالى- في تفسيره: ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، أن العبد المقيم لها، المتمم لأركانها وشروطها، وخشوعها، يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقل أو تعدم رغبته في الشر، فبالضرورة، مداومتها والمحافظة عليها على هذا الوجه، تنهى عن الفحشاء والمنكر، فهذا من أعظم مقاصدها وثمراتها. وثَمَّ في الصلاة مقصود أعظم من هذا وأكبر، وهو ما اشتملت عليه من ذكر الله، بالقلب واللسان والبدن. انتهى.
وكذلك يتضح مما سبق جواب استشكالك عمن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله ... الخ ، ويزيده وضوحا قول شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في الفتاوى الكبرى: وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» وَأَمْثَالُ ذَلِكَ: مَعَ قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وَلِهَذَا لَا يُشْهَدُ لِمُعَيَّنٍ بِالْجَنَّةِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ، وَلَا يُشْهَدُ عَلَى مُعَيَّنٍ بِالنَّارِ إلَّا بِدَلِيلٍ خَاصٍّ؛ وَلَا يُشْهَدُ لَهُمْ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ مِنْ انْدِرَاجِهِمْ فِي الْعُمُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْدَرِجُ فِي الْعُمُومَيْنِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]. وَالْعَبْدُ إذَا اجْتَمَعَ لَهُ سَيِّئَاتٌ وَحَسَنَاتٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِقَابَ عَلَى سَيِّئَاتِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُثِيبُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ، وَلَا يُحْبِطُ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِ لِأَجْلِ مَا صَدَرَ مِنْهُ. انتهى.
وكذلك يقال في تخلف انشراح الصدر مع الصدقة في بعض الحالات، وتخلف زيادة المال مع الصدقة مع بعض الناس، أو تخلف الغنى مع الزواج في بعض الزيجات، أن ذلك كله لحكم عظيمة لا نعلمها على جهة التفصيل، مع أن الواقع يشهد أن كثيرا من المتصدقين قد انشرحت صدورهم وازدادت أموالهم، وأن كثيرا من المتزوجين قد أغناهم الله من فضله، ولكن تخلف ذلك مع بعض الناس يكون لحكمة قد نعلمها وقد نجهلها.
قال ابن القيم- رحمه الله- في عدة الصابرين: قد يكون الفقر لبعض الناس أنفع، والغنى لآخرين أنفع، كما تكون الصحة لبعضهم أنفع، والمرض لبعضهم أنفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن النبي فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: "إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك. إني أدبر عبادي بهم خبير بصير. انتهى.
فأصل هذه الإشكالات والشبهات –إذا تأملتها- راجعة إلى الخوض في فعل الرب سبحانه وتعالى، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله- في تائيته في القدر:
- وأصل ضلال الخلق من كل فرقة ... هو الخوض في فعل الإله بعلة
- فإنهمو لم يفهموا حكمة له ... فصاروا على نوع من الجاهلية
- فإن جميع الكون أوجب فعله ... مشيئة رب الخلق باري الخليقة
- وذات إله الخلق واجبة بما ... لها من صفات واجبات قديمة
- مشيئته مع علمه، ثم قدرة ... لوازم ذات الله قاضي القضية
-وإبداعه ما شاء من مبدعاته ... بها حكمة فيه وأنواع رحمة
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي- رحمه الله- في شرحه لهذه التائية: يذكر الشيخ: أن أصل ضلال الخلق من جميع فرق الضلال، الخوض في فعل الرب. وذلك: أن جميع الكون العالم العلوي، والسفلي وما فيهن من المخلوقات، خلقها الله وأوجدها بمشيئته وقدرته. فإنه تعالى هو الواجب بأسمائه، وصفاته القديمة التي لا أول لها؛ لأنه الأول الذي ليس قبله شيء، ولم يزل بأسمائه وصفاته كذلك. فإذا كانت أوصافه كلها قديمة واجبة؛ لأنه واجب الوجود. فمن لوازم صفاته اللازمة لذاته:
1- العلم المحيط بكل شيء.
2- والقدرة الشاملة لكل شيء.
3- والمشيئة العامة لكل موجود.
فهو تعالى لم يزل عليما، فعالا لما يريد. وأفعاله تعالى وإبداعه لمبتدعاته تابعة لحكمته التي هي وضع الأشياء مواضعها، وتنزيل الأمور منازلها. فلم يخلق ولن يخلق شيئا عبثا، بل خلق المخلوقات، وأبدع المبدعات بالحق وللحق، فهي صدرت عن الحق، واشتملت على الحق، وكانت غاياتها المقصودة الحق. فهذا التقرير الصحيح لمذهب أهل السنة والجماعة. وهو الذي دلت عليه الأدلة الكثيرة. فكما أنه تعالى أخبر: أنه على كل شيء قدير، وأنه فعال لما يريد، وأنه إذا أراد أمرا قال له: "كن" فيكون، وأن كل شيء خلقه بقدر، وكل صغير وكبير مستطر، فكذلك قد أخبر: أنه الحكيم الذي شملت حكمته كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض ومن فيهن بالحق، ولم يخلقهما باطلا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (صّ: 27) {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} (المؤمنون:115) {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} (القيامة:36) . إلى غير ذلك من الآيات الدالات على الأصلين، وهما: عموم مشيئته لكل موجود، وشمول حكمته للخلق والأمر. هذا: الذي يتعين على المكلفين الاعتراف به واعتقاده. انتهى.
والله أعلم.