الحاكم المتغلب وشروطه
يمكن أن نستخلص صفاتٍ للمتغلب وشروطاً للصبر عليه، مراعاة لقواعد المصالح والمفاسد المعتبرة شرعاً، مع التنبيه على أن أول مصلحة هي موافقة الشرع ذاته، وأول مفسدة هي مخالفة الشرع ذاته.
وهذه الشروط مرتبة من الأخف إلى الأشد والآكد، وهي:
1- ألا ينقلب هو أو يتغلب على حاكم شرعي حيٍّ، فإن فعل ذلك فحكمه أن يقاتَل ولو اقتضى قَتلَه، لحديث «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخِر منهما»[صحيح مسلم، 1853]، والمفرق لجماعة المسلمين: « من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه»[صحيح مسلم برقم:1852] وفي رواية : « فاضربوه بالسيف كائناً من كان »، وفي حديث العرباض ين سارية: « ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »[مسلم: 1488]، ولحديث:«إنَّا- والله- لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه»( متفق عليه)، وهذا للطامع المطالب، فكيف بالطاغي المغالب؟
ولأن المسارعة في شرعنة طاعة المتغلب تورث تسلسلَ المتغلبين وإغراءَهم بالتغلب والانقلاب، لطمعهم في تسليم الأمة لهم وطاعتهم، وأمنهم جانب الخروج عليهم ومنازعتهم ومنازلتهم، فتظل الأمة تعيش أحداث المتغلبين القاهرين، أما منازعتهم والأخذ على أيديهم فإنه يقطع الطمع أمامهم فلا يفكرون فيه، فتستقر الأمور وتُؤْمَن الشرور والفجور. كما في علة الحدود الشرعية تماماً، ليكونوا عبرة لغيرهم، والحدُّ حدٌّ لذلك. وكما قال إبراهيم النخعي : (لأن في عدم الانتصار إغراء المتغلب على الظلم) .
والأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الجَوْر، فهي في أئمة جاءوا في فراغ، ولم يغتصبوا حق غيرهم، ثم لم يفرقوا شمل الأمة ويستبيحوا دماءها بهذا التغلب الدموي.
((ولا يكفي هذا الشرط وحده))
2- أن يتغلب فِعْلاً، ويغلب الجميعَ، ويستقر له الأمر، ويستتب له الأمن، وتسكن له العامة والدهماء، وتأمن به الطرق، وتصان به الحرمات، وإلا لم يعد متغلباً، بل يكون موقظاً فتنة كانت نائمة، ومقيماً حرباً على شعب أعزل، حاملا للسلاح على أُمَّةٍ آمنة! لأن العلة للدخول في طاعته ألا نقوض الأمن وقد ساد، وألا نثير الخوف وقد باد، أما والأمير غير متحكِّم، والأمر غير مستقر، والأمن غير مبسوط، والطرق غير آمنة، فما علة الدخول تحت طاعته؟!
وإنما قيل بطاعته مراعاة لمقصد الشريعة في ارتكاب أخف الضررين وأقل المفسدتين، وتفويت أكبرهما، يُصبر على فعله وإن كان هو آثم بفعله هذا. وقد صبر النبي-صلى الله عليه وسلم- على أئمة الشرك والكفر في مكة ولم يخرج عليهم بسلاح، لا ولاء وطاعة، ولكن لأن مفسدة الخروج أكبر من مفسدة لصبر حتى يفتح الله.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجور بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة كانوا فجاروا وظلموا، أي طرأ عليهم الظلم بعد التولية، والقاعدة أنه: يُغتفر في الاستدامة ما لا يُغتفر في الاستئناف، أما تولية الفاسق ابتداءً فمحرمة إجماعاً.((ولا يكفي هذا الشرط وحده)).
3- أن يقيم الدين في الدولة، ويسوسها به، ويقود الأمة بكتاب الله، ويحكمها بشريعته، لحديث :«إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع - حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا»(مسلم،: 183. وفي ألفاظه الأخرى الصحيحة كلها: « ما قادكم بكتاب الله»، « ما أقام لكم كتاب الله». والفاء في «فاسمعوا له وأطيعوا» تعليلية، فتفيد أن ما قبلها علة لما بعدة، يعني أن إقامة الكتاب والقيادة به، وتحكيمه علة لوجوب السمع الطاعة، فإذا زالت العلة زال المعلول، والقاعدة أن "الحكم يدور مع علته، وجودا وعدماً"، وكذلكم حديث:« إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين»( البخاري، حديث (3500)، وإلا وجب عزله والخروج عليه-عند تحقق القدرة- ولو كان مبايَعا أصلا، فضلا عن أن يكون لصًّا متغلباً. وقبل ذلك آية النساء وفيها:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ"[النساء:59].
قال مصطفى ديب البغا في تعليقه على صحيح البخاري (ما أقاموا الدين) أي تجب طاعتهم وعدم منازعتهم طالما أنهم يقيمون شرع الله عز وجل، ويلتزمون حدوده؛ فإن قصروا في ذلك أو تجاوزوه جازت منازعتهم وسقطت طاعتهم)[ (3/1289) حديث 3309].
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجور والفسوق بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة لم يصل ظلمهم وفسقهم إلى ترك العمل بكتاب الله في الأمة وتعطيل شريعته في حياتها، واستبدالها بقوانين الكفر.
((ولا يكفي هذا الشرط وحده، وإن كان على رأس ما سبق، بل هو علة ومناط ما سيأتي من حكم))
4- أن يكون مسلماً، بإجماع جميع المسلمين، وهذا الشرط في المبايَع فضلا عن المتغلب أو المنقلب! لقوله تعالى:" وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا"[النساء:141]، وأي سبيل أكبر من أن يُحَكِّموهم في دينهم ودنياهم؟
((ولقد أخَّرتُ هذا الشرطَ عمداً، لأنه مربط الفرس في الحكام المعاصرين، وابتدأت بالمذكور أولا، وهو اشتراط الحكم بكتاب الله، حتى يكون حجة حتى على الذين لا يجعلون من نواقض الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية الوضيعة في التشريع العام، وكأني أرت أن أقول هناك: حتى لو قيل عن الحاكم بغير الشرع أنه مسلم، فشرط طاعته أن يحكم بما أنزل الله، لأن العلة التي من أجلها نُصبت الإمامة، واجتمعت حوله الجماعة، هي حفظ الأمة دينا ودنيا، ولا يتم ذلك إلا بالتمسك بالشريعة وما وراء ترك تحكيم الشريعة إلا الضيق والضنك والضلال، كما نطقت بذلك الآياتُ والأيامُ ... لهذا الإلزام والحجاج أخَّرت الشرط الرابع وهو الأساس الأول)).
فلو أرجعناها إلى لبِّ المسألة، فإننا نناقش هنا قضية ترك الحكم بما أنزل الله والحكم بغيره، والتي هي بذاتها موجبة لمنازعتهم والخروج عليهم بلا خلاف عن العلماء الأولين والسلف الصالحين، ولو طرأت على حاكم مبايعٍ منتخب، فكيف بمتغلب ثم لا يحكم بشريعة الله، لأنه يبتغي حكم الجاهلية، وما سوى حكم الإسلام فهو جاهلية، وما بعد الحق إلا الضلال، وقد قال الله تعالى: " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"[59].
يقول الإمام السلـفي ابن كثير-رحمه الله- في تفسيرها ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.)[تفسير ابن كثير: 3/131، تحقيق سامي سلامة، نشر دار طيبة]
فهل يجتمع- مع هذا- وجوبُ قتالهم مع وجوبِ طاعتهم.. يا سادة؟!
وهذا على مقتضى قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:« وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان»[البخاري: 7056، ومسلم: (1709)]، وما هذا التشريع من دون الله إلا ذلك الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان.
وقال الشيخ ابن باز-رحمه الله-فمن خضع لله-سبحانه- وتحاكم إلى وَحْيِهِ, فهو العابد له, ومن خضع لغيره, وتحاكم إلى غير شرعه, فقد عبد الطاغوت, وانقاد له, كما قال الله تعالى-:﴿ألم تَرَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قَبْلِكَ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا﴾[النساء:60]( وجوب تحكيم شريعة الله..ص:7-.
وقال قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-(فقال عليه الصلاة والسلام:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"، لإمام العادل هو الذي عدل في رعيته، ولا عدْل أقوم ولا أوجب من أن يُحَكّم فيهم شريعة الله ، هذا رأس العدل، لأن الله يقول:"إن الله يأمر بالعدل والإحسان"؛ فمن حكم في شعبه بغير شريعة الله، فإنه ما عدل، بل هو كافر والعياذ بالله، لأن الله قال:" من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فإذا وضع هذا الحاكم لشعبه قوانين تخالف الشريعة، وهو يعلم أنها تخالف الشريعة ، ولكنه عدل عنها وقال: أنا لا أعدل عن القانون؛ فإنه كافر، ولو صلى، ولو تصدَّق، ولو صام، ولو حج، ولو ذكر الله، ولو شهد للرسول بالرسالة، ولو زعم أنه مسلم، فإنه كافر ، مخلد في نار جهنم يوم القيامة)[ورابط المقطع عنا
http://www.dailymotion.com/video/xui...9%86_lifestyle
وهذا العلامة القرآني الشنقيطي-رحمه الله تعالى-يقولالإشراك بالله في حكمه, والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد, لا فرق بينهما البتة, فالذي يتبع نظاما غير نظام الله, وتشريعا غير تشريع الله, كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن, لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه, وكلاهما مشرك بالله)( أضواء البيان:7/162)
ويقول محمد محمود شاكر وإذن ، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا ، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله...)[تعليقا على تفسير الطبري: 10/ 348].
وغير ذلك من أقوال العلماء الكثيرين الذين عرفوا حقيقة القوانين، وحكم الحاكم بها.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة اظلم والجور بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة لم يصل ظلمهم وفسقهم إلى الكفر البواح، والشرك الصُّراح بالتشريع من دونه وإدخال الناس فسرا وقهرا في دين غير دين الله.
وبهذا ثبت بأن تبديل شرع الله بالقوانين الوضعية، حتى تكون هي المصدر الحقيقي للتشريع هو كفر أكبر مخرج من الملة، كفر صراح بواح، قام عليه البرهان من كلام الله تعالى ومن كلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ثم بفهم سلف الأمة والعلماء السلفيين، فعندئذ نقول:
قال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر) [انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (12/ 229)].
وقال الحافظ ابن حجر: (أنه - أي الإمام - ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض)[ فتح الباري13/ 123)].
وقال السفاقسي: (أجمعوا على أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يثار عليه)[إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري)) (10/ 217)].
وذكر العلامة القرآني الشنقيطي في الأضواء آيات كثيرة في الحُكم، ثم قالويفهم من هذه الآيات كقوله "وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً" أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنه ذبيحة الله:" وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ"[الأنعام:121]، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتّباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى - هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى:" أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ"[ يس:60-61 ]، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم :"يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً"[ مريم: 44]، وقوله تعالى:"إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً"[النساء:117] أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتّباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى:" وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ"[الأنعام:137]الآية. وقد بين النَّبي- صلى الله عليه وسلم- هذا لعدي بن حاتم- رضي الله عنه- لما سأله عن قوله تعالى:" اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله"[ التوبة:31] الآية - فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرّموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى :"أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً"[النساء:60 ] .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله- صلى الله عليهم وسلم-، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.)[حرفيا من أضواء البيان:4/107-109
وهذه الشروط مرتبة من الأخف إلى الأشد والآكد، وهي:
1- ألا ينقلب هو أو يتغلب على حاكم شرعي حيٍّ، فإن فعل ذلك فحكمه أن يقاتَل ولو اقتضى قَتلَه، لحديث «إذا بويع لخليفتين، فاقتلوا الآخِر منهما»[صحيح مسلم، 1853]، والمفرق لجماعة المسلمين: « من أتاكم وأمركم جميعٌ يريد أن يَشُقَّ عصاكم، ويفرِّق جماعتكم، فاقتلوه»[صحيح مسلم برقم:1852] وفي رواية : « فاضربوه بالسيف كائناً من كان »، وفي حديث العرباض ين سارية: « ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع. فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »[مسلم: 1488]، ولحديث:«إنَّا- والله- لا نولي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه»( متفق عليه)، وهذا للطامع المطالب، فكيف بالطاغي المغالب؟
ولأن المسارعة في شرعنة طاعة المتغلب تورث تسلسلَ المتغلبين وإغراءَهم بالتغلب والانقلاب، لطمعهم في تسليم الأمة لهم وطاعتهم، وأمنهم جانب الخروج عليهم ومنازعتهم ومنازلتهم، فتظل الأمة تعيش أحداث المتغلبين القاهرين، أما منازعتهم والأخذ على أيديهم فإنه يقطع الطمع أمامهم فلا يفكرون فيه، فتستقر الأمور وتُؤْمَن الشرور والفجور. كما في علة الحدود الشرعية تماماً، ليكونوا عبرة لغيرهم، والحدُّ حدٌّ لذلك. وكما قال إبراهيم النخعي : (لأن في عدم الانتصار إغراء المتغلب على الظلم) .
والأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الجَوْر، فهي في أئمة جاءوا في فراغ، ولم يغتصبوا حق غيرهم، ثم لم يفرقوا شمل الأمة ويستبيحوا دماءها بهذا التغلب الدموي.
((ولا يكفي هذا الشرط وحده))
2- أن يتغلب فِعْلاً، ويغلب الجميعَ، ويستقر له الأمر، ويستتب له الأمن، وتسكن له العامة والدهماء، وتأمن به الطرق، وتصان به الحرمات، وإلا لم يعد متغلباً، بل يكون موقظاً فتنة كانت نائمة، ومقيماً حرباً على شعب أعزل، حاملا للسلاح على أُمَّةٍ آمنة! لأن العلة للدخول في طاعته ألا نقوض الأمن وقد ساد، وألا نثير الخوف وقد باد، أما والأمير غير متحكِّم، والأمر غير مستقر، والأمن غير مبسوط، والطرق غير آمنة، فما علة الدخول تحت طاعته؟!
وإنما قيل بطاعته مراعاة لمقصد الشريعة في ارتكاب أخف الضررين وأقل المفسدتين، وتفويت أكبرهما، يُصبر على فعله وإن كان هو آثم بفعله هذا. وقد صبر النبي-صلى الله عليه وسلم- على أئمة الشرك والكفر في مكة ولم يخرج عليهم بسلاح، لا ولاء وطاعة، ولكن لأن مفسدة الخروج أكبر من مفسدة لصبر حتى يفتح الله.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجور بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة كانوا فجاروا وظلموا، أي طرأ عليهم الظلم بعد التولية، والقاعدة أنه: يُغتفر في الاستدامة ما لا يُغتفر في الاستئناف، أما تولية الفاسق ابتداءً فمحرمة إجماعاً.((ولا يكفي هذا الشرط وحده)).
3- أن يقيم الدين في الدولة، ويسوسها به، ويقود الأمة بكتاب الله، ويحكمها بشريعته، لحديث :«إن أُمِّر عليكم عبدٌ مجدَّع - حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا»(مسلم،: 183. وفي ألفاظه الأخرى الصحيحة كلها: « ما قادكم بكتاب الله»، « ما أقام لكم كتاب الله». والفاء في «فاسمعوا له وأطيعوا» تعليلية، فتفيد أن ما قبلها علة لما بعدة، يعني أن إقامة الكتاب والقيادة به، وتحكيمه علة لوجوب السمع الطاعة، فإذا زالت العلة زال المعلول، والقاعدة أن "الحكم يدور مع علته، وجودا وعدماً"، وكذلكم حديث:« إنّ هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحدٌ إلا كبَّه الله في النار على وجهه، ما أقاموا الدين»( البخاري، حديث (3500)، وإلا وجب عزله والخروج عليه-عند تحقق القدرة- ولو كان مبايَعا أصلا، فضلا عن أن يكون لصًّا متغلباً. وقبل ذلك آية النساء وفيها:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ"[النساء:59].
قال مصطفى ديب البغا في تعليقه على صحيح البخاري (ما أقاموا الدين) أي تجب طاعتهم وعدم منازعتهم طالما أنهم يقيمون شرع الله عز وجل، ويلتزمون حدوده؛ فإن قصروا في ذلك أو تجاوزوه جازت منازعتهم وسقطت طاعتهم)[ (3/1289) حديث 3309].
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة الظلم والجور والفسوق بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة لم يصل ظلمهم وفسقهم إلى ترك العمل بكتاب الله في الأمة وتعطيل شريعته في حياتها، واستبدالها بقوانين الكفر.
((ولا يكفي هذا الشرط وحده، وإن كان على رأس ما سبق، بل هو علة ومناط ما سيأتي من حكم))
4- أن يكون مسلماً، بإجماع جميع المسلمين، وهذا الشرط في المبايَع فضلا عن المتغلب أو المنقلب! لقوله تعالى:" وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا"[النساء:141]، وأي سبيل أكبر من أن يُحَكِّموهم في دينهم ودنياهم؟
((ولقد أخَّرتُ هذا الشرطَ عمداً، لأنه مربط الفرس في الحكام المعاصرين، وابتدأت بالمذكور أولا، وهو اشتراط الحكم بكتاب الله، حتى يكون حجة حتى على الذين لا يجعلون من نواقض الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله من القوانين الوضعية الوضيعة في التشريع العام، وكأني أرت أن أقول هناك: حتى لو قيل عن الحاكم بغير الشرع أنه مسلم، فشرط طاعته أن يحكم بما أنزل الله، لأن العلة التي من أجلها نُصبت الإمامة، واجتمعت حوله الجماعة، هي حفظ الأمة دينا ودنيا، ولا يتم ذلك إلا بالتمسك بالشريعة وما وراء ترك تحكيم الشريعة إلا الضيق والضنك والضلال، كما نطقت بذلك الآياتُ والأيامُ ... لهذا الإلزام والحجاج أخَّرت الشرط الرابع وهو الأساس الأول)).
فلو أرجعناها إلى لبِّ المسألة، فإننا نناقش هنا قضية ترك الحكم بما أنزل الله والحكم بغيره، والتي هي بذاتها موجبة لمنازعتهم والخروج عليهم بلا خلاف عن العلماء الأولين والسلف الصالحين، ولو طرأت على حاكم مبايعٍ منتخب، فكيف بمتغلب ثم لا يحكم بشريعة الله، لأنه يبتغي حكم الجاهلية، وما سوى حكم الإسلام فهو جاهلية، وما بعد الحق إلا الضلال، وقد قال الله تعالى: " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ"[59].
يقول الإمام السلـفي ابن كثير-رحمه الله- في تفسيرها ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم اليَساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.)[تفسير ابن كثير: 3/131، تحقيق سامي سلامة، نشر دار طيبة]
فهل يجتمع- مع هذا- وجوبُ قتالهم مع وجوبِ طاعتهم.. يا سادة؟!
وهذا على مقتضى قول النبي-صلى الله عليه وسلم-:« وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحا، عندكم من الله فيه برهان»[البخاري: 7056، ومسلم: (1709)]، وما هذا التشريع من دون الله إلا ذلك الكفر البواح الذي عندنا فيه من الله برهان.
وقال الشيخ ابن باز-رحمه الله-فمن خضع لله-سبحانه- وتحاكم إلى وَحْيِهِ, فهو العابد له, ومن خضع لغيره, وتحاكم إلى غير شرعه, فقد عبد الطاغوت, وانقاد له, كما قال الله تعالى-:﴿ألم تَرَ إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أُنزِل إليك وما أُنزِل من قَبْلِكَ يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا﴾[النساء:60]( وجوب تحكيم شريعة الله..ص:7-.
وقال قال الشيخ ابن عثيمين-رحمه الله-(فقال عليه الصلاة والسلام:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله الإمام العادل وشاب نشأ في عبادة ربه ورجل قلبه معلق في المساجد ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله ورجل تصدق أخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه"، لإمام العادل هو الذي عدل في رعيته، ولا عدْل أقوم ولا أوجب من أن يُحَكّم فيهم شريعة الله ، هذا رأس العدل، لأن الله يقول:"إن الله يأمر بالعدل والإحسان"؛ فمن حكم في شعبه بغير شريعة الله، فإنه ما عدل، بل هو كافر والعياذ بالله، لأن الله قال:" من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" فإذا وضع هذا الحاكم لشعبه قوانين تخالف الشريعة، وهو يعلم أنها تخالف الشريعة ، ولكنه عدل عنها وقال: أنا لا أعدل عن القانون؛ فإنه كافر، ولو صلى، ولو تصدَّق، ولو صام، ولو حج، ولو ذكر الله، ولو شهد للرسول بالرسالة، ولو زعم أنه مسلم، فإنه كافر ، مخلد في نار جهنم يوم القيامة)[ورابط المقطع عنا
http://www.dailymotion.com/video/xui...9%86_lifestyle
وهذا العلامة القرآني الشنقيطي-رحمه الله تعالى-يقولالإشراك بالله في حكمه, والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد, لا فرق بينهما البتة, فالذي يتبع نظاما غير نظام الله, وتشريعا غير تشريع الله, كالذي يعبد الصنم ويسجد للوثن, لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه, وكلاهما مشرك بالله)( أضواء البيان:7/162)
ويقول محمد محمود شاكر وإذن ، فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا ، من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام ، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام ، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم. فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه، وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى ، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم، هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار أحكام غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله...)[تعليقا على تفسير الطبري: 10/ 348].
وغير ذلك من أقوال العلماء الكثيرين الذين عرفوا حقيقة القوانين، وحكم الحاكم بها.
وأما الأحاديث الآمرة بالصبر على أئمة اظلم والجور بالنسبة لهذا الشرط؛ فهي في أئمة لم يصل ظلمهم وفسقهم إلى الكفر البواح، والشرك الصُّراح بالتشريع من دونه وإدخال الناس فسرا وقهرا في دين غير دين الله.
وبهذا ثبت بأن تبديل شرع الله بالقوانين الوضعية، حتى تكون هي المصدر الحقيقي للتشريع هو كفر أكبر مخرج من الملة، كفر صراح بواح، قام عليه البرهان من كلام الله تعالى ومن كلام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، ثم بفهم سلف الأمة والعلماء السلفيين، فعندئذ نقول:
قال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر) [انظر: شرح صحيح مسلم للنووي (12/ 229)].
وقال الحافظ ابن حجر: (أنه - أي الإمام - ينعزل بالكفر إجماعًا، فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب، ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض)[ فتح الباري13/ 123)].
وقال السفاقسي: (أجمعوا على أن الخليفة إذا دعا إلى كفر أو بدعة يثار عليه)[إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري)) (10/ 217)].
وذكر العلامة القرآني الشنقيطي في الأضواء آيات كثيرة في الحُكم، ثم قالويفهم من هذه الآيات كقوله "وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً" أن متبعي أحكام المشرعين غير ما شرعه الله أنهم مشركون بالله. وهذا المفهوم جاء مبيناً في آيات أخر. كقوله فيمن اتبع تشريع الشيطان في إباحة الميتة بدعوى أنه ذبيحة الله:" وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ"[الأنعام:121]، فصرح بأنهم مشركون بطاعتهم. وهذا الإشراك في الطاعة، واتّباع التشريع المخالف لما شرعه الله تعالى - هو المراد بعبادة الشيطان في قوله تعالى:" أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ"[ يس:60-61 ]، وقوله تعالى عن نبيه إبراهيم :"يا أبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً"[ مريم: 44]، وقوله تعالى:"إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً"[النساء:117] أي ما يعبدون إلا شيطاناً، أي وذلك باتّباع تشريعه. ولذا سمى الله تعالى الذين يطاعون فيما زينوا من المعاصي شركاء في قوله تعالى:" وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ"[الأنعام:137]الآية. وقد بين النَّبي- صلى الله عليه وسلم- هذا لعدي بن حاتم- رضي الله عنه- لما سأله عن قوله تعالى:" اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله"[ التوبة:31] الآية - فبين له أنهم أحلوا لهم ما حرم الله، وحرّموا عليهم ما أحل الله فاتبعوهم في ذلك، وأن ذلك هو اتخاذهم إياهم أرباباً. ومن أصرح الأدلة في هذا: أن الله جل وعلا في سورة النساء بين أن من يريدون أن يتحاكموا إلى غير ما شرعه الله يتعجب من زعمهم أنهم مؤمنون، وما ذلك إلا لأن دعواهم الإيمان مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت بالغة من الكذب ما يحصل منه العجب. وذلك في قوله تعالى :"أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً"[النساء:60 ] .
وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور: أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة لما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله- صلى الله عليهم وسلم-، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته، وأعماه عن نور الوحي مثلهم.)[حرفيا من أضواء البيان:4/107-109
إمامة المتغلب بين الفقه والتاريخ
أحمد الريسوني
من الأفكار الرائجة في الفقه الإسلامي وفي الثقافة الإسلامية قديما وحديثا القول بشرعية الحكم القائم على القوة والغلبة، بمعنى أن من استولى على الخلافة أو الإمارة بالقوة والسيف، حتى قهر خصومه واستولى على البلاد وسلّم له العباد، فهو إمام شرعي تجب طاعته ولا تجوز معصيته ولا الخروج عليه.
وهذه القضية فيها من الالتباس والتلبيس ما يستوجب تفكيكها وبيان حقيقتها، وهو ما يرمي إليه هذا المقال.
ليست من الإسلام
أعني أن الإسلام لم ينص على مشروعية هذه الطريقة في تولي الحكم، ولا هو أرشد إليها ولا أقر وقوعها ولو في نازلة واحدة، فلا نجد شيئا من هذا لا في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في سنة الخلفاء الراشدين.
أما المسلك الشرعي المنصوص عليه والمأمور به في باب السياسة وتولي الحكم، وفي باب تدبير الشؤون العامة فهو مسلك الشورى وما تسفر عنه من قرار واختيار، وهو الذي قال الله تعالى فيه {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
"لم ينص الإسلام على مشروعية المتغلب في تولي الحكم، ولا هو أرشد إليها ولا أقر وقوعها ولو في نازلة واحدة، فلا نجد شيئا من هذا لا في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في سنة الخلفاء الراشدين"
فما جاءنا عن طريق الشورى ومؤسساتها، من اختيار وتولية وبيعة، أو من عزل وإعفاء وإلغاء، أو من "حل وعقد" فهو شرعي ومشروع، وهو من الإسلام وإليه، لكونه مأمورا به في القرآن والسنة، ومعمولا به في سنة الخلفاء الراشدين.
وقد كان أول تطبيق لمسلك الشورى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التشاور في اختيار خليفة له من بعده، فكان بذلك اختيار أبي بكر وبيعته إماما للمسلمين، وهكذا مضت الأمور على عهد بقية الخلفاء الراشدين: الشورى والاختيار، ولو بأساليب وأشكال متنوعة.
وبناء عليه نستطيع القول بكل ثقة واطمئنان: إن الطريقة الشرعية الوحيدة التي جاء بها الإسلام ونص عليها -لتولي الحكم وانتقاله وتدبير أموره- هي: الشورى والاختيار، مع ترك الطرق والوسائل التفصيلية المعتمدة في ذلك للاجتهاد والتشاور والمراجعة.
بين التاريخ والفقه
مما يقرره ويردده الفقهاء والأصوليون أن النصوص متناهية والوقائع لامتناهية، وأنه يتعذر التنصيص على كافة الحالات والاحتمالات والوقائع الممكنة عبر التاريخ بكل تقلباتها وتشكلاتها التي لا تنتهي، فيبقى كثير منها -أو أكثرها- للاجتهاد والتفاعل بين الفقه والتاريخ.
وفي موضوعنا نجد أن الطرق والأساليب المتبعة في تولي الحكم وتدبير شؤونه عبر التاريخ لا تقف عند حد ولا تلتزم بقيد.
ومن هنا وجد الفقهاء أنفسهم أمام دول تقوم وتسود، وليس فيها مكان للشرعية الإسلامية، أي شرعية الشورى والاختيار، ولكنها على كل حال دول تدين بالإسلام، وتحكم باسم الإسلام، وتنفذ كثيرا من أحكام الإسلام.
ووجدوا -من بين ما وجدوا- أن التاريخ يضعهم أمام حكام تغلبوا وتمكنوا، واستولوا على الحكم وأقاموا دولتهم، لا بالشورى والاختيار من أهل الحل والعقد، ولكن بفضل شوكتهم وقوة عصبيتهم، وربما بفضل سيوفهم وسيوف أنصارهم.
فهذه هي إمامة المتغلب التي ذهب جمهور الفقهاء إلى التعامل معها والإقرار بشرعيتها ونفاذ أحكامها.
وقد يكون من السهل علينا اليوم أن نرمي الفقهاء -في موقفهم هذا- بتهمة التفريط في الشرعية الإسلامية والاستسلام أمام الأمر الواقع، وهو اتهام له -في الجملة- نصيبه من الحق والصواب، أما تفاصيله فالكلام فيها طويل متشعب لا يحتمله المقام.
على أن للفقهاء مستندات واعتبارات عديدة، هي معتمدهم وعذرهم في تسويغ حكم المتغلب إذا ما نزل ووقع، وأهم تلك الاعتبارات والتعليلات ما يلي:
1- إن هذه ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، علما بأن ما يباح في محل الضرورة لا يمكن اعتباره مباحا في غير محلها.
2- إن البديل الشرعي الأمثل (أي الشورى والاختيار) كثيرا ما يكون متعذرا لا سبيل إليه ضمن الممكنات المتاحة في العهود الماضية.
3- إن التغلب والاستيلاء قد يكون في بعض الحالات هو الخيار الأصلح، كحالة الموت المفاجئ للحاكم السابق دون أن يكون له عهد أو ترتيب لمن سيخلفه، أو كحالة كون ولي عهده طفلا صغيرا لا يقدر على شيء، وكحالة أن يأتي الاستيلاء على الحكم بعد أن تكون الدولة القائمة قد غرقت في الفساد والتفكك والانحلال، فيكون المتغلب المستولي هو المنقذ.
4- إن إبطال حكم المتغلب وشرعيته، والمناداة بإزالته بعد الغلبة والتمكن قد يعنيان الدخول في حرب أهلية تهلك الحرث والنسل، وقد تنتهي إلى تقسيم البلد.
5- إن إبطال إمامة المتغلبين يستتبع إبطال كل تصرفاتهم وكل تصرفات الدولة التابعة لهم، مما يعني تعطيل الخدمات والأحكام القضائية وسائر المصالح والحقوق المتوقفة على الدولة وولاتها ومؤسساتها، وهذا فساد عريض لا يقبله شرع ولا عقل.
ومع هذه الاعتبارات القوية والوجيهة في زمانها وظروفها، فقد أحاط الفقهاء قبولهم لإمامة المتغلب بمزيد من الشروط والقيود:
• أن يكون تغلبه واقعا ضد حاكم متغلب، أما حاكم جاء ببيعة أو عهد، وما زال حكمه قائما فلا تنعقد إمامة المتغلب عليه (انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الشافعي
5/423).
• أن يكون الزعيم المتغلب ذا أهلية في ذاته لتولي المنصب، فلا يكون فاسقا ولا ظالما، لأن الله تعالى يقول {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124]. وبناء عليه "قال ابن خُوَيز منداد المالكي "الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا". (تفسير ابن كثير 1/289).
• أن يستتب له الأمر، لا أن يكون باقيا في طور التجاذب والتنازع ما بين مؤيد له ومؤيد لغيره.
• أن يبادر إلى إقامة العدل والحكم بالشرع، إذ بدون تحقيقه هذين الغرضين لا حاجة إليه أصلا.
المتغلب في عصرنا
من المعلوم أن العصر الحديث شهد تطورات هائلة في كثير من مجالات الحياة البشرية وأنماطها، ومنها مجال الحكم والسياسة وتنظيم الشؤون العامة.
"إذا كانت أفريقيا اليوم هي الأكثر تخلفا وانحطاطا وفوضوية بين دول العالم وقاراته فإنها من حيث الشرعية الدستورية والقانونية قد أصبحت أرقى من جامعة الدول العربية وأعضائها، وأرقى من منظمة التعاون الإسلامي ودولها"
ففي هذا المجال نجد على سبيل المثال انتشار فكرة الدساتير المنظمة لشؤون الحكم وإدارة الدولة، وفكرة دولة القانون، ودولة المؤسسات، وتنظيم فكرة فصل السلطات، واعتماد أسلوب الانتخابات والاستفتاءات، وكل هذا لم يكن ممكنا من قبل، أو لم يكن متيسرا في العصور القديمة كما هو اليوم.
على أن التطور الحاصل في هذا المجال ليس فقط سياسيا ودستوريا وفكريا، بل هو -أكثر من ذلك- تطور في التجارب والوسائل والأدوات والإمكانات.
والحقيقة أن هذه التطورات قد أسقطت جميع المسوغات والدواعي لنهج الاستيلاء على الحكم بالقوة والغلبة.
وحين أتأمل ما جاء به الإسلام وطبقه الخلفاء الراشدون من شرعية شورية انتخابية رفيعة -في مطلع القرن الأول- فإني أوشك أن أقول إن ذلك كان سابقا لأوانه، وكان فلتة في زمانه، ولكنه على كل حال رسم للبشرية الصورة المثلى لما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وترك لنا أن نتعارك مع الواقع لإقامة تلك الشرعية بعينها، أو بما يشبهها، أو ما يكون الأقرب إليها.
وها هو الزمان قد استدار دورته، وأصبحت إقامة الشرعية الشورية الانتخابية اليوم ميسرة وفي متناول أيدي المسلمين، ولا يحول بينهم وبينها إلا طبائع الاستبداد وطلائع الاستبلاد.
ولئن كان لولاية التغلب والاستيلاء مسوغات معقولة في العصور الماضية، على الأقل في بعض حالاتها، فإنها اليوم -في ظل شيوع الدساتير والمؤسسات، ويسر تنظيم الاستفتاءات والانتخابات- قد فقدت كل مسوغ لبقائها، بل هي اليوم تعد أسوأ من الرق والقرصنة، لأن الرق والقرصنة كانا يصيبان أفرادا وأطرافا من المجتمعات، أما الاستيلاء على الحكم بالقوة والغلبة وبدون ضرورة ملجئة فهو استرقاق للأمم وقرصنة للدول.
فلذلك يجب القول شرعا إن تولي الحكم عن طريق القوة والغلبة والاستيلاء قد انتهى زمانه وتمحض بطلانه.
وإذا كانت دول القارة الأفريقية تعتبر اليوم هي الأكثر تخلفا وانحطاطا وفوضوية بين دول العالم وقاراته فإنها من حيث الشرعية الدستورية والقانونية قد أصبحت أرقى من جامعة الدول العربية وأعضائها، وأرقى من منظمة التعاون الإسلامي ودولها.
فالاتحاد الأفريقي قد نص في المادة الثلاثين من قانونه الأساسي المعتمد سنة 2000 على أنه "لا يُسمح للحكومات التي تصل إلى السلطة بطرق غير دستورية بالمشاركة في أنشطة الاتحاد".
ثم أصدر في يناير/كانون الثاني 2007 (الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم)، ونص في مادته الثانية على أهداف هذا الميثاق، فكان من بينها ما جاء في الفقرة الرابعة، وهو "رفض وحظر وإدانة التغييرات غير الدستورية للحكومات في أي دولة عضو، باعتبار ذلك تهديدا خطيرا للاستقرار والسلم والأمن والتنمية"، والغريب أن مصر كانت هي الدولة الوحيدة التي تحفظت على هذا الميثاق.
ومنذ سنة 2000 أصبح الاتحاد الأفريقي يبادر بتلقائية إلى تجميد العضوية فيه وفي منظماته وأنشطته، لكل دولة يقع فيها انقلاب عسكري.
وفي الحقيقة، لقد أصبح الاتحاد الأفريقي أكثر تمثلا وتمسكا بالشرعية الإسلامية النيرة من عدد من المشايخ المحسوبين أزهريين أو سلفيين أو من هيئة كبار العلماء ممن يدافعون عن الاستبداد ويشكلون طلائع الاستبلاد.
الانقلابات العسكرية
الحكام المتغلبون -الذين كانوا يستولون على الحكم قديما- كانوا عادة ما ينبثقون من بين الشخصيات ذات الشعبية والمكانة والزعامة في الأمة، ومن ذوي النخوة والشهامة والنجدة، ومن ذوي المؤهلات القيادية والقدرات التأسيسية، فكان هذا مما يسهل نجاحهم ويغري الفقهاء والوجهاء بمبايعتهم والتعاون معهم.
أما الانقلابيون العسكريون في هذا العصر فينبتون في الظلام والتكتم، ويتسلقون بمكر وخداع، ومؤهلاتهم الأساسية عادة لا تتجاوز ثلاثة عناصر، هي:
- الرتبة العسكرية والمنصب العسكري.
- القابلية للخيانة والغدر.
- القدرة على المناورة والمغامرة.
فلذلك لا يمكن أن يكون استيلاؤهم على الحكم سوى سلسلة من الجرائم والكوارث والنكبات، والعرب بالباب كما يقال.
أضف إلى هذا أن الجنود والضباط اليوم في دول الاستبداد والاستبلاد قد أصبحوا يُنشّؤون على فلسفة الغباء والطاعة العمياء، يقتلون ولا يعرفون من يقتلون، ولا لماذا يقتلون، ولا لفائدة من يقتلون.
"يكون الانقلاب العسكري جائزا ومحمودا في حالة واحدة، هي عندما يكون ضد انقلابي سابق، بشرط أن يتم تسليم الحكم بعد الانقلاب للمدنيين المنتخبين في أقرب وقت ممكن"
ومنذ حوالي ثمانين سنة تفطن العلامة السيد رشيد رضا لهذه الحقيقة المرة، فكتب في تفسيره يقول "ولكن الحكام في هذا الزمان مؤيدون بقوة الجند الذين تربيهم الحكومة على الطاعة العمياء، حتى لو أمرتهم أن يهدموا المساجد، ويقتلوا أولي الأمر الموثوق بهم عند أمتهم لفعلوا، فلا يشعر الحاكم بالحاجة إلى أولي الأمر إلا لإفسادهم وإفساد الناس بهم، ولا يريدون أن يقرب إليه منهم إلا المتملق المدهن".
على أن من أخبث الحيل التي بدأ بعض الانقلابيين يتّبعونها هروبا من تطورات العصر واستحقاقاته أنهم بعد تنفيذ انقلابهم واستيلائهم على الحكم، وبعد إحكام قبضتهم على الدولة والمجتمع يعمدون إلى إعداد طبخة ديمقراطية انتخابية، لكسب رداء الشرعية، فإذا بالزعيم الانقلابي يصبح "رئيسا شرعيا منتخبا".
هكذا وقع مرارا في مصر وسوريا والعراق والجزائر وموريتانيا والسودان والصومال وتشاد.
ولذلك وجب القول إن كل انقلابي متغلب يتمسك بالحكم بعد الانقلاب، ويوطد أقدامه ليستمر فيه، بأي حيلة أو خدعة، فهو غاصب ظالم: بانقلابه أولا، وباستمراره فيه ثانيا، وبكافة جرائمه في حق البلاد والعباد.
ويبقى أن الانقلاب العسكري يكون جائزا ومحمودا في حالة واحدة، هي عندما يكون ضد انقلابي سابق، بشرط أن يتم تسليم الحكم بعد الانقلاب للمدنيين المنتخبين في أقرب وقت ممكن، وهذا ما فعله السيدان الفاضلان: المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان، والعقيد اعل ولد محمد ولد فال في موريتانيا.
وهذه القضية فيها من الالتباس والتلبيس ما يستوجب تفكيكها وبيان حقيقتها، وهو ما يرمي إليه هذا المقال.
ليست من الإسلام
أعني أن الإسلام لم ينص على مشروعية هذه الطريقة في تولي الحكم، ولا هو أرشد إليها ولا أقر وقوعها ولو في نازلة واحدة، فلا نجد شيئا من هذا لا في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في سنة الخلفاء الراشدين.
أما المسلك الشرعي المنصوص عليه والمأمور به في باب السياسة وتولي الحكم، وفي باب تدبير الشؤون العامة فهو مسلك الشورى وما تسفر عنه من قرار واختيار، وهو الذي قال الله تعالى فيه {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].
"لم ينص الإسلام على مشروعية المتغلب في تولي الحكم، ولا هو أرشد إليها ولا أقر وقوعها ولو في نازلة واحدة، فلا نجد شيئا من هذا لا في القرآن الكريم، ولا في السنة الشريفة، ولا في سنة الخلفاء الراشدين"
فما جاءنا عن طريق الشورى ومؤسساتها، من اختيار وتولية وبيعة، أو من عزل وإعفاء وإلغاء، أو من "حل وعقد" فهو شرعي ومشروع، وهو من الإسلام وإليه، لكونه مأمورا به في القرآن والسنة، ومعمولا به في سنة الخلفاء الراشدين.
وقد كان أول تطبيق لمسلك الشورى بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التشاور في اختيار خليفة له من بعده، فكان بذلك اختيار أبي بكر وبيعته إماما للمسلمين، وهكذا مضت الأمور على عهد بقية الخلفاء الراشدين: الشورى والاختيار، ولو بأساليب وأشكال متنوعة.
وبناء عليه نستطيع القول بكل ثقة واطمئنان: إن الطريقة الشرعية الوحيدة التي جاء بها الإسلام ونص عليها -لتولي الحكم وانتقاله وتدبير أموره- هي: الشورى والاختيار، مع ترك الطرق والوسائل التفصيلية المعتمدة في ذلك للاجتهاد والتشاور والمراجعة.
بين التاريخ والفقه
مما يقرره ويردده الفقهاء والأصوليون أن النصوص متناهية والوقائع لامتناهية، وأنه يتعذر التنصيص على كافة الحالات والاحتمالات والوقائع الممكنة عبر التاريخ بكل تقلباتها وتشكلاتها التي لا تنتهي، فيبقى كثير منها -أو أكثرها- للاجتهاد والتفاعل بين الفقه والتاريخ.
وفي موضوعنا نجد أن الطرق والأساليب المتبعة في تولي الحكم وتدبير شؤونه عبر التاريخ لا تقف عند حد ولا تلتزم بقيد.
ومن هنا وجد الفقهاء أنفسهم أمام دول تقوم وتسود، وليس فيها مكان للشرعية الإسلامية، أي شرعية الشورى والاختيار، ولكنها على كل حال دول تدين بالإسلام، وتحكم باسم الإسلام، وتنفذ كثيرا من أحكام الإسلام.
ووجدوا -من بين ما وجدوا- أن التاريخ يضعهم أمام حكام تغلبوا وتمكنوا، واستولوا على الحكم وأقاموا دولتهم، لا بالشورى والاختيار من أهل الحل والعقد، ولكن بفضل شوكتهم وقوة عصبيتهم، وربما بفضل سيوفهم وسيوف أنصارهم.
فهذه هي إمامة المتغلب التي ذهب جمهور الفقهاء إلى التعامل معها والإقرار بشرعيتها ونفاذ أحكامها.
وقد يكون من السهل علينا اليوم أن نرمي الفقهاء -في موقفهم هذا- بتهمة التفريط في الشرعية الإسلامية والاستسلام أمام الأمر الواقع، وهو اتهام له -في الجملة- نصيبه من الحق والصواب، أما تفاصيله فالكلام فيها طويل متشعب لا يحتمله المقام.
على أن للفقهاء مستندات واعتبارات عديدة، هي معتمدهم وعذرهم في تسويغ حكم المتغلب إذا ما نزل ووقع، وأهم تلك الاعتبارات والتعليلات ما يلي:
1- إن هذه ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، علما بأن ما يباح في محل الضرورة لا يمكن اعتباره مباحا في غير محلها.
2- إن البديل الشرعي الأمثل (أي الشورى والاختيار) كثيرا ما يكون متعذرا لا سبيل إليه ضمن الممكنات المتاحة في العهود الماضية.
3- إن التغلب والاستيلاء قد يكون في بعض الحالات هو الخيار الأصلح، كحالة الموت المفاجئ للحاكم السابق دون أن يكون له عهد أو ترتيب لمن سيخلفه، أو كحالة كون ولي عهده طفلا صغيرا لا يقدر على شيء، وكحالة أن يأتي الاستيلاء على الحكم بعد أن تكون الدولة القائمة قد غرقت في الفساد والتفكك والانحلال، فيكون المتغلب المستولي هو المنقذ.
4- إن إبطال حكم المتغلب وشرعيته، والمناداة بإزالته بعد الغلبة والتمكن قد يعنيان الدخول في حرب أهلية تهلك الحرث والنسل، وقد تنتهي إلى تقسيم البلد.
5- إن إبطال إمامة المتغلبين يستتبع إبطال كل تصرفاتهم وكل تصرفات الدولة التابعة لهم، مما يعني تعطيل الخدمات والأحكام القضائية وسائر المصالح والحقوق المتوقفة على الدولة وولاتها ومؤسساتها، وهذا فساد عريض لا يقبله شرع ولا عقل.
ومع هذه الاعتبارات القوية والوجيهة في زمانها وظروفها، فقد أحاط الفقهاء قبولهم لإمامة المتغلب بمزيد من الشروط والقيود:
• أن يكون تغلبه واقعا ضد حاكم متغلب، أما حاكم جاء ببيعة أو عهد، وما زال حكمه قائما فلا تنعقد إمامة المتغلب عليه (انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للشربيني الشافعي
5/423).
• أن يكون الزعيم المتغلب ذا أهلية في ذاته لتولي المنصب، فلا يكون فاسقا ولا ظالما، لأن الله تعالى يقول {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين} [البقرة: 124]. وبناء عليه "قال ابن خُوَيز منداد المالكي "الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكما ولا مفتيا ولا شاهدا ولا راويا". (تفسير ابن كثير 1/289).
• أن يستتب له الأمر، لا أن يكون باقيا في طور التجاذب والتنازع ما بين مؤيد له ومؤيد لغيره.
• أن يبادر إلى إقامة العدل والحكم بالشرع، إذ بدون تحقيقه هذين الغرضين لا حاجة إليه أصلا.
المتغلب في عصرنا
من المعلوم أن العصر الحديث شهد تطورات هائلة في كثير من مجالات الحياة البشرية وأنماطها، ومنها مجال الحكم والسياسة وتنظيم الشؤون العامة.
"إذا كانت أفريقيا اليوم هي الأكثر تخلفا وانحطاطا وفوضوية بين دول العالم وقاراته فإنها من حيث الشرعية الدستورية والقانونية قد أصبحت أرقى من جامعة الدول العربية وأعضائها، وأرقى من منظمة التعاون الإسلامي ودولها"
ففي هذا المجال نجد على سبيل المثال انتشار فكرة الدساتير المنظمة لشؤون الحكم وإدارة الدولة، وفكرة دولة القانون، ودولة المؤسسات، وتنظيم فكرة فصل السلطات، واعتماد أسلوب الانتخابات والاستفتاءات، وكل هذا لم يكن ممكنا من قبل، أو لم يكن متيسرا في العصور القديمة كما هو اليوم.
على أن التطور الحاصل في هذا المجال ليس فقط سياسيا ودستوريا وفكريا، بل هو -أكثر من ذلك- تطور في التجارب والوسائل والأدوات والإمكانات.
والحقيقة أن هذه التطورات قد أسقطت جميع المسوغات والدواعي لنهج الاستيلاء على الحكم بالقوة والغلبة.
وحين أتأمل ما جاء به الإسلام وطبقه الخلفاء الراشدون من شرعية شورية انتخابية رفيعة -في مطلع القرن الأول- فإني أوشك أن أقول إن ذلك كان سابقا لأوانه، وكان فلتة في زمانه، ولكنه على كل حال رسم للبشرية الصورة المثلى لما ينبغي أن تكون عليه الأمور، وترك لنا أن نتعارك مع الواقع لإقامة تلك الشرعية بعينها، أو بما يشبهها، أو ما يكون الأقرب إليها.
وها هو الزمان قد استدار دورته، وأصبحت إقامة الشرعية الشورية الانتخابية اليوم ميسرة وفي متناول أيدي المسلمين، ولا يحول بينهم وبينها إلا طبائع الاستبداد وطلائع الاستبلاد.
ولئن كان لولاية التغلب والاستيلاء مسوغات معقولة في العصور الماضية، على الأقل في بعض حالاتها، فإنها اليوم -في ظل شيوع الدساتير والمؤسسات، ويسر تنظيم الاستفتاءات والانتخابات- قد فقدت كل مسوغ لبقائها، بل هي اليوم تعد أسوأ من الرق والقرصنة، لأن الرق والقرصنة كانا يصيبان أفرادا وأطرافا من المجتمعات، أما الاستيلاء على الحكم بالقوة والغلبة وبدون ضرورة ملجئة فهو استرقاق للأمم وقرصنة للدول.
فلذلك يجب القول شرعا إن تولي الحكم عن طريق القوة والغلبة والاستيلاء قد انتهى زمانه وتمحض بطلانه.
وإذا كانت دول القارة الأفريقية تعتبر اليوم هي الأكثر تخلفا وانحطاطا وفوضوية بين دول العالم وقاراته فإنها من حيث الشرعية الدستورية والقانونية قد أصبحت أرقى من جامعة الدول العربية وأعضائها، وأرقى من منظمة التعاون الإسلامي ودولها.
فالاتحاد الأفريقي قد نص في المادة الثلاثين من قانونه الأساسي المعتمد سنة 2000 على أنه "لا يُسمح للحكومات التي تصل إلى السلطة بطرق غير دستورية بالمشاركة في أنشطة الاتحاد".
ثم أصدر في يناير/كانون الثاني 2007 (الميثاق الأفريقي للديمقراطية والانتخابات والحكم)، ونص في مادته الثانية على أهداف هذا الميثاق، فكان من بينها ما جاء في الفقرة الرابعة، وهو "رفض وحظر وإدانة التغييرات غير الدستورية للحكومات في أي دولة عضو، باعتبار ذلك تهديدا خطيرا للاستقرار والسلم والأمن والتنمية"، والغريب أن مصر كانت هي الدولة الوحيدة التي تحفظت على هذا الميثاق.
ومنذ سنة 2000 أصبح الاتحاد الأفريقي يبادر بتلقائية إلى تجميد العضوية فيه وفي منظماته وأنشطته، لكل دولة يقع فيها انقلاب عسكري.
وفي الحقيقة، لقد أصبح الاتحاد الأفريقي أكثر تمثلا وتمسكا بالشرعية الإسلامية النيرة من عدد من المشايخ المحسوبين أزهريين أو سلفيين أو من هيئة كبار العلماء ممن يدافعون عن الاستبداد ويشكلون طلائع الاستبلاد.
الانقلابات العسكرية
الحكام المتغلبون -الذين كانوا يستولون على الحكم قديما- كانوا عادة ما ينبثقون من بين الشخصيات ذات الشعبية والمكانة والزعامة في الأمة، ومن ذوي النخوة والشهامة والنجدة، ومن ذوي المؤهلات القيادية والقدرات التأسيسية، فكان هذا مما يسهل نجاحهم ويغري الفقهاء والوجهاء بمبايعتهم والتعاون معهم.
أما الانقلابيون العسكريون في هذا العصر فينبتون في الظلام والتكتم، ويتسلقون بمكر وخداع، ومؤهلاتهم الأساسية عادة لا تتجاوز ثلاثة عناصر، هي:
- الرتبة العسكرية والمنصب العسكري.
- القابلية للخيانة والغدر.
- القدرة على المناورة والمغامرة.
فلذلك لا يمكن أن يكون استيلاؤهم على الحكم سوى سلسلة من الجرائم والكوارث والنكبات، والعرب بالباب كما يقال.
أضف إلى هذا أن الجنود والضباط اليوم في دول الاستبداد والاستبلاد قد أصبحوا يُنشّؤون على فلسفة الغباء والطاعة العمياء، يقتلون ولا يعرفون من يقتلون، ولا لماذا يقتلون، ولا لفائدة من يقتلون.
"يكون الانقلاب العسكري جائزا ومحمودا في حالة واحدة، هي عندما يكون ضد انقلابي سابق، بشرط أن يتم تسليم الحكم بعد الانقلاب للمدنيين المنتخبين في أقرب وقت ممكن"
ومنذ حوالي ثمانين سنة تفطن العلامة السيد رشيد رضا لهذه الحقيقة المرة، فكتب في تفسيره يقول "ولكن الحكام في هذا الزمان مؤيدون بقوة الجند الذين تربيهم الحكومة على الطاعة العمياء، حتى لو أمرتهم أن يهدموا المساجد، ويقتلوا أولي الأمر الموثوق بهم عند أمتهم لفعلوا، فلا يشعر الحاكم بالحاجة إلى أولي الأمر إلا لإفسادهم وإفساد الناس بهم، ولا يريدون أن يقرب إليه منهم إلا المتملق المدهن".
على أن من أخبث الحيل التي بدأ بعض الانقلابيين يتّبعونها هروبا من تطورات العصر واستحقاقاته أنهم بعد تنفيذ انقلابهم واستيلائهم على الحكم، وبعد إحكام قبضتهم على الدولة والمجتمع يعمدون إلى إعداد طبخة ديمقراطية انتخابية، لكسب رداء الشرعية، فإذا بالزعيم الانقلابي يصبح "رئيسا شرعيا منتخبا".
هكذا وقع مرارا في مصر وسوريا والعراق والجزائر وموريتانيا والسودان والصومال وتشاد.
ولذلك وجب القول إن كل انقلابي متغلب يتمسك بالحكم بعد الانقلاب، ويوطد أقدامه ليستمر فيه، بأي حيلة أو خدعة، فهو غاصب ظالم: بانقلابه أولا، وباستمراره فيه ثانيا، وبكافة جرائمه في حق البلاد والعباد.
ويبقى أن الانقلاب العسكري يكون جائزا ومحمودا في حالة واحدة، هي عندما يكون ضد انقلابي سابق، بشرط أن يتم تسليم الحكم بعد الانقلاب للمدنيين المنتخبين في أقرب وقت ممكن، وهذا ما فعله السيدان الفاضلان: المشير عبد الرحمن سوار الذهب في السودان، والعقيد اعل ولد محمد ولد فال في موريتانيا.