معركة بلاط الشهداء
معركة بلاط الشهداء
معركة بلاط الشهداء هي معركة حصلت في شهر رمضان من سنة 114هـ، الموافق لشهر أكتوبر من سنة 732م[31]. وهناك اختلاف بين المراجع على متى بدأت المعركة بالضبط ومتى انتهت، وكم كانت مدتها، وقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن علي الحجي أنها استمرت حوالي 10 أيام[32]، بين قوات مسلمة أكثرها من الأمازيغ مع بعض العرب لصالح الدولة الأموية[33]، بقيادة رجل من التابعين يدعى عبد الرحمن الغافقي، وقوات نصرانية ووثنية يشار إليها كثيراً بقوات الشمال، أكثرها من أوستراسيا[34]، ونيوستريا[35]، وبورغانديا، وشوابيا (السويف)[36]، بالإضافة إلى قوات من مرتزقة وثنيين لقبائل جرمانية عدة من حدود الراين[37][38] أشهرها السكسون[39]، بالإضافة إلى قوات يشار إليها بشكل خاص (بسبب محاربتها للمسلمين من قبل) تابعة لأقطانيا بقيادة الدوق أودو (أودو العظيم -اللقب الذي اتخذه لنفسه-)، بالإضافة إلى قوات من اللومبارد البابوية الإيطالية، وقوات أخرى من مختلف أنحاء أوربا كبلغاريا[40][41] جاءت لتقاتل تحت شعار إنقاذ المسيحية والكنيسة الكاثوليكية في أوربا[42][43]، لذلك يشار كثيراً إلى المعركة على أنها سبقت عصرها والحملات الصليبية في القرون الوسطى[44][45].
اجتمعت قوات الفرنجة (وكلمة الفرنجة هي إشارة عربية إلى كل شعوب أوربا التي حاربت المسلمين[46]، واستعملها أهل الأندلس وكُتَّابُها ومؤرخوها للإشارة إلى شعوب أوربا كلها ما وراء جبال البرتات [في الأرض الكبيرة][47]، في حين يستعملها البعض الآخر من المؤرخين للإشارة إلى إمبراطورية الفرنجة التي بدأت في أوستراسيا وتوسعت لتشمل أجزاء كبيرة من أوربا) تحت قيادة محافظ القصر الميروفنجي الأوستراسي قارلة (تشارلز)[48]، والملك الميروفنجي حينئذ هو تيودوريك الرابع[49]، وكان ملوك الميروفنجيين ضعفاء لا يقدرون على شيء والسلطة كلها بيد محافظ القصر وحده
التسمية والموقع
تسمى المعركة عند العرب بمعركة بلاط الشهداء، وكلمة بلاط في اللغة العربية هي من نفس الأصل الذي خرجت منه كلمة بالاتيوم Palatium اللاتينية، وكلمة بالاس Palace الإنجليزية[51]، وتعني حتماً القصر، حيث كان العرب يستعملونها للإشارة إلى قصور الملوك، وتمييزها عن ما دونها من القصور، وغير صحيح ما تردد عن أن معنى الكلمة هو الطريق المعبد، فهذا الاستعمال لم يظهر إلا فيما بعد.
ولهذا، فإن معركة بلاط الشهداء تعني معركة قصر الشهداء الملكي (في اللغة العربية). وقد ذكر الدكتور شوقي أبو خليل أن كلمة البلاط لاتعني الطريق المبلط، لكن المراد بكلمة البلاط في لغة أهل الأندلس هو القصر[52]. كما أوردت معاجم العرب، كالمعجم الغني والمعجم الرائد والمعجم الوسيط، أن لكلمة البلاط معنىً هو قصر الملك ومجلسه، ومعاني أخرى كمعنى حجارة الطريق، ويشار هنا إلى أن المعنى الأصلي للكلمة هو قصر الملك، استدلالاً من اشتقاق الكلمة، وأما المعاني الأخرى فقد ظهرت فيما بعد، ووفقاً لما أورده الدكتور شوقي أبو خليل، فالظاهر أن المعنى (قصر الملك) بقي على حاله عند أهل المغرب والأندلس، في حين تحور عند أهل المشرق من العرب مع الزمن.
ومما يؤكد أيضاً أن الذي يقصده المؤرخون المسلمون بالبلاط هو قصر الملوك وإجلال الشهداء، أن بعض المؤرخين المسلمين استخدموا عبارة "موقعة البلاط" للإشارة إلى معارك أخرى قدم فيها المسلمون الكثير من الشهداء، كمعركة تولوز[53][54].
لقد أطلق المسلمون اسم بلاط الشهداء على موقع المعركة، كما أطلقوها على المعركة نفسها، تخليداً لذكرى شهدائهم الذين استبسلوا في المعركة بما يفوق الوصف والتعبير، فالمعنى الذي يعطيه الاسم هو أن أرض المعركة باتت بلاطاً ملكياً جليلاً خالداً لهم عبقاً بدمائهم الطاهرة [بحسب ما يعنيه المسلمون من التسمية]، وهذا هو المعنى الذي يقصده المسلمون، وهو عائد لهم ولمعتقادتهم، ويُستَشَفُّ ذلك من رواية ابن حيان، وويكيبيديا تلتزم الحيادية فتذكر سبب التسمية الإسلامية كما هي، كما أنها تذكر سبب التسمية الغربية، كما سماها الغربيون، كما هي.
هناك رواية إسلامية نقلاً عن ابن حيان تتحدث عن أن الأذان لبث عصوراً طويلة يسمع في بلاط الشهداء[55].
أما قوات الشمال فقد أطلقت على المعركة اسم معركة تور Battle of Tours نسبة إلى مدينة تور، كما أطلقت عليها اسم معركة بواتييه Poitiers، وأحياناً Battle of Tours-Poitiers معركة تور-بواتييه[56]، وتسمية المعركة "معركة تور" أفضل، لتمييزها عن "معركة بواتييه" التي جرت بين بريطانيا وفرنسا خلال حرب المائة عام. أما موقع المعركة فيطلقون عليه اسم Moussais-la-Bataille موساي لاباتاي[57]، وقد أشار كل من الدكتور عبد الرحمن علي الحجي والدكتور عبد الفتاح مقلد الغنيمي إلى قرية هي من ضمن موقع المعركة تدعى خندق الملك Fossi le Roi، حيث اكتشفت هناك حديثاً سيوف عربية[58][59]. وموقع المعركة هو سهل ممتد بين تور وبواتييه، محدد من الشرق بمجرى نهر فيين الذي يرفد نهر اللوار[60].
الأحداث التي سبقت المعركة
انطلاق حملة الغافقي
حشد الغافقي جيشاً قوامه 50 ألف مقاتل، وهو أكبر جيش أموي دخل الأندلس وغاليا حتى ذلك الوقت[61]، حتى طارق بن زياد كان جيشه 7 آلاف، و طريف بن مالك كان جيشه 5 آلاف، و موسى بن نصير كان جيشه 18 ألف، فكان جيشهم جميعاً 30 ألف مقاتل[62]، وبذلك يكون الغافقي قد جهز حملة لم يسبق لأحد من قادة الأمويين قبله أن جهز مثلها.
كان الغافقي من طراز حسان بن النعمان يعمد إلى الفتح وترسيخه وتعزيز الحاميات قبل الانطلاق إلى فتحٍ غيره[63]، فانطلق في البداية من سرقسطة تلقاء إقليم كاتالونيا في الأندلس، و هو أقرب إقليم إلى بلاد الغال، فقواه وقضى على المتمردين فيه، ثم تحرك إلى إقليم سبتمانيا الأموي فعزز وجودهم فيه، وعاد بعدها إلى مدينة بنبلونة في شمالي أيبريا، فانطلق منها وعبر معبر الرونسفال في جبال المعابر أو جبال الأبواب (في اللاتينية تسمى جبال البرت Porta، وتعني الباب)[64]، وكان هدفه أقطانيا (والتي كانت حدودها تنتهي عند نهر اللوار) والدوق أودو.
وصل الغافقي إلى إقليم أقطانيا، وسار في الطرف الغربي من فرنسا باتجاه الشمال، ثم انحرف باتجاه الشرق والجنوب إلى مدينة آرليس فاعاد فتحها وحصن المسلمين فيها، ثم عاد إلى أقطانيا وكان حريصاً على أن يصل أقطانيا بسبتمانيا، لتمكين المسلمين من كلا الإقليمين معاً.
معركة نهر الجارون
كان أودو حاكم أقطانيا قد جمع للغافقي كل ما استطاع، وكان حاكماً ذا سلطة ونفوذ وعلى اتصال مستمر ببابا الكنيسة في روما، ويطلق على نفسه لقب أودو العظيم، فخرج للقاء الغافقي، والتحم الجيشان في معركة نهر الجارون الضارية، والتي انتقم فيها الغافقي لمقتل القائد الذي أحبه، السمح بن مالك الخولاني، ففتك الأمويون في تلك المعركة بجيش أودو، وكثر القتل فيهم، حتى قال بعض المؤرخين: إن الله وحده يعلم عدد القتلى[65].
وبعد هذه المعركة الحاسمة، فتحت مدن ومقاطعات أقطانيا بالكامل[66]، ويشار من بينها إلى مدينة بوردو عاصمة الإقليم[67]. وصل الغافقي إلى بواتييه ففتحها ثم وصل إلى تور الواقعة على نهر اللوار و فتحها أيضاً[68]، وبذلك بات على مشارف ممالك الشمال الجرمانية والفرنجية.
بعد معركة نهر الجارون لم يكن الغافقي ينوي التقدم أكثر من ذلك، بل كان ينوي تحصين المدن المفتوحة وتقويتها لتصبح ثغراً للمسلمين، كما هي الحال في سبتمانيا، ولم يكن معه من الجند ما يكفي لفتح مدن أكثر، فبعد مسيرة طويلة في جنوب غالة وغربها، وبعد معركة نهر الجارون الضارية، لم يكن قد بقي معه أكثر من 10-30 ألف مقاتل[69].
كان قارلة -الملك الفعلي للفرنجة- رجلاً ذكياً، فطوال فتوحات الأمويين في غالة، ظل بعيداً نائيا بنفسه عن مواجهتهم، على الرغم من أنها كانت على مقربة من أرضه، ولطالما دخلت أرضه وصالت فيها وجالت أيضاً كحملة عنبسة بن سحيم الكلبي -والتي افتتحت إقليم بورغانديا بالكامل الذي هو جزء من مملكة قارلة، ووصلت سراياها حتى سفوح جبال فوسغس في قلب مملكة الفرنجة-[70]، ولكن قارلة لم يفعل شيئاً لهم، ولم يجرؤ على التصدي لعنبسة أو الظهور على ساحة الأحداث أبداً، بل وتذكر المصادر التاريخية الإسلامية أن حملة عنبسة لم تلق مقاومة تذكر[71]، وأنه آثر العودة إلى قاعدته لأسباب استراتيجية، لأنه شعر أنه توغل كثيراً في أرضٍ لا تزال مجهولةً بالنسبة للمسلمين[72][73]، وتذكر بعض هذه المصادر [ابن عذارى (البيان المغرب، ج2، ص26)، وابن الأثير (الجزء5، ص373)] أيضاً أنه مات ميتة طبيعية ولم يقتل[74].
لقد رأى قارلة أن المسلمين في معاركهم وفتوحاتهم أصحاب هممٍ عالية، وإيمان كبير بالرسالة التي يقاتلون من أجلها، و أن مواجهتهم وهم في أوج قوتهم ليست في صالحه، فترك أقطانيا وغيرها -وهم خصوم قارلة الذين أجبرتهم غزوات الأمويين على اللجوء إليه والتحالف معه- ينالهم من الأمويين ماينالهم، في حين كان قارلة يعد العدد والعتاد، ويرسل الرسل في البلاد، ويفعل كل ما بوسعه من إعداد للاشتباك في الوقت المناسب[75].
وبالفعل، فبعد أن تمكن الأمويون من ممالك غالة وملوكها، ووصل بهم الأمر إلى أن الخطوة القادمة كانت ستكون صولة قوية في الشمال أقوى من صولة عنبسة، قرر تشارلز أن الوقت قد حان للقاء الأمويين مباشرة بعد أن خاضوا حروبهم الأخيرة، و ألا يتيح المجال أمام الغافقي كي يوطد لنفسه ورجاله، و يعيد تجديد حملته، و يجلب الإمدادات.
و صادف ذلك قدوم أودو -منافس قارلة- إليه، وكان أودو قد أعاد لملمة رجاله وقواته، ولكنها لم تكن تكفيه كي يستعيد ملكه، فتوسل إلى قارلة كي يساعده في استعادة أقطانيا[76][77]، وهذا بالضبط ما أراده تشارلز، حيث أخذ من أودو ميثاقاً بالولاء له ولدولته، وكان له ما أراد، (وهكذا تحالف أودو العظيم مع تشارلز مارتل) ضد المسلمين[78].
قوات الشمال تزحف باتجاه رافد اللوار
خرج قارلة بجيش كبير جداً[79]، حيث كان قد جلب مرتزقة ومقاتلين من حدود الراين[80] و قوات من بورغانديا، ومتطوعين من كل أنحاء أوربا وبرعاية من بابا الكنيسة في روما، كما انضم إليهم أودو بفلول جيشه، فبات جلياً أن انهزام الجيش سيعني انكسار ممالك أوربا كلها.
كان عبد الرحمن قد وصل تور كما أسلفنا مع من تبقى من جيشه، وكانت حملته بحاجة إلى إعادة وتجديد ودعم بالإمدادات لتعويض ما خسرته من جنود في أقطانيا وكاتالونيا وسبتمانيا وغيرها سواء في المعارك التي خاضتها أو في الحاميات التي خلفتها ورائها أو غير ذلك[81][82].
أراد قارلة ألا يتيح هذا المجال أمام الغافقي، وأن يسارع لمواجهته في هذا التوقيت، فاختار زمان المعركة الذي يناسبه، كما أنه أراد أن يختار أرض المعركة أيضاً، فهو علم أن تفوق القوط على المسلمين بحوالي عشرة أضعاف لم يسعفهم في معركة وادي لكة، وكذلك كان الأقطانيون والروم والفرس وغيرهم الذين لطالما خسروا معاركهم مع المسلمين على الرغم من تفوقهم عليهم كثيراً في العدة والعتاد، كالقادسية واليرموك وغيرها.
كان قارلة يعلم عدوه جيداً، ويعلم أنه قادر على أن يهزم جيشه على الرغم مما حشده له و أعده، فهو لطالما سمع عن المسلمين وانتصاراتهم في شرق الأرض وغربها، شمالها وجنوبها، وهاهم الآن قد وصلوا أرضه مككللين بالنصر والأمجاد، رغم قلة أعدادهم وعتادهم. لم يكن قارلة مسيحياً متديناً، ولم يحارب هو بحد ذاته من أجل الصليب، بل غلب على طبعه وسياسته العكس تماماً، وكان كثيرون من مقاتليه مرتزقة وثنيون (خصوصاً أبناء القبائل الجرمانية)[83] غلبت على معتقداتهم الأساطير والخرافات، فكان قارلة يقاتل رغبةً في إحداث شعور النصر لديه، كعادة الجرمان (والذين يشابهون الأعراب في جلافتهم)، كان قارلة يسعى إلى مواصلة انتصاراته وتوسيع نفوذه ومملكته طوال سيرته العسكرية، كان يرغب بميراث أمجاد الروم وغيرهم، وعلى مختلف الجبهات، فهو مثلاً كان حريصاً على أن يضم ممالك أودو إليه قبل المسير للقاء المسلمين.
رأى قارلة أن مواجهة المسلمين وهم متحصنون في تور ستكسر كثرة جيشه، فرأى أن يستدرجهم إلى خارج المدينة إلى السهل الواقع غرب رافد نهر اللوار، حيث سيمكنه هذا السهل من محاصرة المسلمين من الخلف، ومن أكثر من جهة، معززاً بذلك تفوق الكثرة على القلة.
مع الإشارة هنا إلى أن هذا السهل هو سهل أحراش، الأمر الذي ساعد المسلمين نوعاً ما في صمودهم في المعركة، في حين يرى آخرون -ومنهم الغنيمي- أن الأحراش لعبت دوراً سلبياً بالنسبة للمسلمين.
أرسل قارلة فرقاً صغيرة من طلائع جيشه إلى الضفة الشرقية من النهر، فعندما علم بأمرها عبد الرحمن، أرسل فرقاً استطلاعية لكشفها، وعادت تلك الفرق تخبره أنها فرق قليلة العدد يسهل القضاء عليها، فخرج عبد الرحمن من المدينة لمواجهتها، وبذلك تحقق لقارلة ما أراد، فعندما عبر الغافقي و قواته إلى ضفة النهر الشرقية، حرك قارلة قواته باتجاه أرض المعركة، وكانت مهولة الكثرة كالطوفان المندفع[84][85].
عندما رأى عبد الرحمن هذا الجمع الهائل ارتد بقواته إلى السهل بين تور وبواتييه[86][87]، لقد أدرك عندها ما أراده عدوه، وأنه أراد الإيقاع به وبقواته في السهل، حيث سيظهر تفوق العدد بشكل واضح جداً.
أخذ عبد الرحمن يعد بعض التحصينات، ومن المحتمل أنه عمد إلى حفر خندقٍ حول مؤخرة الجيش كي يحبط محاولات الفرنجة للاتفاف عليه، ومما يشير إلى ذلك اكتشافات حديثة لسيوف عربية هناك في منطقة تدعى خندق الملك Fossi le-Roi وفق ما أورده الدكتور الأستاذ عبد الرحمن علي الحجي[88] وأشار إليه أيضاً الدكتور الغنيمي[89]، والمرجح أن المقصود بالملك هو عبد الرحمن الغافقي، والخندق هو الخندق الذي عمد إلى حفره، ولكن الظاهر أن هذا الخندق كان سريع الإعداد هش المفعول ولم يتسن للمسلمين الوقت كي يكملوه كما يجب.
تقدم قارلة بقوات الشمال ونزل على مواجهة مع الجيش الأموي، استعداداً للمعركة، حيث انحرف الجيش الأموي قليلاً وتجمع في جهة الجنوب باتجاه بواتييه -كي يؤمن اتصاله بالجنوب-، وكان جيش أوربا ينحرف قليلاً ويتجمع في جهة الشمال باتجاه تور -كي يؤمن اتصاله بالشمال-[90].
المعركة
مناوشات بين الجيشين لحوالي 9 أيام
استمرت بين الجيشين مناوشات لحوالي 9 أيام، ويبدو أنها شهدت تفوق الأمويين مما دفعهم إلى شن الهجوم في اليوم الأخير، ويبدو أيضاً أن قارلة عمد إلى تعزيز كثرة قواته بإطالة أمد المعركة، فأرسل يطلب المزيد من المدد من المدن المجاورة في حين أن الغافقي كان يحتاج لكل مقاتليه في المعركة، ولا يمكنه أن يتخلى عن بعضهم كي يرسلهم في طلب المدد، كما أن الطرق لم تكن مؤمنة بعد بما يكفي للرسل الأمويين -يشار هنا بشكل خاص إلى جبال الأبواب المسكونة بقطاع الطرق والعصابات-، وهذا الأمر يرجح أيضاً أنه كان سبباً في شن الأمويين هجومهم في اليوم الأخير كي لا تطول المعركة و تزيد الإمدادات القادمة لقوات الشمال، عدا عن ذلك فإن الأمويين قليلو العدد ستكثر جراحهم ويقل عددهم أكثر إذا طالت المعركة. وقدأشارت إحدى المصادر إلى أن الغافقي لو أرسل في طلب المدد، فلن يصله هذا المدد في أقل من شهر -في أحسن الأحوال-، أما قارلة فكان يقاتل في أرضه وبلاده وبين شعبه، وأرض المعركة نفسها خط إمداد له.[91]
انقضاض فرسان المسلمين على قوات الشمال
كان لدى الغافقي ورقته الذهبية وهي سلاح الفرسان، الذي لطالما حسم لصالح المسلمين معارك سابقة (كمعركة اليرموك على سبيل المثال)، فالفرسان المسلمون البواسل -أصحاب التاريخ المتألق-، على الخيل العربية الأصيلة –الشهيرة ومنقطعة النظير-، وبسيوفهم العربية –كالدمشقية واليمانية والهندوان-، وبالردينيات الطويلة –التي كان الأمويون يرسلون ضرباتها كالصواعق في السرعة والقوة- كانوا سلاح بني أمية المميز، ولم يخذل هذا السلاح الأمويين إلا في معركة الزاب الكبير الشهيرة، و بالفعل، ففي اليوم الأخير شن خيالة المسلمين بقيادة الغافقي هجوماً على قوات الشمال، فاقتلعوا أبطالهم، وزلزلوا ميدانهم، وأنزلوا بهم ما نزل، وكبدوهم خسائر فادحة، يقول رينود –المؤرخ الفرنسي- في ذلك: بلغ من حماسة المسلمين في ذلك اليوم أن بعض المؤرخين شبههم بريحٍ صرصرٍ تقتلع كل ما في طريقها، أو بسيف ماضٍ يقطع كل ما يجده[92].
"فرس عربية أصيلة" لعبت الخيول العربية الأصيلة دوراً هاماً في الفتوحات الإسلامية، ولطالما ارتبط ذكر الفارس المسلم الباسل بفرسه الأصيلة، وإن أهم صفة واسمة للخيل العربية الأصيلة هي العنق المقوسة، بالإضافة إلى سحر وجمال المظهرالعام، والإقدام والشجاعة في الحروب. يذهب البعض من علماء المسلمين كالإمام مالك إلى تحريم أكل لحوم الخيل إكراماً لها وللدور الذي لعبته في جهاد المسلمين. ويقول الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. كما أقسم الله تعالى في القرآن الكريم بالخيل فقال: ((والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً، فأثرن به نقعاً، فوسطن به جمعاً)).
وفي أرض المعركة اليوم، لوحة تظهر فرسان المسلمين كالجبال الراسخة على خيولهم الأصيلة وبأيديهم رماحٌ مشرعة، ينقضون على قوات الشمال، مع العلم أن هذه اللوحة رسمها رسامون أوربيون وجعلوا للفرنجة فيها ما لم يكن حقاً، ولكن ثناء العدو على عدوه يؤخذ به كما نعلم.
قوات الشمال تهاجم المسلمين من الخلف بدا من انقضاض الفرسان هذا وانكسار الفرنجة أن المسلمين اقتربوا من النصر[93][94]، إلا أن قارلة أسرع فأرسل فرقاً وتعزيزات عسكرية -ربما كانت بقيادة الدوق أودو[95]- استطاعت أن تجد لنفسها منافذ عبر الخندق هش المفعول (أو التحصينات) والحرائش، فهاجمت المسلمين من الخلف[96]، ومن المتوقع أنها حاولت إحراق مخيمهم أو تدميره، فانكفأ الفرسان و الجنود كي يتصدوا لهذا الهجوم ويحبطوه[97] -لا لأجل الغنائم التي فيها كما يزعم الكثير من المؤرخين، وسنتحدث عن خرافة الغنائم وندحضها فيما بعد-، حيث كان لا بد لهم أن يؤمنوا معسكرهم الذي هو مركز انطلاقهم، وما فعلوه كان صحيحاً بلا شك، ولولا ذلك لدمر الفرنجة مخيمهم، وبات المسلمون ليلتهم محاصرين.
"يشير كتاب تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس: إلى أن أطفال الفاتحين ونساءهم -الذين أتوا معهم للاستقرار في المدن المفتوحة- كانوا في المعسكر الذي هاجمه أودو وقواته، وأن الفرسان المسلمين أسرعواإلى المخيم لإنقاذهم"[98]
في نفس الوقت، أعاد قارلة تعزيز الجبهة الأمامية بالمقاتلين، فغدا الأمويون محاصرين من كل مكان وبدا عندها أن الكثرة تفوقت على القوة[99].
مكتوب في أرض المعركة اليوم أيضاً وفقاً لمخطوطات قديمة، أن الفرنجة بلغوا من الكثرة أنه ما كان يقتل منهم واحد حتى يقفز آخر فيأخذ مكانه.
استبسل الغافقي و المسلمون في القتال، فاستحقوا عرش الشهداء، واستحقت المعركة لقب البلاط.
تظهر لنا لوحة أخرى موضوعة في أرض المعركة الغافقي وهو ينهال بسيفه على أجساد الفرنجة ودروعهم بكل شجاعة وبسالة، مع أن الرسام متشدد وصليبي الانتماء، ويشار مرة أخرى إلى أن الفضل ما شهدت به الأعداء، وأما بقية ما في اللوحة فمن خيال الرسام ولا أصل له، ولكن عندما يشهد طرف من الخصم بمحاسن الطرف الآخر فهي شهادة توضع تحت الاعتبار. [ومما يثير التعليق على هذه اللوحة أنها جعلت لقارلة خيلاً عربية أصيلة!!! فالعنق المقوسة إلى هذه الدرجة التي تشاهدها في اللوحة هي صفة واسمة للخيل العربية الأصيلة[100]، يضاف إلى ذلك صفات أخرى ثانوية كعلامات الجد والإقدام على الوجه، والعينين المتسعتين، والرأس الصغير إلى المعتدل، وعضلات الصدر البارزة. لقد بالغ هذا الرسام في مخيلته إلى درجةٍ أوقعته في هذا المأزق، وبإمكانك أن تقارن بين فرس قارلة في اللوحة والفرس العربية الأصيلة التي في الصورة المجاورة لترى التشابه الكبير-]
ومع غروب شمس ذلك اليوم، كان الغافقي من بين القتلى وكذلك عددٌ كبيرٌ من المسلمين، حيث يؤمن المسلمون -بحسب ما يرونه ويعتقدونه هم- أن شمس الغافقي وشهداء البلاط قد أشرقت في جنات الله -تعالى-، ومن هنا أخذت المعركة اسمها الخالد في التاريخ العربي، وكأن الغافقي والشهداء -باعتقاد المسلمين- جعلوا لأنفسهم بلاطاً هناك لا يزال يحتفظ بذكريات اللحظات الأخيرة من بسالة و فداء. ومن هنا جاءت رواية ابن حيان المذكورة سابقاً.
المسلمون يحبطون الهجوم على مخيمهم أما بقية الجيش المسلم، فكان قد نجح في دحر الهجوم على مخيمه، وكبد قوات الشمال خسائر فادحة أجبرتها على التقهقر عن المسلمين إلى مخيماتهم انتظاراً لمحاولات أخرى في اليوم التالي[101]. في الليل، أصاب المسلمين حزنٌ شديد، فالغافقي لن يكون معهم غداً، وكذلك سواعد الشهداء الأبطال. رأى قادة الجيش أن الفرنجة قد يحاولون من جديد محاصرة المسلمين في اليوم التالي والالتفاف عليهم من الخلف و تدمير مخيمهم، مما قد يعني القضاء على الجيش المسلم بالكامل. كذلك فإن الفرنجة يحاربون في بلادهم، وخطوط الإمداد مفتوحة لهم على مصراعيها، أما هم فليسوا كذلك، بدت المعركة عندها وكأنها معركة مؤتة ثانية.
معركة مؤتة ثانية عندما ارتد الغافقي بقواته إلى السهل، بعد أن رأى ضخامة جيش عدوه، كان ربما يفكر في العودة إلى أربونة عاصمته في بلاد الغال للتزود وطلب الإمدادات، ولكنه تابعي جليل تعلم من الصحابة رضوان الله عليهم، فرأى أن يواجه العدو كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في مؤتة، وهكذا حفر الخندق السريع و حصن نفسه للقاء عدوه، وقرر ألا ينسحب و يطلب الإمداد، تماماً كما حدث في مؤتة.
والآن وقد اجتمع المسلمون في الليل، وبعد مقتل قائدهم، قرروا الانسحاب من أرض المعركة، كما قرر خالد بن الوليد رضي الله عنه الانسحاب بالمسلمين، قرروا الانسحاب إلى أربونة لإعادة بناء الجيش والعودة للغزو من جديد[102]. وكحيلة ذكية تركوا خيامهم قائمة، وجعلوها تبدو، وكأنها فخ أعدوه في الليل[103]، بالإضافة إلى ذلك، تركوا الغنائم للفرنجة في مكانها، لأنهم أحسوا من عدوهم حبه للمال، ولأنهم رأوا كثرة المرتزقة في جيش قارلة، فأرادوا إلهاءهم بها ريثما يتموا الانسحاب كما يجب. أفاق الفرنجة في اليوم التالي، وظنوا بعد الخسائر الكبيرة التي نزلت بهم، وصمود الأمويين الباسل، وتدميرهم للهجوم على معسكرهم، أن الأمويين أصحاب هذه البسالة المدهشة لن ينسحبوا، فعندما لم يجدوا المسلمين ونظروا إلى معسكرهم، شعروا بالفعل أنهم نصبوا لهم كميناً[104]، وبخطوات حذرة تقدموا باتجاهه، فلما تيقنوا انسحابهم، التهوا بالغنائم، ولم يجرؤ أي منهم على اللحاق بالمسلمين، ثم انكفؤوا عائدين إلى الشمال.
وفي طريقهم إلى أربونة، غزا المسلمون ليموزين Limoges على مقربة من جيريه وخربوا كنيسة سولينياك[105]، مما يؤكد أن قوتهم لم تنكسر، ولكنهم آثروا الانسحاب لأسباب استراتيجية ذُكرت سابقاً.
عودة وإضاءة وتركيز على دور الفرسان المسلمين في المعركة في الواقع، يعتبر فجر الأندلس في أوربا، والفتوحات الإسلامية فيها ومعركة البلاط، نقطة تحول رئيسية في تاريخ الجيوش الأوربية عامة وعسكرتها، فقد كانت شعوب أوربا بشكل عام والفرنجة بشكل خاص -باستثناء الرومان والقوط الغربيين الأحسن حالاً نسبياً- شعوباً بدائية فيما يتعلق بالفروسية، وكانوا يعتمدون -بشكل رئيسي- في حروبهم على سلاح المشاة و كثرة الدروع، والرماح الطويلة، حيث كانت الوحدات العسكرية الأوربية تحاط بأربعة صفوف أساسية، وكانت هذه الصفوف تقيم لها صفاً من الدروع من كل جهة (الجهة الخلفية عند اللزوم)، في حين تقيم الصفوف الوسطى في الوحدة -أحياناً- دروعاً من أعلى، مشكلين بذلك ما يعرف بالوحدة المدرعة أو ال Phalanx، وكانت الجيوش الأوربية في ذلك الوقت تفتقر بوضوح لسلاح الفرسان طيلة معاركهم السابقة، بسبب قلة كفاءة الخيل الجرمانية وغيرها في الحروب، وضعف الأوربيين في مجال الفروسية، ولعل مما لا يعرفه الكثيرون أن الأروبيين في هذا العهد (قبل البلاط وغزوات المس%
معركة بلاط الشهداء هي معركة حصلت في شهر رمضان من سنة 114هـ، الموافق لشهر أكتوبر من سنة 732م[31]. وهناك اختلاف بين المراجع على متى بدأت المعركة بالضبط ومتى انتهت، وكم كانت مدتها، وقد ذكر الأستاذ الدكتور عبد الرحمن علي الحجي أنها استمرت حوالي 10 أيام[32]، بين قوات مسلمة أكثرها من الأمازيغ مع بعض العرب لصالح الدولة الأموية[33]، بقيادة رجل من التابعين يدعى عبد الرحمن الغافقي، وقوات نصرانية ووثنية يشار إليها كثيراً بقوات الشمال، أكثرها من أوستراسيا[34]، ونيوستريا[35]، وبورغانديا، وشوابيا (السويف)[36]، بالإضافة إلى قوات من مرتزقة وثنيين لقبائل جرمانية عدة من حدود الراين[37][38] أشهرها السكسون[39]، بالإضافة إلى قوات يشار إليها بشكل خاص (بسبب محاربتها للمسلمين من قبل) تابعة لأقطانيا بقيادة الدوق أودو (أودو العظيم -اللقب الذي اتخذه لنفسه-)، بالإضافة إلى قوات من اللومبارد البابوية الإيطالية، وقوات أخرى من مختلف أنحاء أوربا كبلغاريا[40][41] جاءت لتقاتل تحت شعار إنقاذ المسيحية والكنيسة الكاثوليكية في أوربا[42][43]، لذلك يشار كثيراً إلى المعركة على أنها سبقت عصرها والحملات الصليبية في القرون الوسطى[44][45].
اجتمعت قوات الفرنجة (وكلمة الفرنجة هي إشارة عربية إلى كل شعوب أوربا التي حاربت المسلمين[46]، واستعملها أهل الأندلس وكُتَّابُها ومؤرخوها للإشارة إلى شعوب أوربا كلها ما وراء جبال البرتات [في الأرض الكبيرة][47]، في حين يستعملها البعض الآخر من المؤرخين للإشارة إلى إمبراطورية الفرنجة التي بدأت في أوستراسيا وتوسعت لتشمل أجزاء كبيرة من أوربا) تحت قيادة محافظ القصر الميروفنجي الأوستراسي قارلة (تشارلز)[48]، والملك الميروفنجي حينئذ هو تيودوريك الرابع[49]، وكان ملوك الميروفنجيين ضعفاء لا يقدرون على شيء والسلطة كلها بيد محافظ القصر وحده
التسمية والموقع
تسمى المعركة عند العرب بمعركة بلاط الشهداء، وكلمة بلاط في اللغة العربية هي من نفس الأصل الذي خرجت منه كلمة بالاتيوم Palatium اللاتينية، وكلمة بالاس Palace الإنجليزية[51]، وتعني حتماً القصر، حيث كان العرب يستعملونها للإشارة إلى قصور الملوك، وتمييزها عن ما دونها من القصور، وغير صحيح ما تردد عن أن معنى الكلمة هو الطريق المعبد، فهذا الاستعمال لم يظهر إلا فيما بعد.
ولهذا، فإن معركة بلاط الشهداء تعني معركة قصر الشهداء الملكي (في اللغة العربية). وقد ذكر الدكتور شوقي أبو خليل أن كلمة البلاط لاتعني الطريق المبلط، لكن المراد بكلمة البلاط في لغة أهل الأندلس هو القصر[52]. كما أوردت معاجم العرب، كالمعجم الغني والمعجم الرائد والمعجم الوسيط، أن لكلمة البلاط معنىً هو قصر الملك ومجلسه، ومعاني أخرى كمعنى حجارة الطريق، ويشار هنا إلى أن المعنى الأصلي للكلمة هو قصر الملك، استدلالاً من اشتقاق الكلمة، وأما المعاني الأخرى فقد ظهرت فيما بعد، ووفقاً لما أورده الدكتور شوقي أبو خليل، فالظاهر أن المعنى (قصر الملك) بقي على حاله عند أهل المغرب والأندلس، في حين تحور عند أهل المشرق من العرب مع الزمن.
ومما يؤكد أيضاً أن الذي يقصده المؤرخون المسلمون بالبلاط هو قصر الملوك وإجلال الشهداء، أن بعض المؤرخين المسلمين استخدموا عبارة "موقعة البلاط" للإشارة إلى معارك أخرى قدم فيها المسلمون الكثير من الشهداء، كمعركة تولوز[53][54].
لقد أطلق المسلمون اسم بلاط الشهداء على موقع المعركة، كما أطلقوها على المعركة نفسها، تخليداً لذكرى شهدائهم الذين استبسلوا في المعركة بما يفوق الوصف والتعبير، فالمعنى الذي يعطيه الاسم هو أن أرض المعركة باتت بلاطاً ملكياً جليلاً خالداً لهم عبقاً بدمائهم الطاهرة [بحسب ما يعنيه المسلمون من التسمية]، وهذا هو المعنى الذي يقصده المسلمون، وهو عائد لهم ولمعتقادتهم، ويُستَشَفُّ ذلك من رواية ابن حيان، وويكيبيديا تلتزم الحيادية فتذكر سبب التسمية الإسلامية كما هي، كما أنها تذكر سبب التسمية الغربية، كما سماها الغربيون، كما هي.
هناك رواية إسلامية نقلاً عن ابن حيان تتحدث عن أن الأذان لبث عصوراً طويلة يسمع في بلاط الشهداء[55].
أما قوات الشمال فقد أطلقت على المعركة اسم معركة تور Battle of Tours نسبة إلى مدينة تور، كما أطلقت عليها اسم معركة بواتييه Poitiers، وأحياناً Battle of Tours-Poitiers معركة تور-بواتييه[56]، وتسمية المعركة "معركة تور" أفضل، لتمييزها عن "معركة بواتييه" التي جرت بين بريطانيا وفرنسا خلال حرب المائة عام. أما موقع المعركة فيطلقون عليه اسم Moussais-la-Bataille موساي لاباتاي[57]، وقد أشار كل من الدكتور عبد الرحمن علي الحجي والدكتور عبد الفتاح مقلد الغنيمي إلى قرية هي من ضمن موقع المعركة تدعى خندق الملك Fossi le Roi، حيث اكتشفت هناك حديثاً سيوف عربية[58][59]. وموقع المعركة هو سهل ممتد بين تور وبواتييه، محدد من الشرق بمجرى نهر فيين الذي يرفد نهر اللوار[60].
الأحداث التي سبقت المعركة
انطلاق حملة الغافقي
حشد الغافقي جيشاً قوامه 50 ألف مقاتل، وهو أكبر جيش أموي دخل الأندلس وغاليا حتى ذلك الوقت[61]، حتى طارق بن زياد كان جيشه 7 آلاف، و طريف بن مالك كان جيشه 5 آلاف، و موسى بن نصير كان جيشه 18 ألف، فكان جيشهم جميعاً 30 ألف مقاتل[62]، وبذلك يكون الغافقي قد جهز حملة لم يسبق لأحد من قادة الأمويين قبله أن جهز مثلها.
كان الغافقي من طراز حسان بن النعمان يعمد إلى الفتح وترسيخه وتعزيز الحاميات قبل الانطلاق إلى فتحٍ غيره[63]، فانطلق في البداية من سرقسطة تلقاء إقليم كاتالونيا في الأندلس، و هو أقرب إقليم إلى بلاد الغال، فقواه وقضى على المتمردين فيه، ثم تحرك إلى إقليم سبتمانيا الأموي فعزز وجودهم فيه، وعاد بعدها إلى مدينة بنبلونة في شمالي أيبريا، فانطلق منها وعبر معبر الرونسفال في جبال المعابر أو جبال الأبواب (في اللاتينية تسمى جبال البرت Porta، وتعني الباب)[64]، وكان هدفه أقطانيا (والتي كانت حدودها تنتهي عند نهر اللوار) والدوق أودو.
وصل الغافقي إلى إقليم أقطانيا، وسار في الطرف الغربي من فرنسا باتجاه الشمال، ثم انحرف باتجاه الشرق والجنوب إلى مدينة آرليس فاعاد فتحها وحصن المسلمين فيها، ثم عاد إلى أقطانيا وكان حريصاً على أن يصل أقطانيا بسبتمانيا، لتمكين المسلمين من كلا الإقليمين معاً.
معركة نهر الجارون
كان أودو حاكم أقطانيا قد جمع للغافقي كل ما استطاع، وكان حاكماً ذا سلطة ونفوذ وعلى اتصال مستمر ببابا الكنيسة في روما، ويطلق على نفسه لقب أودو العظيم، فخرج للقاء الغافقي، والتحم الجيشان في معركة نهر الجارون الضارية، والتي انتقم فيها الغافقي لمقتل القائد الذي أحبه، السمح بن مالك الخولاني، ففتك الأمويون في تلك المعركة بجيش أودو، وكثر القتل فيهم، حتى قال بعض المؤرخين: إن الله وحده يعلم عدد القتلى[65].
وبعد هذه المعركة الحاسمة، فتحت مدن ومقاطعات أقطانيا بالكامل[66]، ويشار من بينها إلى مدينة بوردو عاصمة الإقليم[67]. وصل الغافقي إلى بواتييه ففتحها ثم وصل إلى تور الواقعة على نهر اللوار و فتحها أيضاً[68]، وبذلك بات على مشارف ممالك الشمال الجرمانية والفرنجية.
بعد معركة نهر الجارون لم يكن الغافقي ينوي التقدم أكثر من ذلك، بل كان ينوي تحصين المدن المفتوحة وتقويتها لتصبح ثغراً للمسلمين، كما هي الحال في سبتمانيا، ولم يكن معه من الجند ما يكفي لفتح مدن أكثر، فبعد مسيرة طويلة في جنوب غالة وغربها، وبعد معركة نهر الجارون الضارية، لم يكن قد بقي معه أكثر من 10-30 ألف مقاتل[69].
كان قارلة -الملك الفعلي للفرنجة- رجلاً ذكياً، فطوال فتوحات الأمويين في غالة، ظل بعيداً نائيا بنفسه عن مواجهتهم، على الرغم من أنها كانت على مقربة من أرضه، ولطالما دخلت أرضه وصالت فيها وجالت أيضاً كحملة عنبسة بن سحيم الكلبي -والتي افتتحت إقليم بورغانديا بالكامل الذي هو جزء من مملكة قارلة، ووصلت سراياها حتى سفوح جبال فوسغس في قلب مملكة الفرنجة-[70]، ولكن قارلة لم يفعل شيئاً لهم، ولم يجرؤ على التصدي لعنبسة أو الظهور على ساحة الأحداث أبداً، بل وتذكر المصادر التاريخية الإسلامية أن حملة عنبسة لم تلق مقاومة تذكر[71]، وأنه آثر العودة إلى قاعدته لأسباب استراتيجية، لأنه شعر أنه توغل كثيراً في أرضٍ لا تزال مجهولةً بالنسبة للمسلمين[72][73]، وتذكر بعض هذه المصادر [ابن عذارى (البيان المغرب، ج2، ص26)، وابن الأثير (الجزء5، ص373)] أيضاً أنه مات ميتة طبيعية ولم يقتل[74].
لقد رأى قارلة أن المسلمين في معاركهم وفتوحاتهم أصحاب هممٍ عالية، وإيمان كبير بالرسالة التي يقاتلون من أجلها، و أن مواجهتهم وهم في أوج قوتهم ليست في صالحه، فترك أقطانيا وغيرها -وهم خصوم قارلة الذين أجبرتهم غزوات الأمويين على اللجوء إليه والتحالف معه- ينالهم من الأمويين ماينالهم، في حين كان قارلة يعد العدد والعتاد، ويرسل الرسل في البلاد، ويفعل كل ما بوسعه من إعداد للاشتباك في الوقت المناسب[75].
وبالفعل، فبعد أن تمكن الأمويون من ممالك غالة وملوكها، ووصل بهم الأمر إلى أن الخطوة القادمة كانت ستكون صولة قوية في الشمال أقوى من صولة عنبسة، قرر تشارلز أن الوقت قد حان للقاء الأمويين مباشرة بعد أن خاضوا حروبهم الأخيرة، و ألا يتيح المجال أمام الغافقي كي يوطد لنفسه ورجاله، و يعيد تجديد حملته، و يجلب الإمدادات.
و صادف ذلك قدوم أودو -منافس قارلة- إليه، وكان أودو قد أعاد لملمة رجاله وقواته، ولكنها لم تكن تكفيه كي يستعيد ملكه، فتوسل إلى قارلة كي يساعده في استعادة أقطانيا[76][77]، وهذا بالضبط ما أراده تشارلز، حيث أخذ من أودو ميثاقاً بالولاء له ولدولته، وكان له ما أراد، (وهكذا تحالف أودو العظيم مع تشارلز مارتل) ضد المسلمين[78].
قوات الشمال تزحف باتجاه رافد اللوار
خرج قارلة بجيش كبير جداً[79]، حيث كان قد جلب مرتزقة ومقاتلين من حدود الراين[80] و قوات من بورغانديا، ومتطوعين من كل أنحاء أوربا وبرعاية من بابا الكنيسة في روما، كما انضم إليهم أودو بفلول جيشه، فبات جلياً أن انهزام الجيش سيعني انكسار ممالك أوربا كلها.
كان عبد الرحمن قد وصل تور كما أسلفنا مع من تبقى من جيشه، وكانت حملته بحاجة إلى إعادة وتجديد ودعم بالإمدادات لتعويض ما خسرته من جنود في أقطانيا وكاتالونيا وسبتمانيا وغيرها سواء في المعارك التي خاضتها أو في الحاميات التي خلفتها ورائها أو غير ذلك[81][82].
أراد قارلة ألا يتيح هذا المجال أمام الغافقي، وأن يسارع لمواجهته في هذا التوقيت، فاختار زمان المعركة الذي يناسبه، كما أنه أراد أن يختار أرض المعركة أيضاً، فهو علم أن تفوق القوط على المسلمين بحوالي عشرة أضعاف لم يسعفهم في معركة وادي لكة، وكذلك كان الأقطانيون والروم والفرس وغيرهم الذين لطالما خسروا معاركهم مع المسلمين على الرغم من تفوقهم عليهم كثيراً في العدة والعتاد، كالقادسية واليرموك وغيرها.
كان قارلة يعلم عدوه جيداً، ويعلم أنه قادر على أن يهزم جيشه على الرغم مما حشده له و أعده، فهو لطالما سمع عن المسلمين وانتصاراتهم في شرق الأرض وغربها، شمالها وجنوبها، وهاهم الآن قد وصلوا أرضه مككللين بالنصر والأمجاد، رغم قلة أعدادهم وعتادهم. لم يكن قارلة مسيحياً متديناً، ولم يحارب هو بحد ذاته من أجل الصليب، بل غلب على طبعه وسياسته العكس تماماً، وكان كثيرون من مقاتليه مرتزقة وثنيون (خصوصاً أبناء القبائل الجرمانية)[83] غلبت على معتقداتهم الأساطير والخرافات، فكان قارلة يقاتل رغبةً في إحداث شعور النصر لديه، كعادة الجرمان (والذين يشابهون الأعراب في جلافتهم)، كان قارلة يسعى إلى مواصلة انتصاراته وتوسيع نفوذه ومملكته طوال سيرته العسكرية، كان يرغب بميراث أمجاد الروم وغيرهم، وعلى مختلف الجبهات، فهو مثلاً كان حريصاً على أن يضم ممالك أودو إليه قبل المسير للقاء المسلمين.
رأى قارلة أن مواجهة المسلمين وهم متحصنون في تور ستكسر كثرة جيشه، فرأى أن يستدرجهم إلى خارج المدينة إلى السهل الواقع غرب رافد نهر اللوار، حيث سيمكنه هذا السهل من محاصرة المسلمين من الخلف، ومن أكثر من جهة، معززاً بذلك تفوق الكثرة على القلة.
مع الإشارة هنا إلى أن هذا السهل هو سهل أحراش، الأمر الذي ساعد المسلمين نوعاً ما في صمودهم في المعركة، في حين يرى آخرون -ومنهم الغنيمي- أن الأحراش لعبت دوراً سلبياً بالنسبة للمسلمين.
أرسل قارلة فرقاً صغيرة من طلائع جيشه إلى الضفة الشرقية من النهر، فعندما علم بأمرها عبد الرحمن، أرسل فرقاً استطلاعية لكشفها، وعادت تلك الفرق تخبره أنها فرق قليلة العدد يسهل القضاء عليها، فخرج عبد الرحمن من المدينة لمواجهتها، وبذلك تحقق لقارلة ما أراد، فعندما عبر الغافقي و قواته إلى ضفة النهر الشرقية، حرك قارلة قواته باتجاه أرض المعركة، وكانت مهولة الكثرة كالطوفان المندفع[84][85].
عندما رأى عبد الرحمن هذا الجمع الهائل ارتد بقواته إلى السهل بين تور وبواتييه[86][87]، لقد أدرك عندها ما أراده عدوه، وأنه أراد الإيقاع به وبقواته في السهل، حيث سيظهر تفوق العدد بشكل واضح جداً.
أخذ عبد الرحمن يعد بعض التحصينات، ومن المحتمل أنه عمد إلى حفر خندقٍ حول مؤخرة الجيش كي يحبط محاولات الفرنجة للاتفاف عليه، ومما يشير إلى ذلك اكتشافات حديثة لسيوف عربية هناك في منطقة تدعى خندق الملك Fossi le-Roi وفق ما أورده الدكتور الأستاذ عبد الرحمن علي الحجي[88] وأشار إليه أيضاً الدكتور الغنيمي[89]، والمرجح أن المقصود بالملك هو عبد الرحمن الغافقي، والخندق هو الخندق الذي عمد إلى حفره، ولكن الظاهر أن هذا الخندق كان سريع الإعداد هش المفعول ولم يتسن للمسلمين الوقت كي يكملوه كما يجب.
تقدم قارلة بقوات الشمال ونزل على مواجهة مع الجيش الأموي، استعداداً للمعركة، حيث انحرف الجيش الأموي قليلاً وتجمع في جهة الجنوب باتجاه بواتييه -كي يؤمن اتصاله بالجنوب-، وكان جيش أوربا ينحرف قليلاً ويتجمع في جهة الشمال باتجاه تور -كي يؤمن اتصاله بالشمال-[90].
المعركة
مناوشات بين الجيشين لحوالي 9 أيام
استمرت بين الجيشين مناوشات لحوالي 9 أيام، ويبدو أنها شهدت تفوق الأمويين مما دفعهم إلى شن الهجوم في اليوم الأخير، ويبدو أيضاً أن قارلة عمد إلى تعزيز كثرة قواته بإطالة أمد المعركة، فأرسل يطلب المزيد من المدد من المدن المجاورة في حين أن الغافقي كان يحتاج لكل مقاتليه في المعركة، ولا يمكنه أن يتخلى عن بعضهم كي يرسلهم في طلب المدد، كما أن الطرق لم تكن مؤمنة بعد بما يكفي للرسل الأمويين -يشار هنا بشكل خاص إلى جبال الأبواب المسكونة بقطاع الطرق والعصابات-، وهذا الأمر يرجح أيضاً أنه كان سبباً في شن الأمويين هجومهم في اليوم الأخير كي لا تطول المعركة و تزيد الإمدادات القادمة لقوات الشمال، عدا عن ذلك فإن الأمويين قليلو العدد ستكثر جراحهم ويقل عددهم أكثر إذا طالت المعركة. وقدأشارت إحدى المصادر إلى أن الغافقي لو أرسل في طلب المدد، فلن يصله هذا المدد في أقل من شهر -في أحسن الأحوال-، أما قارلة فكان يقاتل في أرضه وبلاده وبين شعبه، وأرض المعركة نفسها خط إمداد له.[91]
انقضاض فرسان المسلمين على قوات الشمال
كان لدى الغافقي ورقته الذهبية وهي سلاح الفرسان، الذي لطالما حسم لصالح المسلمين معارك سابقة (كمعركة اليرموك على سبيل المثال)، فالفرسان المسلمون البواسل -أصحاب التاريخ المتألق-، على الخيل العربية الأصيلة –الشهيرة ومنقطعة النظير-، وبسيوفهم العربية –كالدمشقية واليمانية والهندوان-، وبالردينيات الطويلة –التي كان الأمويون يرسلون ضرباتها كالصواعق في السرعة والقوة- كانوا سلاح بني أمية المميز، ولم يخذل هذا السلاح الأمويين إلا في معركة الزاب الكبير الشهيرة، و بالفعل، ففي اليوم الأخير شن خيالة المسلمين بقيادة الغافقي هجوماً على قوات الشمال، فاقتلعوا أبطالهم، وزلزلوا ميدانهم، وأنزلوا بهم ما نزل، وكبدوهم خسائر فادحة، يقول رينود –المؤرخ الفرنسي- في ذلك: بلغ من حماسة المسلمين في ذلك اليوم أن بعض المؤرخين شبههم بريحٍ صرصرٍ تقتلع كل ما في طريقها، أو بسيف ماضٍ يقطع كل ما يجده[92].
"فرس عربية أصيلة" لعبت الخيول العربية الأصيلة دوراً هاماً في الفتوحات الإسلامية، ولطالما ارتبط ذكر الفارس المسلم الباسل بفرسه الأصيلة، وإن أهم صفة واسمة للخيل العربية الأصيلة هي العنق المقوسة، بالإضافة إلى سحر وجمال المظهرالعام، والإقدام والشجاعة في الحروب. يذهب البعض من علماء المسلمين كالإمام مالك إلى تحريم أكل لحوم الخيل إكراماً لها وللدور الذي لعبته في جهاد المسلمين. ويقول الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم-: الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة. كما أقسم الله تعالى في القرآن الكريم بالخيل فقال: ((والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيرات صبحاً، فأثرن به نقعاً، فوسطن به جمعاً)).
وفي أرض المعركة اليوم، لوحة تظهر فرسان المسلمين كالجبال الراسخة على خيولهم الأصيلة وبأيديهم رماحٌ مشرعة، ينقضون على قوات الشمال، مع العلم أن هذه اللوحة رسمها رسامون أوربيون وجعلوا للفرنجة فيها ما لم يكن حقاً، ولكن ثناء العدو على عدوه يؤخذ به كما نعلم.
قوات الشمال تهاجم المسلمين من الخلف بدا من انقضاض الفرسان هذا وانكسار الفرنجة أن المسلمين اقتربوا من النصر[93][94]، إلا أن قارلة أسرع فأرسل فرقاً وتعزيزات عسكرية -ربما كانت بقيادة الدوق أودو[95]- استطاعت أن تجد لنفسها منافذ عبر الخندق هش المفعول (أو التحصينات) والحرائش، فهاجمت المسلمين من الخلف[96]، ومن المتوقع أنها حاولت إحراق مخيمهم أو تدميره، فانكفأ الفرسان و الجنود كي يتصدوا لهذا الهجوم ويحبطوه[97] -لا لأجل الغنائم التي فيها كما يزعم الكثير من المؤرخين، وسنتحدث عن خرافة الغنائم وندحضها فيما بعد-، حيث كان لا بد لهم أن يؤمنوا معسكرهم الذي هو مركز انطلاقهم، وما فعلوه كان صحيحاً بلا شك، ولولا ذلك لدمر الفرنجة مخيمهم، وبات المسلمون ليلتهم محاصرين.
"يشير كتاب تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس: إلى أن أطفال الفاتحين ونساءهم -الذين أتوا معهم للاستقرار في المدن المفتوحة- كانوا في المعسكر الذي هاجمه أودو وقواته، وأن الفرسان المسلمين أسرعواإلى المخيم لإنقاذهم"[98]
في نفس الوقت، أعاد قارلة تعزيز الجبهة الأمامية بالمقاتلين، فغدا الأمويون محاصرين من كل مكان وبدا عندها أن الكثرة تفوقت على القوة[99].
مكتوب في أرض المعركة اليوم أيضاً وفقاً لمخطوطات قديمة، أن الفرنجة بلغوا من الكثرة أنه ما كان يقتل منهم واحد حتى يقفز آخر فيأخذ مكانه.
استبسل الغافقي و المسلمون في القتال، فاستحقوا عرش الشهداء، واستحقت المعركة لقب البلاط.
تظهر لنا لوحة أخرى موضوعة في أرض المعركة الغافقي وهو ينهال بسيفه على أجساد الفرنجة ودروعهم بكل شجاعة وبسالة، مع أن الرسام متشدد وصليبي الانتماء، ويشار مرة أخرى إلى أن الفضل ما شهدت به الأعداء، وأما بقية ما في اللوحة فمن خيال الرسام ولا أصل له، ولكن عندما يشهد طرف من الخصم بمحاسن الطرف الآخر فهي شهادة توضع تحت الاعتبار. [ومما يثير التعليق على هذه اللوحة أنها جعلت لقارلة خيلاً عربية أصيلة!!! فالعنق المقوسة إلى هذه الدرجة التي تشاهدها في اللوحة هي صفة واسمة للخيل العربية الأصيلة[100]، يضاف إلى ذلك صفات أخرى ثانوية كعلامات الجد والإقدام على الوجه، والعينين المتسعتين، والرأس الصغير إلى المعتدل، وعضلات الصدر البارزة. لقد بالغ هذا الرسام في مخيلته إلى درجةٍ أوقعته في هذا المأزق، وبإمكانك أن تقارن بين فرس قارلة في اللوحة والفرس العربية الأصيلة التي في الصورة المجاورة لترى التشابه الكبير-]
ومع غروب شمس ذلك اليوم، كان الغافقي من بين القتلى وكذلك عددٌ كبيرٌ من المسلمين، حيث يؤمن المسلمون -بحسب ما يرونه ويعتقدونه هم- أن شمس الغافقي وشهداء البلاط قد أشرقت في جنات الله -تعالى-، ومن هنا أخذت المعركة اسمها الخالد في التاريخ العربي، وكأن الغافقي والشهداء -باعتقاد المسلمين- جعلوا لأنفسهم بلاطاً هناك لا يزال يحتفظ بذكريات اللحظات الأخيرة من بسالة و فداء. ومن هنا جاءت رواية ابن حيان المذكورة سابقاً.
المسلمون يحبطون الهجوم على مخيمهم أما بقية الجيش المسلم، فكان قد نجح في دحر الهجوم على مخيمه، وكبد قوات الشمال خسائر فادحة أجبرتها على التقهقر عن المسلمين إلى مخيماتهم انتظاراً لمحاولات أخرى في اليوم التالي[101]. في الليل، أصاب المسلمين حزنٌ شديد، فالغافقي لن يكون معهم غداً، وكذلك سواعد الشهداء الأبطال. رأى قادة الجيش أن الفرنجة قد يحاولون من جديد محاصرة المسلمين في اليوم التالي والالتفاف عليهم من الخلف و تدمير مخيمهم، مما قد يعني القضاء على الجيش المسلم بالكامل. كذلك فإن الفرنجة يحاربون في بلادهم، وخطوط الإمداد مفتوحة لهم على مصراعيها، أما هم فليسوا كذلك، بدت المعركة عندها وكأنها معركة مؤتة ثانية.
معركة مؤتة ثانية عندما ارتد الغافقي بقواته إلى السهل، بعد أن رأى ضخامة جيش عدوه، كان ربما يفكر في العودة إلى أربونة عاصمته في بلاد الغال للتزود وطلب الإمدادات، ولكنه تابعي جليل تعلم من الصحابة رضوان الله عليهم، فرأى أن يواجه العدو كما فعل الصحابة رضي الله عنهم في مؤتة، وهكذا حفر الخندق السريع و حصن نفسه للقاء عدوه، وقرر ألا ينسحب و يطلب الإمداد، تماماً كما حدث في مؤتة.
والآن وقد اجتمع المسلمون في الليل، وبعد مقتل قائدهم، قرروا الانسحاب من أرض المعركة، كما قرر خالد بن الوليد رضي الله عنه الانسحاب بالمسلمين، قرروا الانسحاب إلى أربونة لإعادة بناء الجيش والعودة للغزو من جديد[102]. وكحيلة ذكية تركوا خيامهم قائمة، وجعلوها تبدو، وكأنها فخ أعدوه في الليل[103]، بالإضافة إلى ذلك، تركوا الغنائم للفرنجة في مكانها، لأنهم أحسوا من عدوهم حبه للمال، ولأنهم رأوا كثرة المرتزقة في جيش قارلة، فأرادوا إلهاءهم بها ريثما يتموا الانسحاب كما يجب. أفاق الفرنجة في اليوم التالي، وظنوا بعد الخسائر الكبيرة التي نزلت بهم، وصمود الأمويين الباسل، وتدميرهم للهجوم على معسكرهم، أن الأمويين أصحاب هذه البسالة المدهشة لن ينسحبوا، فعندما لم يجدوا المسلمين ونظروا إلى معسكرهم، شعروا بالفعل أنهم نصبوا لهم كميناً[104]، وبخطوات حذرة تقدموا باتجاهه، فلما تيقنوا انسحابهم، التهوا بالغنائم، ولم يجرؤ أي منهم على اللحاق بالمسلمين، ثم انكفؤوا عائدين إلى الشمال.
وفي طريقهم إلى أربونة، غزا المسلمون ليموزين Limoges على مقربة من جيريه وخربوا كنيسة سولينياك[105]، مما يؤكد أن قوتهم لم تنكسر، ولكنهم آثروا الانسحاب لأسباب استراتيجية ذُكرت سابقاً.
عودة وإضاءة وتركيز على دور الفرسان المسلمين في المعركة في الواقع، يعتبر فجر الأندلس في أوربا، والفتوحات الإسلامية فيها ومعركة البلاط، نقطة تحول رئيسية في تاريخ الجيوش الأوربية عامة وعسكرتها، فقد كانت شعوب أوربا بشكل عام والفرنجة بشكل خاص -باستثناء الرومان والقوط الغربيين الأحسن حالاً نسبياً- شعوباً بدائية فيما يتعلق بالفروسية، وكانوا يعتمدون -بشكل رئيسي- في حروبهم على سلاح المشاة و كثرة الدروع، والرماح الطويلة، حيث كانت الوحدات العسكرية الأوربية تحاط بأربعة صفوف أساسية، وكانت هذه الصفوف تقيم لها صفاً من الدروع من كل جهة (الجهة الخلفية عند اللزوم)، في حين تقيم الصفوف الوسطى في الوحدة -أحياناً- دروعاً من أعلى، مشكلين بذلك ما يعرف بالوحدة المدرعة أو ال Phalanx، وكانت الجيوش الأوربية في ذلك الوقت تفتقر بوضوح لسلاح الفرسان طيلة معاركهم السابقة، بسبب قلة كفاءة الخيل الجرمانية وغيرها في الحروب، وضعف الأوربيين في مجال الفروسية، ولعل مما لا يعرفه الكثيرون أن الأروبيين في هذا العهد (قبل البلاط وغزوات المس%