مصطلح أهل القبلة
يستعمل دعاة التقريب بين أهل السنة والمبتدعة هذا المصطلح كثيراً في كتاباتهم محاولة منهم خلط الحق بالباطل وتمييع قضايا "السنة" و"البدعة" وما يترتب عليها من أحكام. ويزعمون أنه يجب أن تلتقي طوائف الأمة الإسلامية وتتآلف مع بقاء كلٍ منها على عقيدته وآرائه يعلنها على الملأ ، وينشرها مهما كانت! ما دام يصدق عليه أنه من "أهل القبلة"؛ ويعنون بهم من يستقبل القبلة في صلاته مهما كانت عقائده (كفرية) أو مخالفة للكتاب والسنة! دون تفريق.
ولا يرضون –بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف انحرافاتهم؛ لأن هذا –عندهم- مما يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عدة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
1- أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته). أخرجه البخاري.
2- أن المقصود من هذا الحديث –كما بين العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك ) . فتح الباري (1/592).
ولهذا فقد أخرج البخاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنه لا يجوز تكفير المسلم –وإن كان مبتدعاً- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.
3- قال الطحاوي في عقيدته: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
قال ابن أبي العز في شرحه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا". ويشير الشيخ –رحمه الله- بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: "ولا نكفرِّ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه) . (شرح العقيد الطحاوية، ص 426-427، ط: التركي والأرنؤط).
وقال في الموضع المشار إليه (ص 432-434) : ( قوله: "ولا نكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله".
: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين" يشير الشيخ –رحمه الله- إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم –رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه – في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام: 68].
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب؛ كما تفعله الخوارج..). انتهى كلام ابن أبي العز – رحمه الله - .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النـزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد) (الفتاوى، 7/618-619).
وقال –أيضاً-: (قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهياً عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به). (الفتاوى، 20/90).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقاً: (لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصاً على الكفر به كفراً أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة.. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله). (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع، 1/182).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله - راداً على بعض من اغتر بمقالة "عدم تكفير أهل القبلة" ليحملها على الجهمية: (وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم "من صلَّى صلاتنا.." وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام ؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجوداً وعدماً، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام) . (إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية، ص 157).
وقال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله-: (الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل، لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل ، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحداً، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد، لا تفرقوا بين المسلمين . سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة لا تفرقوا بين المسلمين، كلمة حق والمراد بها باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة، من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفِّر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحداً ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد –والعياذ بالله-، فيجب أن نعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية ، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره) . (سلسلة شرح الرسائل، ص 213-215).
قلت: فحق – بعد هذا – أن يقال لدعاة "التقريب الموهوم" ما قاله المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين *** إذا كان البناء على فساد !
فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتق على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك "فستبقى حزازات النفوس كما هي".
والخلاصة: أن هذا المصطلح لا يؤيد دعاوى العصرانيين ونحوهم ممن يريد أن يُلبس الحق بالباطل، ويساوي بين أصحاب الصراط المستقيم بغيرهم من المبتدعة المنحرفين. بل تبقى أحكام المبتدعة كما هي: من ارتكب منهم مكفراً كفرناه، ومن لم تخرجه بدعته عن الإسلام ناصحناه وبينا انحرافه وخطأه، وتعاملنا معه بما هو مقرر في كتب أهل العلم (انظر مثلاً: رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع").
وقدسئل الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟
فأجاب: ( أقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفرة، وبدع دون ذلك، وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وُجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره: إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه..) (الفتاوى، 1/35).
ولا يرضون –بعد هذا- لأحدٍ أن يرد على أهل البدع أو يكشف انحرافاتهم؛ لأن هذا –عندهم- مما يفرق "أهل القبلة"!
ويجهل هؤلاء الواهمون أو يغفلون عدة حقائق تبين هذا المصطلح وما يراد به عند أهل العلم. هذه الحقائق باختصار هي:
1- أن هذا المصطلح مقتبس من حديث للنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيه: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته). أخرجه البخاري.
2- أن المقصود من هذا الحديث –كما بين العلماء- أن المسلم المصلي لا يجوز تكفيره وإخراجه من الإسلام؛ بل يبقى على هذا الأصل؛ إلا أن يأتي بأمر مكفِّر.
قال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: (فيه أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك ) . فتح الباري (1/592).
ولهذا فقد أخرج البخاري عقب هذا الحديث ما يوضحه؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها، وصلوا صلاتنا، واستقبلوا قبلتنا، وذبحوا ذبيحتنا؛ فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله).
فهذا الحديث متعلق بمسائل "التكفير"، وأنه لا يجوز تكفير المسلم –وإن كان مبتدعاً- بكل ذنب، ما لم تكن بدعته مكفرة.
3- قال الطحاوي في عقيدته: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين، ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين).
قال ابن أبي العز في شرحه: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا". ويشير الشيخ –رحمه الله- بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحلَّه.
والمراد بقوله: "أهل قبلتنا" من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء، أو من أهل المعاصي، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم. وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ: "ولا نكفرِّ أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحلَّه) . (شرح العقيد الطحاوية، ص 426-427، ط: التركي والأرنؤط).
وقال في الموضع المشار إليه (ص 432-434) : ( قوله: "ولا نكفِّر أحداً من أهل القبلة بذنب، ما لم يستحله، ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله".
: أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله: "ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين" يشير الشيخ –رحمه الله- إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب.
واعلم –رحمك الله وإيانا- أن باب التكفير وعدم التكفير، بابٌ عظُمت الفتنة والمحنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتتت فيه الأهواء والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم، فالناس فيه – في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم- على طرفين ووسط، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية.
فطائفة تقول: لا نكفِّر من أهل القبلة أحداً، فتنفي التكفير نفياً عاماً، مع العلم بأن في أهل القبلة: المنافقين، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع، وفيهم من قد يُظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين.
وأيضاً: فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل كافراً مرتداً. والنفاق والردة مظنتهما البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب "السنة" بسنده إلى محمد بن سيرين، أنه قال: إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم: (وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره) [الأنعام: 68].
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحداً بذنب. بل يقال: لا نكفرهم بكل ذنب؛ كما تفعله الخوارج..). انتهى كلام ابن أبي العز – رحمه الله - .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: (والعلماء قد تنازعوا في تكفير أهل البدع والأهواء وتخليدهم في النار، وما من الأئمة إلا من حكي عنه في ذلك قولان؛ كمالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وصار بعضهم يحكي هذا النـزاع في جميع أهل البدع وفي تخليدهم، حتى التزم تخليدهم كل من يُعتقد أنه مبتدع بعينه، وفي هذا من الخطأ ما لا يحصى، وقابله بعضهم فصار يظن أنه لا يُطلق كفر أحد من أهل الأهواء، وإن كانوا أتوا من الإلحاد وأقوال أهل التعطيل والإلحاد) (الفتاوى، 7/618-619).
وقال –أيضاً-: (قد تقرر من مذهب أهل السنة والجماعة ما دل عليه الكتاب والسنة أنهم لا يُكفرون أحداً من أهل القبلة بذنب ولا يخرجونه من الإسلام بعمل، إذا كان فعلاً منهياً عنه؛ مثل الزنا والسرقة وشرب الخمر، ما لم يتضمن ترك الإيمان، وأما إن تضمن ترك ما أمر الله به من الإيمان؛ مثل الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت؛ فإنه يكفر به). (الفتاوى، 20/90).
قال الدكتور إبراهيم الرحيلي معلقاً: (لكن ينبغي مراعاة أن لا يكون الذنب منصوصاً على الكفر به كفراً أكبر؛ كترك الشهادتين، أو ترك الصلاة.. وأن لا يكون الذنب مما ينافي الإيمان بالله). (موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع، 1/182).
وقال الشيخ سليمان بن سحمان – رحمه الله - راداً على بعض من اغتر بمقالة "عدم تكفير أهل القبلة" ليحملها على الجهمية: (وأما ما ذكرته من استدلال المخالف بقوله صلى الله عليه وسلم "من صلَّى صلاتنا.." وأشباه هذه الأحاديث، فهذا استدلال جاهل بنصوص الكتاب والسنة، لا يدري ولا يدري أنه لا يدري، فإن هذا فرضه ومحلّه في أهل الأهواء من هذه الأمة ومن لا تخرجه بدعته من الإسلام ؛ كالخوارج ونحوهم، فهؤلاء لا يكفرون؛ لأن أصل الإيمان الثابت لا يحكم بزواله إلا بحصول مناف لحقيقته، مناقض لأصله، والعمدة استصحاب الأصل وجوداً وعدماً، لكنهم يُبَدّعون، ويضللون، ويجب هجرهم، وتضليلهم، والتحذير عن مجالستهم ومجامعتهم، كما هو طريقة السلف في هذا الصنف.
وأما الجهمية وعباد القبور: فلا يستدل بمثل هذه النصوص على عدم تكفيرهم إلا من لم يعرف حقيقة الإسلام) . (إجماع أهل السنة النبوية على تكفير المعطلة الجهمية، ص 157).
وقال الشيخ صالح الفوزان –حفظه الله-: (الآن لما فشا الجهل واشتدت غربة الدين، ظهر ناس من الذين يتسمون بالعلم، ويقولون: لا تكفِّروا الناس، يكفي اسم الإسلام، يكفي أنه يقول: أنا مسلم، ولو فعل ما فعل، لو ذبح لغير الله، لو سب الله ورسوله، لو فعل ما فعل ، ما دام أنه يقول: أنا مسلم فلا تكفره!! وعلى هذا يدخل في التسمي بالإسلام الباطنية والقرامطة، ويدخل فيه القبوريون، ويدخل فيه الروافض، ويدخل فيه القاديانية، ويدخل فيه كل من يدعي الإسلام، يقولون: لا تكفروا أحداً، ولو فعل ما فعل، أو اعتقد ما اعتقد، لا تفرقوا بين المسلمين . سبحان الله! نحن لا نفرق بين المسلمين، ولكن هؤلاء ليسوا مسلمين؛ لأنهم لما ارتكبوا نواقض الإسلام خرجوا من الإسلام، فكلمة لا تفرقوا بين المسلمين، كلمة حق والمراد بها باطل، لأن الصحابة رضي الله عنهم لما ارتد من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم، ما قالوا: لا تفرقوا بين المسلمين؛ لأنهم ليسوا مسلمين ما داموا على الردة، وهذا أشد من أنك تحكم لكافر بالإسلام، وسيأتيكم أن من الردة، من لم يكفر الكافر، أو شك في كفره، فهذه المسألة وهي من لم يكفِّر الكافر أو شك في كفره فهو كافر مثله، وهؤلاء يقولون لا تكفروا أحداً ولو فعل ما فعل، ما دام أنه يقول: لا إله إلا الله، أنتم واجهوا الملاحدة واتركوا هؤلاء الذين يدعون الإسلام!! نقول لهم: هؤلاء أخطر من الملاحدة؛ لأن الملاحدة ما ادعوا الإسلام، ولا ادعوا أن الذي هم عليه إسلام، أما هؤلاء فيخدعون الناس ويدّعون أن الكفر هو الإسلام، فهؤلاء أشد من الملاحدة، فالردة أشد من الإلحاد –والعياذ بالله-، فيجب أن نعرف موقفنا من هذه الأمور ونميزها ونتبينها؛ لأننا الآن في تعمية ، فهناك ناس يؤلفون ويكتبون وينتقدون ويحاضرون، ويقولون: لا تكفروا المسلمين، ونقول: نحن نكفر من خرج عن الإسلام، أما المسلم فلا يجوز تكفيره) . (سلسلة شرح الرسائل، ص 213-215).
قلت: فحق – بعد هذا – أن يقال لدعاة "التقريب الموهوم" ما قاله المتنبي:
فإن الجرح ينفر بعد حين *** إذا كان البناء على فساد !
فلا لقاء ولا تآلف ولا تقارب بين الفرق الإسلامية ما لم تلتق على عقيدة السلف ومنهجهم. وأما بغير ذلك "فستبقى حزازات النفوس كما هي".
والخلاصة: أن هذا المصطلح لا يؤيد دعاوى العصرانيين ونحوهم ممن يريد أن يُلبس الحق بالباطل، ويساوي بين أصحاب الصراط المستقيم بغيرهم من المبتدعة المنحرفين. بل تبقى أحكام المبتدعة كما هي: من ارتكب منهم مكفراً كفرناه، ومن لم تخرجه بدعته عن الإسلام ناصحناه وبينا انحرافه وخطأه، وتعاملنا معه بما هو مقرر في كتب أهل العلم (انظر مثلاً: رسالة الدكتور إبراهيم الرحيلي "موقف أهل السنة والجماعة من أهل الأهواء والبدع").
وقدسئل الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-: كيف يتعامل الإنسان الملتزم بالسنة مع صاحب البدعة؟ وهل يجوز هجره؟
فأجاب: ( أقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفرة، وبدع دون ذلك، وفي كلا القسمين يجب علينا نحن أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجم ما هم عليه إلا بعد أن نعرف منهم الاستكبار عن قبول الحق؛ لأن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم) فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته، والحق مقبول لدى كل ذي فطرة سليمة، فإذا وُجد العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم، على أن بيان باطلهم في غير مجادلتهم أمر واجب.
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة ؛فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجره، وإذا كانت دون ذلك فإننا نتوقف في هجره: إن كان في هجره مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه..) (الفتاوى، 1/35).
مصطلح الإصلاح
مصطلح (الإصلاح) الذي شاع ذكره وكثر تداوله في وسائل الإعلام هذه السنوات القريبة –لاسيما في بلاد التوحيد- فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعان –أو شهر على أكثر تقدير!- إلا ونسمع عن ندوة تعقد عن (الإصلاح)، أو مقال يُحبر في (الإصلاح).. وهكذا. فكلٌ يدعي وصلاً بهذا (الإصلاح) مهما اختلفت المشارب أو التوجهات؛ مما أحدث ربكة في أذهان المتابعين، وعجباً كثيراً عندما يرون التباين الواضح والمتناقض بين مدعي (الإصلاح) ؛ مما أورث تساؤلاً لديهم عن: من (المصلح) الحقيقي من هؤلاء المدعين ؟! لأن (الإصلاح) مصطلح مجمل يستعمله المصلح والمفسد في آن واحد. وكما قال ابن القيم –رحمه الله-: (أصل بلاء أكثر الناس من جهة الألفاظ المجملة التي تشتمل على حق وباطل) (شفاء العليل، 1/324).
وقال –أيضاً-: (أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخطبة) (الصواعق، 3/927).
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم نوعان :
1- الإصلاح الصادق؛ وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره (1/51): (الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض)
ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح :(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).
قال ابن كثير في تفسيره (2/231): (فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك؛ كان أضر ما يكون على العباد).
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة –بإذن الله- أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
قال الطبري في تفسيره (15/530): (يقول تعالى ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلماً وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم؛ ظلماً. ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات).
2- الإصلاح الكاذب: وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحاً! كما قال تعالى عن أسلافهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين كذبهم بقوله (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
قال الطبري –رحمه الله- في تفسيره (1/289-290): (والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فدلك جملة الإفساد.. فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).
وقال في تفسير قوله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون) (1/291): أي (المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه)
وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/32): أن فسادهم هو: (الكفر) و(العمل بالمعاصي) و(النفاق).
وقال القرطبي في تفسير قول المنافقين (إنما نحن مصلحون) (1/204): (إنما قالوا ذلك على ظنهم؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح).
وقال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح؛ لما في قلوبهم من المرض؛ كما قال (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) وقوله: (وزين لهم الشيطان ما كانون يعملون) وقوله: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
وقال القاشاني: (كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا –لأنفسهم خاصة- لتوغلهم في محبة الدنيا)، أي على حساب الدين.
(انظر: محاسن التأويل للقاسمي، 1/252).
وقال ابن سعدي في تفسيره (1/50): (جمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح! قلباً للحقائق، وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً. وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها، فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه).
وقال سيد قطب في الظلال (1/44): (والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية)
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره (1/284): (إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع... –إلى أن قال- فالإفساد في الأرض، منه: إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين. ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيداً للعموم) .
قلت : فليتنبه المسلم بعد هذا إلى الفرق بين الإصلاحين ؛ حتى لا ينخدع بدعاوى أهل النفاق – لاكثرهم الله - .
وقال –أيضاً-: (أصل ضلال بني آدم: الألفاظ المجملة، والمعاني المشبهة، ولا سيما إذا صادفت أذهاناً مخطبة) (الصواعق، 3/927).
قلت: ومصطلح (الإصلاح) في القرآن الكريم نوعان :
1- الإصلاح الصادق؛ وهو إصلاح الأنبياء والرسل وأتباعهم؛ ممن يدعو إلى توحيد الله وعبادته، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن تنتشر الطاعات والخير، وتندثر السيئات والشر.
قال الشيخ ابن سعدي في تفسيره (1/51): (الإصلاح في الأرض أن تعمر بطاعة الله والإيمان به؛ لهذا خلق الله الخلق وأسكنهم الأرض)
ومن هذا الإصلاح الحق ما قاله شعيب عليه السلام لقومه (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت). ثم نهاهم عن الإفساد المضاد للإصلاح :(ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).
قال ابن كثير في تفسيره (2/231): (فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك؛ كان أضر ما يكون على العباد).
وهذا الإصلاح الصادق إذا كثر حملته وظهروا وتصدروا الأمة كان ذلك أمنة –بإذن الله- أن تصيبهم العقوبة ويعمهم الهلاك؛ كما قال تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
قال الطبري في تفسيره (15/530): (يقول تعالى ذكره: وما كان ربك يا محمد ليهلك القرى التي أهلكها، التي قص عليك نبأها ظلماً وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربهم؛ ظلماً. ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله، وتماديهم في غيهم، وتكذيبهم رسلهم، وركوبهم السيئات).
2- الإصلاح الكاذب: وهو إصلاح المنافقين والمفسدين ممن يُلبسون على الأمة بتسمية إفسادهم إصلاحاً! كما قال تعالى عن أسلافهم (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) لكن الدعاوى لا تنفع أصحابها إن لم تكن حقيقة؛ ولذا رد الله عليهم وبين كذبهم بقوله (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
قال الطبري –رحمه الله- في تفسيره (1/289-290): (والإفساد في الأرض: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه، فدلك جملة الإفساد.. فكذلك صفة أهل النفاق: مفسدون في الأرض بمعصيتهم فيها ربّهم، وركوبهم فيها ما نهاهم عن ركوبه، وتضييعهم فرائضه، وشكهم في دين الله الذي لا يقبل من أحد عملاً إلا بالتصديق والإيقان بحقيقته، وبمظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلا؛ فذلك إفساد المنافقين في أرض الله، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها).
وقال في تفسير قوله تعالى (ألا إنهم هم المفسدون) (1/291): أي (المخالفون أمر الله عز وجل، المتعدون حدوده، الراكبون معصيته، التاركون فروضه)
وذكر ابن الجوزي في تفسيره "زاد المسير" (1/32): أن فسادهم هو: (الكفر) و(العمل بالمعاصي) و(النفاق).
وقال القرطبي في تفسير قول المنافقين (إنما نحن مصلحون) (1/204): (إنما قالوا ذلك على ظنهم؛ لأن إفسادهم عندهم إصلاح).
وقال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح؛ لما في قلوبهم من المرض؛ كما قال (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) وقوله: (وزين لهم الشيطان ما كانون يعملون) وقوله: (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً).
وقال القاشاني: (كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا –لأنفسهم خاصة- لتوغلهم في محبة الدنيا)، أي على حساب الدين.
(انظر: محاسن التأويل للقاسمي، 1/252).
وقال ابن سعدي في تفسيره (1/50): (جمعوا بين العمل بالفساد في الأرض، وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح! قلباً للحقائق، وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً. وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها، فهذا أقرب للسلامة، وأرجى لرجوعه).
وقال سيد قطب في الظلال (1/44): (والذين يفسدون أشنع الفساد ويقولون: إنهم مصلحون، كثيرون جدًا في كل زمان. يقولونها لأن الموازين مختلة في أيديهم. ومتى اختل ميزان الإخلاص والتجرد في النفس اختلت سائر الموازين والقيم. والذين لا يخلصون سريرتهم لله يتعذر أن يشعروا بفساد أعمالهم؛ لأن ميزان الخير والشر والصلاح والفساد في نفوسهم يتأرجح مع الأهواء الذاتية، ولا يثوب إلى قاعدة ربانية)
وقال الطاهر بن عاشور في تفسيره (1/284): (إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع... –إلى أن قال- فالإفساد في الأرض، منه: إفساد المساعي؛ كتكثير الجهل، وتعليم الدعارة، وتحسين الكفر، ومناوأة الصالحين المصلحين. ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق (تفسدوا) تأكيداً للعموم) .
قلت : فليتنبه المسلم بعد هذا إلى الفرق بين الإصلاحين ؛ حتى لا ينخدع بدعاوى أهل النفاق – لاكثرهم الله - .
مصطلح الحياد
هذا المصطلح يستخدمه البعض في مجال العلم للدلالة على "ترك الميل في بحث قضية من القضايا، والوقوف موقف العدل والإنصاف"(1) ويعدون التلبس به مما يمدح به الباحث، ويدل على عدم حيفه واستجابته لعواطفه التي قد تخالف ما يظهر له من حقائق .
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة : مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..) الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين.
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"، وهو يعني "عدم التحزب لأجل غير محدود" (ص 13)، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج".
وهذا الحياد -كما تقول موسوعة السياسة للكيالي (2/594)-: "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة" ، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي، (ص17)-: "تهدف الدولة المحايدة .. إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"، وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت بأنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح؛ لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها –كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله ! .
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد، حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيـي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله –حتماً- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة، لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي .
فأقول: قد يكون هذا صحيحاً في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل. ولكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد. أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل!؛ كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة. أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس، فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذي قال الله فيهم (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) .
ويتضح لك هذا بالمثال : فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية –زعموا- على هذا الأمر. ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح، وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها).
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام لا سيما –كما قلت سابقاً- في مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة، حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافاً أو عدلاً! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقيناً من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم)، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
-----------------
[1] منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة .
ولكن لو نظرنا إلى معنى هذا المصطلح في اللغة لوجدناه لا يدل على شيء من هذا. فقد جاء في لسان العرب (مادة: حيد): "حاد عن الشيء: يحيد حيداً وحَيَداناً ومحيداً وحيدودة : مال عنه وعدل". ومثله في القاموس المحيط. فلا رابط بين معناها في اللغة وما استخدمت له في مجال العلم. إلا أن يراد أن يميل الإنسان أثناء البحث عن (الهوى) الذي يصده عن الحق، كما قال تعالى (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله..) الآية، فعندها يحسن استعمال مصطلح (العدل) الذي يغني في هذا الباب، وقد أمر الله المؤمنين في كتابه بأن يتصفوا به أثناء تصديهم للحكم بين الناس أو بين الأفكار، قال سبحانه (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقال (ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالمسلم مطالب بالعدل في ما يصدره من أحكام، وهو أن يضع الشيء في موضعه الذي وضعه الله فيه شرعاً، فيمدح ما مدحه الله ويذم ما ذمه، ويدور مع ما دل عليه الكتاب والسنة، ولو خالف بذلك عواطفه أو أهواءه، فضلاً عن عواطف وأهواء الآخرين.
والذي يظهر أن مصطلح (الحياد) تسرب إلى المجال العلمي من المجال السياسي؛ حيث عرف هذا المصطلح حديثاً في عالم السياسة (بعد الحربين العالميتين) بمعنى عدم التحيز إلى أحد من الطرفين المتصارعين، وذلك بعد أن ذاق العالم ويلات الحربين. يقول الدكتور عبد المنعم زنابيلي في كتابه (تطور مفهوم الحياد عبر المؤتمرات الدولية، ص 5): "الحياد الإيجابي وعدم الانحياز ظاهرة من الظواهر السياسية لعالم كابد الحرب العالمية الثانية"، وهو يعني "عدم التحزب لأجل غير محدود" (ص 13)، والحياد في السياسة نشأ كما يقول الدكتور أحمد زكي بدوي في معجم المصطلحات السياسية والدولية (ص 115): "بتأثير الجو العام الذي كان يسود العلاقات الدولية بسبب الحرب الباردة، وقد تجسد بشكل عملي لأول مرة في مؤتمر باندونج".
وهذا الحياد -كما تقول موسوعة السياسة للكيالي (2/594)-: "إمكانية من إمكانيات الخيار التي يحق للدول اللجوء إليها في حال قيام نزاع مسلح لا يعنيها أو لا يتعلق بها بصورة مباشرة" ، ومن خلاله -كما يقول الدكتور زنابيلي، (ص17)-: "تهدف الدولة المحايدة .. إلى تجنيب شعبها وأرضها مختلف الاحتمالات الناجمة عن الصراعات المسلحة"، وأكثر من استعمل هذا المصطلح ودعا إليه الدول الآسيوية والأفريقية التي اكتشفت بأنها قد أصبحت مجرد دمية تحركها الدول المتقدمة في صراعاتها المتنوعة، فبادرت إلى إطلاق هذا المصطلح؛ لتحمي نفسها ومصالحها من شرور ذلك الصراع بين الكتلتين (الشرقية والغربية).
ثم استعمل هذا المصطلح في مجال البحث العلمي للدلالة على ترك الميل مع العواطف في بحث قضية من القضايا والوقوف منها –كما يزعمون- موقف الإنصاف، فأصبح الباحث (المسلم المتأثر بهذا المصطلح) يعرض المسائل العلمية عرضاً دون هوية، أو ميل للانتصار للحق أو مدافعة للباطل! ليثبت للآخرين بأنه (محايد)! أو لا يُحكم عواطفه بل عقله ! .
ويتضح خطأ هذا المصطلح وخطورته في ذات الوقت عندما يتلبس به الباحث المسلم أثناء حديثه عن أمور الديانات والعقائد، حيث يضطره تأثره بهذا المصطلح واغتراره به إلى أن يستحيـي من نصر الحق والمدافعة عنه، والفخر والفرح بالتزامه.
قد تقول: لا يلزم كل هذا؛ لأن الباحث المسلم عندما يتعرض لتلكم المسائل أو غيرها (بحياد) فإن ذلك سيوصله –حتماً- إلى الحق والصواب فيها، وهو ما يوافق الكتاب والسنة، لأن الشرع والعقل (المحايد) يلتقيان ولا يتناقضان، وبهذا نضمن قبول الآخرين لهذا الحق والصواب الذي تمحض نتيجة هذا الموقف الحيادي لا العاطفي .
فأقول: قد يكون هذا صحيحاً في المسائل الظاهرة التي يدركها العقل. ولكنه ليس بصحيح في المسائل الكثيرة المتعلقة بالإيمان والتسليم، لا سيما في مجال الغيبيات والعقائد. أو المسائل التي يتوهم المحايدون أنها تعارض العدل!؛ كأحكام أهل الذمة، وأحكام المرأة. أو المسائل التي لم تتبين حكمتها لكثير من الناس، فمثل هذه المسائل تجعل الباحث المسلم في محك خطير بين أن يرفضها وينكرها متابعة منه لما يسمى الحياد العلمي، وبين أن يقبلها ويُسلم بها استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اختار الأولى صدق عليه قوله تعالى (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله)، وإن اختار الثانية كان من المرحومين الذي قال الله فيهم (وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون) .
ويتضح لك هذا بالمثال : فإن الباحث المسلم عندما يتعرض لقضية جريان الشمس من عدمه، هو بين أمرين: إما أن يمارس ما يسمى بالحياد العلمي، فيعتقد ثبوت الشمس ودوران الكواكب حولها؛ متابعة منه لما أقامه علماء الغرب من دلائل علمية –زعموا- على هذا الأمر. ويُبطل غيره ولو كان قد قرره القرآن بصراحة ووضوح، وهو أن الشمس ليست بثابتة، بل تجري؛ كما قال تعالى (والشمس تجري لمستقر لها).
والأمثلة على هذا كثيرة لا يسعها المقام لا سيما –كما قلت سابقاً- في مسائل الغيبيات، أو في أحكام المرأة، أو أحكام أهل الذمة، حيث تتصادم النصوص الشرعية (الصريحة) مع ما يظنه المتأثرون بالحياد إنصافاً أو عدلاً! فيبقون بعدها محتارين بين ما يعلمونه يقيناً من نصوص الشريعة، وبين ما تلبسوا به من حياد كاذب خدعهم به الآخرون. وهذا ابتلاء عظيم صرفه الله عمن عظم وحيه وشريعة نبيه صلى الله عليه وسلم.
فعلى الباحث المسلم أن يتقي الله ربه، ويحذر من الانسياق وراء هذه المصطلحات المخادعة التي هي في حقيقة أمرها تؤول إلى تعظيم العقل البشري القاصر على حساب النصوص الشرعية، كما أنها تجعل من المسلم إنساناً (مادياً) (متمرداً) لا يقبل التسليم لما قاله الله ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم والله يقول (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحيكم)، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد .
-----------------
[1] منهج كتابة التاريخ الإسلامي؛ للأستاذ محمد بن صامل العلياني (ص145) وقد نبه وفقه الله على خطأ استعمال هذا المصطلح وغيره من المصطلحات المشابهة .
مصطلح المجتمع المدني
الموضة الجديدة لأصحاب اللحى الليبرالية
التبشير " بالمجتمع المدني " هو الموضة الجديدة على ألسنة وأقلام العلمانيين والعصرانيين من ذوي " اللحى الليبرالية " ! ؛ فلا يكاد يخلو حديث أو مقال لهم دون الإشارة أو الدعوة إليه بصفته البلسم الشافي لجميع أدواء الأمة وخلافاتها ، وإنقاذها من " الماضويين " " السلفويين " ... الخ !!
وهذا " المجتمع المدني " - كما سيأتي - مخلف آخر من مخلفات و " استوكات " المجتمع الغربي العلماني المصدرة إلينا - كالعادة - ليتلقفها الأذناب ويروجوا لها تمهيدا لإدخال مجتمعاتنا ومسخها داخل المنظومة الغربية .. فلا عجب أن يحتفي به " بنو علمان " من متبعي سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة ، حتى قال قائلهم : ( إن المجتمع المدني والعلمانية مطلوبان في المجتمع العربي ) ! ( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 31 ) .
ولكن العجب أن يتابعهم على هذا : أفراد الطائفة المخذولة المسمون " بالعصرانيين " أصحاب " اللحى " من مدعي الأسلمة !!
ويلزمهم - في نظري - أمران :
1- إما أن يكونوا يجهلون حقيقة هذا المصطلح " العلماني " ، ومصادمته الصريحة للإسلام ، ولكنهم سمعوا القوم يرددونه فرددوه تبعًا لهم كالببغاء عقله في أذنيه ! ، وهذه مصيبة ؛ أن يدعوا إلى أمر لايعلمون حقيقته .
2- وإما أن يكونوا يعلمون حقيقة هذا المصطلح ، فهم يتبنونه عن علم ، ومع سابق الإصرار والترصد . وهذا ما أميل إليه !! واعذروني على إساءة الظن بهم ؛ لأن مقالاتهم وأحوالهم التي ظهرت وتبينت للمسلمين تؤكد ظني ، فلم يعد هناك مجال للمجاملة أو إحسان الظن .. فلا فرق بين الطائفتين " العلمانية ، والعصرانية " سوى هذه " اللحى " التي هي شعار تتطلبه هذه المرحلة ! - وإلا فالجميع - كما تبين في مواقف عديدة - بسبب تضخم الحياة الدنيا في عقولهم يأملون باستبعاد الإسلام وأحكامه عن دنياهم .. ظانين أنهم بهذا الفعل يلحقون بركب الغرب ، غير متعظين بتجارب إخوانهم في بلاد إسلامية كثيرة حكموها بعلمانيتهم وبتحجيمهم للإسلام وأهله ، فلم يخلفوا بعدهم سوى البؤس الديني والدنيوي ، متجاهلين عن عمد فشل إسقاط النموذج الغربي على الإسلام الذي لم يكن في يوم ما معارضًا لأي تقدم دنيوي مفيد .
بل إنني أرى أن أصحاب " اللحى الليبرالية " أخطر وأخبث من " بني علمان " ؛ نظرًا لإنخداع المسلمين بظواهرهم ، وخلفيتهم الشرعية . ولهذا تجد " بني علمان " قد سلموا لهم راية الإفساد ، ومكنوهم من المنابر ، وأغرقوهم بالمديح والثناء في مقالات وكلمات تجمع عندي منها الكثير .. ليس حبًا فيهم ، ولكن ليتخذوهم حصان ( بل حمار ! ) طروادة يغزون به حصون الأمة من داخلها .
وقد أعجبتني كلمة - مناسبة لهذا المقام - قالها الشيخ سلمان العودة في رده القديم على الغزالي ؛ قال ( ص 88 ) : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف ؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين ، أو غيرهم ، فطاروا بها كل مطار ، وصوروها ونشروها ، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة . وهم يعتبرون فكر الشيخ " مرحلة مؤقتة يواجهون بها الدعاة في هذه المرحلة .. وبعدما تتجاوز المرحلة هذا الأمر سوف يتجاوز هؤلاء فكر الشيخ ، ويعتبرونه فكرا قديما عفى عليه الزمن ، وينتقلون إلى كاتب آخر يكون أكثر تحررا وانفتاحا ، ومرونة من فكر الشيخ ) .
المجتمع المدني :
لقد أحببت أن أبين - بإيجاز - لإخوتي الكرام : حقيقة هذا المصطلح الوافد الذي بدأ يشنف أسماعنا وأبصارنا صباح مساء ، لكي لا يغتر أحد " بدسمه " ويغفل عن " سمه " ، ونكون على حذر من مكر أعداء الإسلام ممن يتمنون أن يحصروه داخل المسجد ، كما حصره أسيادهم داخل الكنيسة . وليهلك - بعد هذا - من هلك عن بينة .
وسيكون هذا التوضيح والبيان بواسطة نقولات صريحة عن مفكرين متنوعين هضموا هذا المصطلح ، وجهر كثير منهم بمناقضته للإسلام واتكائه على " العلمانية " " اللادينية " :
نشأته وماهيته :
- نشأ هذا المصطلح لدى الغرب بعد صراعهم المرير مع الكنيسة وما يسمونه " الحكم بالحق الإلهي " ؛ يهدفون من خلاله إلى تنحية دينهم " المحرف " عن شؤون الحياة الدنيا ؛ لأنه يعارضها .
- يقول الدكتور كمال عبداللطيف : (من بين المفاهيم السياسية التي أصبحت تستعمل بوفرة في الكتابات السياسية العربية المعاصرة ؛ مفهوم المجتمع المدني ، ولا شك أن اتساع دائرة استعماله في حقل هذه الكتابة يندرج ضمن دائرة العناية المستجدة في الفكر السياسي العربي بالمنظومة الليبرالية) . (المجتمع المدني ، ملاحظات حول تشكل المفهوم وتطوره ، ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، عدد 55 ، ص 64 ) .
-ويقول - أيضًا - : ( اقترن المجتمع المدني بالمجال الدنيوي ، حيث يتخلص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي ، أي من هيمنة المقدس ، وتصبح الدولة والقوانين والمؤسسات نتاجاً للتجربة التاريخية المستقلة عن مجال الروحي في صورته الدينية ) . ( السابق ، ص 66 ) .
- و( قد أوضح كل من جون لوك وجان جاك رو سو أهمية المجتمع المدني كمحصلة للتعاقد في تنظيم المجتمع ، انطلاقاً من شرعية المصلحة ، وضد كل وصاية سماوية) . ( السابق ، ص 66 ) .
- ( قد دخل المجتمع المدني في أوروبا حوالي عام 1400م بجملة دلالات أتى بها الخطيب والأديب الروماني ماركوس توليوس شيشرون في القرن الأول قبل الميلاد) . ( من عناوين المجتمع القادم ، سهيل عروسي ، ص 157 ) .
- لقد ( ظهرت فكرة المجتمع المدني مقابلاً ونقيضاَ للسلطة الدينية المسيحية ولنموذج الدولة الشمولية . ولقد نشأ هذا المفهوم في مناخات الصراع مع الكنيسة وأنموذج الدولة الشمولية تواصلاً مع مفهوم الديمقراطية وحرية الفرد وتشجيعاً لمبادراته باعتبار الأصل ، وحدأ من تمدد الدولة والكنيسة معاً بعد أن تم تحرير الدولة باعتبارها نشاطاً دنيوياً محكوماً بالعقل والقانون ، وبعد أن انتقلت فكرة السيادة المطلقة التي كانت للكنيسة باعتبارها تجسيداً للمسيح الذي تجسد فيه الرب ). ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ، الغنوشي ، ص 54 ) .
- ( يرتبط ظهور مصطلح " المجتمع المدني " بظهور نظريات العقد الاجتماعي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في المجتمعات الغربية للدلالة على مجتمع المواطنين الأحرار الذين اختاروا بإرادتهم الطوعية حكومتهم ، وظل هذا المصطلح متداولاً في أوساط المفكرين الاجتماعيين وبخاصة هيغل وماركس إلى أواخر القرن التاسع عشر ، ثم انحسر عن الحياة الفكرية والسياسية وانطوى في زوايا النسيان طوال القرن العشرين ، وعاد إلى اللمعان والظهور وبقوة في العقد الأخير من القرن العشرين ، حيث شاع استعماله في أدبيات العلوم الاجتماعية ، وراج في الأوساط الأكاديمية والعلمية سواء على المستوى العالمي أو العربي ) . ( الأستاذ عبد الحميد الأنصاري :نحو مفهوم عربي إسلامي للمجتمع المدني ، ، مجلة المستقبل العربي عدد 272ص 95 ) .
- لقد ( ظهر مصطلح " المجتمع المدني " في مقابل " المجتمع الطبيعي "من ناحية ، "والمجتمع الديني" من ناحية أخرى ، وذلك في أول نشأة المصطلح في سياق نظريات التعاقد خلال الفترة الممتدة من النهضة إلى القرن الثامن عشر في أوربا وكان المصطلح محملاً بشحنه دنيوية أرضية ضد فكرة الحق الإلهي التي كانت تحكم المجتمع الأوربي) . ( السابق ، ص 96 ) .
- ( إن المجتمع المدني قد تبلور في سياق نظريات التعاقد كما نادى به فلاسفة العقد الاجتماعي إبان القرن الثامن عشر ، تعبيراً عن المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة ، وتأسست على عقد اجتماعي ) . ( السابق ، 103 ) .
- ( إن المجتمع المدني نشأ من خلال نضال المجتمعات الغربية ضد السلطة التي كانت تجمع بين المدني والكنسي بهدف الفصل بينهما ، وهو المبدأ الذي عارضه الإسلام باعتباره نظاماً كلياً شمولياً) . ( السابق ، 102 ) .
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة أنظمة من القيم والمعتقدات : الليبرالية والرأسمالية والعلمانية ، وهي لا تتحقق مع القيم الإسلامية) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يقوم المجتمع المدني على قيم نسبية تسمح بالاختلاف والتنوع ، ولا توجد للمجتمع المدني قيم مطلقة .. بينما قيم المؤسسات الدينية والأحزاب الإسلامية مطلقة ، وتقوم على حراسة قيم مطلقة) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يشكل المجتمع المدني البنية التحتية للديمقراطية ، وهو أشبه بالشرايين والقنوات التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية ، وهما وجهان لعملة واحدة هي " الحرية " . وإذا كان من المسلمات أنه لاتنمية من دون ديمقراطية ، فكذلك لاديمقراطية من غير مجتمع مدني يكون كالأب الشرعي أو الأم الحاضنة التي تضمن للديمقراطية النمو والاستمرار والازدهار) . ( السابق ، 97 ) .
- ( المجتمع المدني هو بالأساس ذلك المجتمع غير الديني ، أي المجتمع المنعتق سياسياً من السلطة المطلقة الدينية التيوقراطية). ( المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ،توفيق المديني ، ص 45 ) .
- ( العلمانية روح المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 67 ) .
- ( المجتمع المدني مؤسس على العقلانية والعلمانية) . ( السابق ، ص 68 ) .
- ( إن الحرية الفردية تشكل أساس المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 68 ) .
- (إن التحرر السياسي في المجتمع المدني قد قاد إلى تحرر الإنسان من الدين) . ( السابق ، ص 69 ) .
- ( يقيم – أي المجتمع المدني – الدولة على أساس دنيوي ، ملغيًا المفهوم القديم القائم على الحكم بالحق الإلهي ) . ( مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي د / أحمد شكر الصبيحي ، ص 120) .
- ( إن المجتمع المدني قرين الفكر الغربي ) . ( السابق ، ص 17 ) .
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها : الليبرالية ، وثانيها : الرأسمالية ، وثالثها : العلمانية . وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تتفق مع القيم الإسلامية ) . ( السابق ، ص 41 ) .
- ( كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة من السماء "الحكم بالحق الإلهي" إلى الأرض "الحكم على أساس العقد الاجتماعي" ) . (المجتمع المدني ، دراسة نقدية ، د/ عزمي بشارة ص 12) .
- و ( يرى مجدي حماد - أيضًا - : أن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها الليبرالية ، وثانيها الرأسمالية ، وثالثها العلمانية ) . ( إشكالية مفهوم المجتمع المدني ، د كريم أبوحلاوة ، ص 150 ) .
-( ومن هنا يُعرف المجتمع المدني أو العلماني بأنه المجتمع المستقل في تنظيم حياته المدنية ـ الاجتماعية عن أية افتراضات مسبقة عن ، ولوجود الإنسان ومجتمعه . ومن هنا كذلك ينبغي أن تكون علاقات العيش الإنساني ـ الاجتماعي في المجتمع المدني محكومة بنواظم العقل ـ العلم البشري ، حسبما تقوله العلمانية ، لكن نواظم العقل متبدلة بتبدل مراحل العيش والارتقاء الإنساني ، ومتغيرة بتغير المكان والزمان وإن كانت محكومة بمبدأ أساسي هو الحفاظ على مبدأ الوجود واستمراريته ، ومن ثم الوجود الآمن والعادل . في مثل هذه الحال تكون الاعتقادات الإيمانية الأيديولوجية الفكرية شأنا خاصاً من شؤون الضمير الفردي في اعتقاداته وآرائه الفكرية والإيمانية والاجتماعية والسياسية ، وإلا فإن فرض رأي ضمير على ضمير آخر هو بداية التسلط ، ومن ثم العنف المتبادل ، فالمجتمع المدني إذن ، آو العمران على لغة ابن خلدون ، يفترض فكرة " العقد الاجتماعي " بين أطراف المجموعة الاجتماعية وبين البشر عموما ، وفي مثل هذه الحالة يمكن للحكومة أن تكون حكما ومراقبا ، وليس مجرد ممثل لأيديولوجية آو طبقة مسيطرة ) .( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 26 – 27 ) .
-( ومن هنا نستطيع القول إن المجتمع المدني ترتيب جديد للمجموعات الاجتماعية لا يأخذ بعين الاعتبار رغبة أي من التنظيمات والعقائد الاجتماعية والشخصية الموروثة في فرض نفسها على المجتمع ، حتى وإن تماسست في مؤسسات ، كالدين والطائفية والعشيرة ، بل والحزب السياسي ، بل ويقاوم رغبة أو محاولة أية مجموعة اجتماعية السيطرة على باقي المجموعات باسم الصحة المطلقة لعقيدتها ، وفي المقابل تحاول العلمانية والمجتمع المدني ترتيب علاقات وحياة المجموعات سلميا ، وجعل العقل والعلم والدين والمصلحة المشتركة ، أي الاعتراف المتبادل بالمصالح وحرية الاعتقاد ووجوب الاحتكام إلى المؤسسات التمثيلية البشرية غير المقيدة بأية صفة إطلاقية دينية كانت أم دنيوية ، فالعلمانية لا تتطلب التخلي عن العقيدة والرأي بل وتعرف أن هذا غير ممكن ، لكنها تريد الامتناع عن فرض هذا الرأي بأي شكل من أشكال العنف والضغط أو الإكراه ، حتى ولو كان ذلك علي شكل ترغيب أو ترهيب ) . ( السابق ، ص 27 ) .
- ( المجتمع المدني هو نقيض المجتمع الديني كما هو معروف ) . ( السابق ، ص 29 ) .
معوقات تحقيق المجتمع المدني لدى العلمانيين :
-( دون تحقيق مجتمعات مدنية في بلداننا العربية عوائق شتى ، يحصرها بعض الباحثين في أربع نقاط :
الأولي :.....الثانية :.......
الثالثة : منظومة العلاقات والتفاعلات القائمة على الدين الإسلامي ) !! . ( الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني ، فهمية شرف الدين ، مجلة المستقبل العربي ، ص 42 ) .
- ( لا يختلف معظم المحللين والباحثين الاجتماعيين على أن المنظومة التربوية السائدة في المجتمعات العربية هي سبب رئيسي من أسباب تأخر المجتمعات العربية ) . (تقف منظومة تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة وتنتهي في شبكة العلاقات السياسية أي في تلك العلاقة مابين " رب البيت " و " رب الوطن " و " رب العالمين " يجمع بينها جميعها مفهوم الطاعة الذي ينتج الولاء و التبعية ، وعندما تكون الطاعة هي القيمة الأولي في المجتمع تنتفي الإرادة ، وينحسر الاختيار الحر) . !! ( السابق ، 46، 47 ) .
حكمه :
- " المجتمع المدني " مجتمع علماني كما سبق باعتراف أهله والمعجبين به ، فهو يساوي بين الإسلام والديانات المحرفة أو البشرية ، ويهمشه ، ويبعده عن مجالات الحياة ؛ وهذا كفر لاشك فيه . وليطالع من يريد الزيادة : رسالة ( العلمانية ) للشيخ سفر الحوالي - حفظه الله - ( فصل : حكم العلمانية في الإسلام ) . وكتاب ( كسر الصنم العلماني ) للأستاذ محمد شاكر الشريف - سلمه الله - .
- ( إن مفهوم المجتمع المدني ( أوروبياً ) مرتبط بجدلية التاريخ الأوربي ، ولا يجوز ترجمة تطور هذا المفهوم على دولة الإسلام في مختلف مراحلها ذلك أن دولة الإسلام دولية موضوعية جمعت الدين والدنيا) . ( مجلة الفيصل ، العدد 202 ، العرب والمجتمع المدني ، د / عمر فوزي نجاري ، ص 19 ) .
تنبيهات :
التنبيه الأول : قال العلماني محمد كامل الخطيب :( بالنسبة للمجتمع العربي تحديداً ، فالدعوة للمجتمع المدني العلماني ، ما تزال جديدة جدة عملية التمدين ، وربما يمكن تأريخ ابتدائها بتلك الرسالة التي أرسلها إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى متسلم اللاذقية في 24 ربيع الثاني 1248 ، ( 1809 م ) وفيها يقول :
" الإسلام والنصارى جميعهم رعايانا، وأمر المذهب ماله بحكم السياسة ، فيلزم أن يكون كل بحاله ، المؤمن يجري إسلامه والعيسوي كذلك ، ولا أحد يتسلط على أحد " .
وبعد إبراهيم باشا ، الذي قارب العلمانية لأسباب إدارية وسياسية ، أتى المفكرون ؛ فدعا للعلمانية والمجتمع المدني كتاب ومفكرون من أمثال شبلي شميل ولطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وطه حسين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن الشهبندر وسلامة موسى وقسطنطين زريق وغالبية المفكرين القوميين والماركسيين ، وربما كانت الأنظمة العربية التي تحكم باسم الفكر القومي من آثار الدعوة للمجتمع المدني والعلمانية في العصر الحديث ، على الرغم من أنها لم تستطع ممارسة وتحقيق إلا القليل القليل من سمات المجتمع المدني ، ومن العلمانية ، بل إنها ، وفي حالات كثيرة ناقضت المجتمع المدني والعلمانية في ممارساتها وسياساتها ، فمزقت المجتمع وعملت على تهديده ) .( مرجع سابق ، ص 28 – 29 ) .
التنبيه الثاني : فتن بعض الإسلاميين بالمجتمع المدني كما فتنوا قبله بالديمقراطية !! كل هذا لأجل الهرب من تسلط الدول العربية التي عاشوا فيها ؛ كمصر وتونس وغيرها ؛ فأصبحوا كما قيل : كالمستجير من الرمضاء بالنار !
والعجب أن صراخهم ملأ الفضاء دعوة وتبشيرًا بالدولة الإسلامية التي يسعون إليها ! فيما هم - في الواقع - يلمعون الأنظمة الكفرية ( الديمقراطية ، المجتمع المدني .. ) ، فماهذا التناقض ؟! ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟
ألا يدل هذا على أنهم لا زالوا غير مقتنعين بالحكم الإسلامي ؟!
وأنهم لازالوا يخلطون بينه وبين " الحكم الديني " الذي وجد في الغرب ؟!
وإلا فلماذا يتجاوزونه ويجتهدون في " ترقيع " أفكار الغرب ، وجلبها لديار المسلمين ؟! أليس هذا من الخيانة والتلبيس على الأمة ؟!
والمضحك أن هؤلاء الإسلاميين عندما تبنوا أفكار الغرب زعموا أنهم سيجرون عليها بعض " التعديلات " لتكون مناسبة لنا !
فزعم بعضهم ( كالقرضاوي ) المفتون بالديمقراطية أن ( السلطة المنتخبة لاتملك حق التشريع فيما لم يأذن به الله . لا يملك أن تحل حرامًا أو تحرم حلالا ) !! ( انظر : كتابه : الحلول المستوردة ، ص 77-78 ) . وأن ( لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع ) !! ( انظر : فتاوى معاصرة 2/646) .
وهل سيقر لك سدنة الديمقراطية بهذا التحكم في ديمقراطيتهم ؟! إنك إن فعلت ذلك لن يكون " المعدل " ديمقراطية !! وإنما سيكون إسلاما ! فريح بالك وادع للإسلام مباشرة ! ( انظر الرد عليه تفصيلا في كتاب : القرضاوي في الميزان ) .
ثم جاء آخر من " الترقيعيين " وهو الغنوشي مبشرًا بالمجتمع المدني الذي سيخلصنا من " الدول المتسلطة " وألف كتابًا بعنوان ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ) أتى فيه بما لم تستطعه الأوائل ! حيث خالف إجماع العارفين بالمجتمع المدني وأهله عندما قال ( ص 104 ) : ( لاتعتبر العلمانية فكرة مساعدة على نشأة المجتمع المدني ) !! ، وعندما زعم ( ص 108 ) : ( أن فكرة العلمانية ..ضد المجتمع المدني ) !! كل هذا لأجل تلميع صورة هذا المجتمع العلماني بين المسلمين .
قد يقول قائل : لماذا لانعذر القرضاوي والغنوشي في دعوتهم للديمقراطية والمجتمع المدني ، وهم قد عاشوا في مجتمعات جمعت بين الحكم بالطاغوت والظلم ، فبعض الكفر أهون من بعض ؟ وكفر الديمقراطية والمجتمع المدني قد يقبله العالم بخلاف الدعوة للحكم الإسلامي ؟
أقول :
1- لو سلك هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع الحكام - كافرهم أو ظالمهم - لما تعرضوا لما تعرضوا له ، ولما اضطروا لقبول هذه الكفريات .( وتفصيل هذا يطول ) وقارن حالهم بحال دعاة السنة في تلك البلاد كيف أثمرت دعوتهم ، لولا أن أفسدها هؤلاء عليهم بحماقاتهم .
2- أنهم - من واقع حالهم - غير مضطرين أبدا لهذه الكفريات كلها ، التي تقضت أعمارهم في سبيل تقريرها في بلاد المسلمين . فلوا ركزوا جهودهم على بيان أهمية الحكم بالشريعة ، وحسنوه للحكام وللناس لكان خيرا لهم ، فإن قبل منهم وإلا فهم معذورون ........ ولكن : فاقد الشيئ لايعطيه !
3- أنهم عندما دعوا لما سبق من كفريات لم يقروا بمخالفتها للإسلام ، وأنهم إنما أكرهوا عليها . بل ادعوا أنها لاتنافي الإسلام مجرين عليها تعديلاتهم الخيالية . وهذا تلبيس ومكابرة .
ماعذر الحامد والفالح والطريفي ؟!
أولئك عاشوا في بلاد متسلطة لم تحكم بالشرع ، ولم يعذروا بانحرافهم عن المنهج الشرعي في التعامل مع الولاة الذي قادهم إلى تلكم الكفريات . فماظنك بأناس يعيشون في بلاد التوحيد والدعوة ، التي يحكم فيها بالشرع ، وتظهر فيها السنة وأهلها ، والفضيلة وحماتها .. ثم يستبدلون هذا كله بالدعوة والتلميع لذلك المجتمع المدني " الكفري " ؟!
أما الحامد : فهو الدكتور عبدالله الحامد ، " الأديب " المعروف الذي جعل ديدنه في كل لقاء يعمل معه : المناداة بهذا المجتمع المدني الذي سيخلصنا من الإستبداد و .. و .. الخ الشعارات ! ( انظر لقاءه مع قناة الجزيرة مثلا ) . وقد ألف لأجل هذا كتابيه : " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " !! و " نظرية المجتمع المدني في الإسلام " . ولي معه جولة قادمة - إن شاء الله - .
وأما الفالح : فهو الدكتور متروك الفالح ، أحد دكاترة جامعة الملك سعود ، ألف كتابًا " وصفيًا " بعنوان " المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية - دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المدن " . حاول فيه كغيره اجراء " تعديلات " و " تحكمات " على مجتمعه المدني ليتوافق مع واقعنا . ( انظر ص 151 من كتابه ) .
وأما الطريفي : فهو عادل بن زيد الطريفي ، كاتب صحفي مغرم بالتعالم ولوك المصطلحات الغربية ، بدأ من صحيفة المحايد ، ثم انتقل إلى جريدة الوطن . كتب مقالا بعنوان " أين هو المجتمع المدني في مشروعات الإصلاح العربية ؟ " ( الوطن / 1279) : يبشر فيه الدول العربية بفوائد الأخذ بالمجتمع المدني ! ويحذرهم من " الأصولية الدينية " !! و" الانغلاق السلفوي " !! وقد رد عليه الأستاذ سعيد الغامدي - وفقه الله - .
قد يقال : عذرهم أنه يوجد في مجتمعنا " أثرة " ، وقد وقع على بعضهم " ظلم " فروا منه إلى هذه الأفكار التي تقيهم من التسلط .
فأقول : سبحان الله ! أيفر من " الظلم " إلى " الكفر " ؟!
أيفر من دولة إسلامية فيها أثرة ، لكن أعلام التوحيد والشريعة والفضيلة فيها ظاهرة مرفوعة ، أهلها مجتمعون ... إلى " مجتمع مدني كفري " ترتفع فيه أعلام الكفر والبدعة ، والتحزب والتفرق ، ويرتع فيه أرباب الخنا والرذيلة بقوانين تحميهم !!
عجبًا لكم !
أليست ( الفتنة أشد من القتل ) ؟!
ثم أقول : لو التزم هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع ولاتهم لما وقع عليهم هذا الظلم . فلماذا الإثارة ومنازعة الأمر أهله ؟ وقد تبين وتأكد للعقلاء عبر التاريخ أن هذا المسلك التصادمي يفسد ولا يصلح ، والواقع شاهد .
ولو اشتغل هؤلاء بالدعوة إلى دين الله وتوحيده وناصحوا من ولاه الله أمرهم ؛ لبوركت جهودهم وأثمرت كغيرهم ممن نفع الله بهم البلاد والعباد . لكنهم أشغلوا أنفسهم فيما حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من " عدم منازعة الأمر أهله " فضروا أنفسهم وأضروا غيرهم . ثم لجؤا إلى هذه الدعوات " الكفرية " التي ظنوها تنقذهم مما هم فيه ، حتى أشربوها في قلوبهم - والعياذ بالله -
وأقول لهم أيضا : ومايدرينا أنكم لو تسلطتم علينا أن لا تظلموا ولاتستأثروا !! وحال إخوانكم في دول أخرى تمكنوا منها لا يبشر بخير !
ختامًا : أسأل الله أن يبصر شباب الإسلام بانحرافات من يزعمون " الإصلاح " ومجابهة الظلم والأثرة وهم يقودونهم إلى " الكفر " والإنسلاخ من الدين وهم لايشعرون .. وأن يجعلهم متنبهين لما يراد بهم : لاتخدعهم زخارف الألفاظ ولا تدغدغهم الشعارات الكاذبة .
والله الموفق .
وهذا " المجتمع المدني " - كما سيأتي - مخلف آخر من مخلفات و " استوكات " المجتمع الغربي العلماني المصدرة إلينا - كالعادة - ليتلقفها الأذناب ويروجوا لها تمهيدا لإدخال مجتمعاتنا ومسخها داخل المنظومة الغربية .. فلا عجب أن يحتفي به " بنو علمان " من متبعي سنن من كان قبلنا حذو القذة بالقذة ، حتى قال قائلهم : ( إن المجتمع المدني والعلمانية مطلوبان في المجتمع العربي ) ! ( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 31 ) .
ولكن العجب أن يتابعهم على هذا : أفراد الطائفة المخذولة المسمون " بالعصرانيين " أصحاب " اللحى " من مدعي الأسلمة !!
ويلزمهم - في نظري - أمران :
1- إما أن يكونوا يجهلون حقيقة هذا المصطلح " العلماني " ، ومصادمته الصريحة للإسلام ، ولكنهم سمعوا القوم يرددونه فرددوه تبعًا لهم كالببغاء عقله في أذنيه ! ، وهذه مصيبة ؛ أن يدعوا إلى أمر لايعلمون حقيقته .
2- وإما أن يكونوا يعلمون حقيقة هذا المصطلح ، فهم يتبنونه عن علم ، ومع سابق الإصرار والترصد . وهذا ما أميل إليه !! واعذروني على إساءة الظن بهم ؛ لأن مقالاتهم وأحوالهم التي ظهرت وتبينت للمسلمين تؤكد ظني ، فلم يعد هناك مجال للمجاملة أو إحسان الظن .. فلا فرق بين الطائفتين " العلمانية ، والعصرانية " سوى هذه " اللحى " التي هي شعار تتطلبه هذه المرحلة ! - وإلا فالجميع - كما تبين في مواقف عديدة - بسبب تضخم الحياة الدنيا في عقولهم يأملون باستبعاد الإسلام وأحكامه عن دنياهم .. ظانين أنهم بهذا الفعل يلحقون بركب الغرب ، غير متعظين بتجارب إخوانهم في بلاد إسلامية كثيرة حكموها بعلمانيتهم وبتحجيمهم للإسلام وأهله ، فلم يخلفوا بعدهم سوى البؤس الديني والدنيوي ، متجاهلين عن عمد فشل إسقاط النموذج الغربي على الإسلام الذي لم يكن في يوم ما معارضًا لأي تقدم دنيوي مفيد .
بل إنني أرى أن أصحاب " اللحى الليبرالية " أخطر وأخبث من " بني علمان " ؛ نظرًا لإنخداع المسلمين بظواهرهم ، وخلفيتهم الشرعية . ولهذا تجد " بني علمان " قد سلموا لهم راية الإفساد ، ومكنوهم من المنابر ، وأغرقوهم بالمديح والثناء في مقالات وكلمات تجمع عندي منها الكثير .. ليس حبًا فيهم ، ولكن ليتخذوهم حصان ( بل حمار ! ) طروادة يغزون به حصون الأمة من داخلها .
وقد أعجبتني كلمة - مناسبة لهذا المقام - قالها الشيخ سلمان العودة في رده القديم على الغزالي ؛ قال ( ص 88 ) : ( فرح بكتب الشيخ هذه كثير من أصحاب الفكر المنحرف ؛ سواء كانوا يساريين أو علمانيين ، أو غيرهم ، فطاروا بها كل مطار ، وصوروها ونشروها ، ووزعوها ونشروا مقتطفات منها في كل وسيلة . وهم يعتبرون فكر الشيخ " مرحلة مؤقتة يواجهون بها الدعاة في هذه المرحلة .. وبعدما تتجاوز المرحلة هذا الأمر سوف يتجاوز هؤلاء فكر الشيخ ، ويعتبرونه فكرا قديما عفى عليه الزمن ، وينتقلون إلى كاتب آخر يكون أكثر تحررا وانفتاحا ، ومرونة من فكر الشيخ ) .
المجتمع المدني :
لقد أحببت أن أبين - بإيجاز - لإخوتي الكرام : حقيقة هذا المصطلح الوافد الذي بدأ يشنف أسماعنا وأبصارنا صباح مساء ، لكي لا يغتر أحد " بدسمه " ويغفل عن " سمه " ، ونكون على حذر من مكر أعداء الإسلام ممن يتمنون أن يحصروه داخل المسجد ، كما حصره أسيادهم داخل الكنيسة . وليهلك - بعد هذا - من هلك عن بينة .
وسيكون هذا التوضيح والبيان بواسطة نقولات صريحة عن مفكرين متنوعين هضموا هذا المصطلح ، وجهر كثير منهم بمناقضته للإسلام واتكائه على " العلمانية " " اللادينية " :
نشأته وماهيته :
- نشأ هذا المصطلح لدى الغرب بعد صراعهم المرير مع الكنيسة وما يسمونه " الحكم بالحق الإلهي " ؛ يهدفون من خلاله إلى تنحية دينهم " المحرف " عن شؤون الحياة الدنيا ؛ لأنه يعارضها .
- يقول الدكتور كمال عبداللطيف : (من بين المفاهيم السياسية التي أصبحت تستعمل بوفرة في الكتابات السياسية العربية المعاصرة ؛ مفهوم المجتمع المدني ، ولا شك أن اتساع دائرة استعماله في حقل هذه الكتابة يندرج ضمن دائرة العناية المستجدة في الفكر السياسي العربي بالمنظومة الليبرالية) . (المجتمع المدني ، ملاحظات حول تشكل المفهوم وتطوره ، ، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ، عدد 55 ، ص 64 ) .
-ويقول - أيضًا - : ( اقترن المجتمع المدني بالمجال الدنيوي ، حيث يتخلص مجال السياسة من إرث العصور الوسطى المسيحي الكنسي ، أي من هيمنة المقدس ، وتصبح الدولة والقوانين والمؤسسات نتاجاً للتجربة التاريخية المستقلة عن مجال الروحي في صورته الدينية ) . ( السابق ، ص 66 ) .
- و( قد أوضح كل من جون لوك وجان جاك رو سو أهمية المجتمع المدني كمحصلة للتعاقد في تنظيم المجتمع ، انطلاقاً من شرعية المصلحة ، وضد كل وصاية سماوية) . ( السابق ، ص 66 ) .
- ( قد دخل المجتمع المدني في أوروبا حوالي عام 1400م بجملة دلالات أتى بها الخطيب والأديب الروماني ماركوس توليوس شيشرون في القرن الأول قبل الميلاد) . ( من عناوين المجتمع القادم ، سهيل عروسي ، ص 157 ) .
- لقد ( ظهرت فكرة المجتمع المدني مقابلاً ونقيضاَ للسلطة الدينية المسيحية ولنموذج الدولة الشمولية . ولقد نشأ هذا المفهوم في مناخات الصراع مع الكنيسة وأنموذج الدولة الشمولية تواصلاً مع مفهوم الديمقراطية وحرية الفرد وتشجيعاً لمبادراته باعتبار الأصل ، وحدأ من تمدد الدولة والكنيسة معاً بعد أن تم تحرير الدولة باعتبارها نشاطاً دنيوياً محكوماً بالعقل والقانون ، وبعد أن انتقلت فكرة السيادة المطلقة التي كانت للكنيسة باعتبارها تجسيداً للمسيح الذي تجسد فيه الرب ). ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ، الغنوشي ، ص 54 ) .
- ( يرتبط ظهور مصطلح " المجتمع المدني " بظهور نظريات العقد الاجتماعي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر في المجتمعات الغربية للدلالة على مجتمع المواطنين الأحرار الذين اختاروا بإرادتهم الطوعية حكومتهم ، وظل هذا المصطلح متداولاً في أوساط المفكرين الاجتماعيين وبخاصة هيغل وماركس إلى أواخر القرن التاسع عشر ، ثم انحسر عن الحياة الفكرية والسياسية وانطوى في زوايا النسيان طوال القرن العشرين ، وعاد إلى اللمعان والظهور وبقوة في العقد الأخير من القرن العشرين ، حيث شاع استعماله في أدبيات العلوم الاجتماعية ، وراج في الأوساط الأكاديمية والعلمية سواء على المستوى العالمي أو العربي ) . ( الأستاذ عبد الحميد الأنصاري :نحو مفهوم عربي إسلامي للمجتمع المدني ، ، مجلة المستقبل العربي عدد 272ص 95 ) .
- لقد ( ظهر مصطلح " المجتمع المدني " في مقابل " المجتمع الطبيعي "من ناحية ، "والمجتمع الديني" من ناحية أخرى ، وذلك في أول نشأة المصطلح في سياق نظريات التعاقد خلال الفترة الممتدة من النهضة إلى القرن الثامن عشر في أوربا وكان المصطلح محملاً بشحنه دنيوية أرضية ضد فكرة الحق الإلهي التي كانت تحكم المجتمع الأوربي) . ( السابق ، ص 96 ) .
- ( إن المجتمع المدني قد تبلور في سياق نظريات التعاقد كما نادى به فلاسفة العقد الاجتماعي إبان القرن الثامن عشر ، تعبيراً عن المجتمعات التي تجاوزت حالة الطبيعة ، وتأسست على عقد اجتماعي ) . ( السابق ، 103 ) .
- ( إن المجتمع المدني نشأ من خلال نضال المجتمعات الغربية ضد السلطة التي كانت تجمع بين المدني والكنسي بهدف الفصل بينهما ، وهو المبدأ الذي عارضه الإسلام باعتباره نظاماً كلياً شمولياً) . ( السابق ، 102 ) .
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة أنظمة من القيم والمعتقدات : الليبرالية والرأسمالية والعلمانية ، وهي لا تتحقق مع القيم الإسلامية) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يقوم المجتمع المدني على قيم نسبية تسمح بالاختلاف والتنوع ، ولا توجد للمجتمع المدني قيم مطلقة .. بينما قيم المؤسسات الدينية والأحزاب الإسلامية مطلقة ، وتقوم على حراسة قيم مطلقة) . ( السابق ، 102 ) .
- ( يشكل المجتمع المدني البنية التحتية للديمقراطية ، وهو أشبه بالشرايين والقنوات التي يجري فيها السائل الحيوي للديمقراطية ، وهما وجهان لعملة واحدة هي " الحرية " . وإذا كان من المسلمات أنه لاتنمية من دون ديمقراطية ، فكذلك لاديمقراطية من غير مجتمع مدني يكون كالأب الشرعي أو الأم الحاضنة التي تضمن للديمقراطية النمو والاستمرار والازدهار) . ( السابق ، 97 ) .
- ( المجتمع المدني هو بالأساس ذلك المجتمع غير الديني ، أي المجتمع المنعتق سياسياً من السلطة المطلقة الدينية التيوقراطية). ( المجتمع المدني والدولة السياسية في الوطن العربي ،توفيق المديني ، ص 45 ) .
- ( العلمانية روح المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 67 ) .
- ( المجتمع المدني مؤسس على العقلانية والعلمانية) . ( السابق ، ص 68 ) .
- ( إن الحرية الفردية تشكل أساس المجتمع المدني) . ( السابق ، ص 68 ) .
- (إن التحرر السياسي في المجتمع المدني قد قاد إلى تحرر الإنسان من الدين) . ( السابق ، ص 69 ) .
- ( يقيم – أي المجتمع المدني – الدولة على أساس دنيوي ، ملغيًا المفهوم القديم القائم على الحكم بالحق الإلهي ) . ( مستقبل المجتمع المدني في الوطن العربي د / أحمد شكر الصبيحي ، ص 120) .
- ( إن المجتمع المدني قرين الفكر الغربي ) . ( السابق ، ص 17 ) .
- ( إن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها : الليبرالية ، وثانيها : الرأسمالية ، وثالثها : العلمانية . وهذه القيم والمعتقدات الثلاثة بجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا تتفق مع القيم الإسلامية ) . ( السابق ، ص 41 ) .
- ( كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة من السماء "الحكم بالحق الإلهي" إلى الأرض "الحكم على أساس العقد الاجتماعي" ) . (المجتمع المدني ، دراسة نقدية ، د/ عزمي بشارة ص 12) .
- و ( يرى مجدي حماد - أيضًا - : أن المجتمع المدني يجد أساسه الأيدلوجي في تفاعل ثلاثة نظم من القيم والمعتقدات : أولها الليبرالية ، وثانيها الرأسمالية ، وثالثها العلمانية ) . ( إشكالية مفهوم المجتمع المدني ، د كريم أبوحلاوة ، ص 150 ) .
-( ومن هنا يُعرف المجتمع المدني أو العلماني بأنه المجتمع المستقل في تنظيم حياته المدنية ـ الاجتماعية عن أية افتراضات مسبقة عن ، ولوجود الإنسان ومجتمعه . ومن هنا كذلك ينبغي أن تكون علاقات العيش الإنساني ـ الاجتماعي في المجتمع المدني محكومة بنواظم العقل ـ العلم البشري ، حسبما تقوله العلمانية ، لكن نواظم العقل متبدلة بتبدل مراحل العيش والارتقاء الإنساني ، ومتغيرة بتغير المكان والزمان وإن كانت محكومة بمبدأ أساسي هو الحفاظ على مبدأ الوجود واستمراريته ، ومن ثم الوجود الآمن والعادل . في مثل هذه الحال تكون الاعتقادات الإيمانية الأيديولوجية الفكرية شأنا خاصاً من شؤون الضمير الفردي في اعتقاداته وآرائه الفكرية والإيمانية والاجتماعية والسياسية ، وإلا فإن فرض رأي ضمير على ضمير آخر هو بداية التسلط ، ومن ثم العنف المتبادل ، فالمجتمع المدني إذن ، آو العمران على لغة ابن خلدون ، يفترض فكرة " العقد الاجتماعي " بين أطراف المجموعة الاجتماعية وبين البشر عموما ، وفي مثل هذه الحالة يمكن للحكومة أن تكون حكما ومراقبا ، وليس مجرد ممثل لأيديولوجية آو طبقة مسيطرة ) .( المجتمع المدني والعلمنة ، محمد كامل الخطيب ،ص 26 – 27 ) .
-( ومن هنا نستطيع القول إن المجتمع المدني ترتيب جديد للمجموعات الاجتماعية لا يأخذ بعين الاعتبار رغبة أي من التنظيمات والعقائد الاجتماعية والشخصية الموروثة في فرض نفسها على المجتمع ، حتى وإن تماسست في مؤسسات ، كالدين والطائفية والعشيرة ، بل والحزب السياسي ، بل ويقاوم رغبة أو محاولة أية مجموعة اجتماعية السيطرة على باقي المجموعات باسم الصحة المطلقة لعقيدتها ، وفي المقابل تحاول العلمانية والمجتمع المدني ترتيب علاقات وحياة المجموعات سلميا ، وجعل العقل والعلم والدين والمصلحة المشتركة ، أي الاعتراف المتبادل بالمصالح وحرية الاعتقاد ووجوب الاحتكام إلى المؤسسات التمثيلية البشرية غير المقيدة بأية صفة إطلاقية دينية كانت أم دنيوية ، فالعلمانية لا تتطلب التخلي عن العقيدة والرأي بل وتعرف أن هذا غير ممكن ، لكنها تريد الامتناع عن فرض هذا الرأي بأي شكل من أشكال العنف والضغط أو الإكراه ، حتى ولو كان ذلك علي شكل ترغيب أو ترهيب ) . ( السابق ، ص 27 ) .
- ( المجتمع المدني هو نقيض المجتمع الديني كما هو معروف ) . ( السابق ، ص 29 ) .
معوقات تحقيق المجتمع المدني لدى العلمانيين :
-( دون تحقيق مجتمعات مدنية في بلداننا العربية عوائق شتى ، يحصرها بعض الباحثين في أربع نقاط :
الأولي :.....الثانية :.......
الثالثة : منظومة العلاقات والتفاعلات القائمة على الدين الإسلامي ) !! . ( الواقع العربي وعوائق تكوين المجتمع المدني ، فهمية شرف الدين ، مجلة المستقبل العربي ، ص 42 ) .
- ( لا يختلف معظم المحللين والباحثين الاجتماعيين على أن المنظومة التربوية السائدة في المجتمعات العربية هي سبب رئيسي من أسباب تأخر المجتمعات العربية ) . (تقف منظومة تربوية متكاملة تبدأ من الأسرة وتنتهي في شبكة العلاقات السياسية أي في تلك العلاقة مابين " رب البيت " و " رب الوطن " و " رب العالمين " يجمع بينها جميعها مفهوم الطاعة الذي ينتج الولاء و التبعية ، وعندما تكون الطاعة هي القيمة الأولي في المجتمع تنتفي الإرادة ، وينحسر الاختيار الحر) . !! ( السابق ، 46، 47 ) .
حكمه :
- " المجتمع المدني " مجتمع علماني كما سبق باعتراف أهله والمعجبين به ، فهو يساوي بين الإسلام والديانات المحرفة أو البشرية ، ويهمشه ، ويبعده عن مجالات الحياة ؛ وهذا كفر لاشك فيه . وليطالع من يريد الزيادة : رسالة ( العلمانية ) للشيخ سفر الحوالي - حفظه الله - ( فصل : حكم العلمانية في الإسلام ) . وكتاب ( كسر الصنم العلماني ) للأستاذ محمد شاكر الشريف - سلمه الله - .
- ( إن مفهوم المجتمع المدني ( أوروبياً ) مرتبط بجدلية التاريخ الأوربي ، ولا يجوز ترجمة تطور هذا المفهوم على دولة الإسلام في مختلف مراحلها ذلك أن دولة الإسلام دولية موضوعية جمعت الدين والدنيا) . ( مجلة الفيصل ، العدد 202 ، العرب والمجتمع المدني ، د / عمر فوزي نجاري ، ص 19 ) .
تنبيهات :
التنبيه الأول : قال العلماني محمد كامل الخطيب :( بالنسبة للمجتمع العربي تحديداً ، فالدعوة للمجتمع المدني العلماني ، ما تزال جديدة جدة عملية التمدين ، وربما يمكن تأريخ ابتدائها بتلك الرسالة التي أرسلها إبراهيم باشا ابن محمد علي إلى متسلم اللاذقية في 24 ربيع الثاني 1248 ، ( 1809 م ) وفيها يقول :
" الإسلام والنصارى جميعهم رعايانا، وأمر المذهب ماله بحكم السياسة ، فيلزم أن يكون كل بحاله ، المؤمن يجري إسلامه والعيسوي كذلك ، ولا أحد يتسلط على أحد " .
وبعد إبراهيم باشا ، الذي قارب العلمانية لأسباب إدارية وسياسية ، أتى المفكرون ؛ فدعا للعلمانية والمجتمع المدني كتاب ومفكرون من أمثال شبلي شميل ولطفي السيد وعبد الرحمن الكواكبي وعلي عبد الرازق وطه حسين وجبران خليل جبران وعبد الرحمن الشهبندر وسلامة موسى وقسطنطين زريق وغالبية المفكرين القوميين والماركسيين ، وربما كانت الأنظمة العربية التي تحكم باسم الفكر القومي من آثار الدعوة للمجتمع المدني والعلمانية في العصر الحديث ، على الرغم من أنها لم تستطع ممارسة وتحقيق إلا القليل القليل من سمات المجتمع المدني ، ومن العلمانية ، بل إنها ، وفي حالات كثيرة ناقضت المجتمع المدني والعلمانية في ممارساتها وسياساتها ، فمزقت المجتمع وعملت على تهديده ) .( مرجع سابق ، ص 28 – 29 ) .
التنبيه الثاني : فتن بعض الإسلاميين بالمجتمع المدني كما فتنوا قبله بالديمقراطية !! كل هذا لأجل الهرب من تسلط الدول العربية التي عاشوا فيها ؛ كمصر وتونس وغيرها ؛ فأصبحوا كما قيل : كالمستجير من الرمضاء بالنار !
والعجب أن صراخهم ملأ الفضاء دعوة وتبشيرًا بالدولة الإسلامية التي يسعون إليها ! فيما هم - في الواقع - يلمعون الأنظمة الكفرية ( الديمقراطية ، المجتمع المدني .. ) ، فماهذا التناقض ؟! ( يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ) ؟
ألا يدل هذا على أنهم لا زالوا غير مقتنعين بالحكم الإسلامي ؟!
وأنهم لازالوا يخلطون بينه وبين " الحكم الديني " الذي وجد في الغرب ؟!
وإلا فلماذا يتجاوزونه ويجتهدون في " ترقيع " أفكار الغرب ، وجلبها لديار المسلمين ؟! أليس هذا من الخيانة والتلبيس على الأمة ؟!
والمضحك أن هؤلاء الإسلاميين عندما تبنوا أفكار الغرب زعموا أنهم سيجرون عليها بعض " التعديلات " لتكون مناسبة لنا !
فزعم بعضهم ( كالقرضاوي ) المفتون بالديمقراطية أن ( السلطة المنتخبة لاتملك حق التشريع فيما لم يأذن به الله . لا يملك أن تحل حرامًا أو تحرم حلالا ) !! ( انظر : كتابه : الحلول المستوردة ، ص 77-78 ) . وأن ( لا مجال للتصويت في قطعيات الشرع ) !! ( انظر : فتاوى معاصرة 2/646) .
وهل سيقر لك سدنة الديمقراطية بهذا التحكم في ديمقراطيتهم ؟! إنك إن فعلت ذلك لن يكون " المعدل " ديمقراطية !! وإنما سيكون إسلاما ! فريح بالك وادع للإسلام مباشرة ! ( انظر الرد عليه تفصيلا في كتاب : القرضاوي في الميزان ) .
ثم جاء آخر من " الترقيعيين " وهو الغنوشي مبشرًا بالمجتمع المدني الذي سيخلصنا من " الدول المتسلطة " وألف كتابًا بعنوان ( مقاربات في العلمانية والمجتمع المدني ) أتى فيه بما لم تستطعه الأوائل ! حيث خالف إجماع العارفين بالمجتمع المدني وأهله عندما قال ( ص 104 ) : ( لاتعتبر العلمانية فكرة مساعدة على نشأة المجتمع المدني ) !! ، وعندما زعم ( ص 108 ) : ( أن فكرة العلمانية ..ضد المجتمع المدني ) !! كل هذا لأجل تلميع صورة هذا المجتمع العلماني بين المسلمين .
قد يقول قائل : لماذا لانعذر القرضاوي والغنوشي في دعوتهم للديمقراطية والمجتمع المدني ، وهم قد عاشوا في مجتمعات جمعت بين الحكم بالطاغوت والظلم ، فبعض الكفر أهون من بعض ؟ وكفر الديمقراطية والمجتمع المدني قد يقبله العالم بخلاف الدعوة للحكم الإسلامي ؟
أقول :
1- لو سلك هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع الحكام - كافرهم أو ظالمهم - لما تعرضوا لما تعرضوا له ، ولما اضطروا لقبول هذه الكفريات .( وتفصيل هذا يطول ) وقارن حالهم بحال دعاة السنة في تلك البلاد كيف أثمرت دعوتهم ، لولا أن أفسدها هؤلاء عليهم بحماقاتهم .
2- أنهم - من واقع حالهم - غير مضطرين أبدا لهذه الكفريات كلها ، التي تقضت أعمارهم في سبيل تقريرها في بلاد المسلمين . فلوا ركزوا جهودهم على بيان أهمية الحكم بالشريعة ، وحسنوه للحكام وللناس لكان خيرا لهم ، فإن قبل منهم وإلا فهم معذورون ........ ولكن : فاقد الشيئ لايعطيه !
3- أنهم عندما دعوا لما سبق من كفريات لم يقروا بمخالفتها للإسلام ، وأنهم إنما أكرهوا عليها . بل ادعوا أنها لاتنافي الإسلام مجرين عليها تعديلاتهم الخيالية . وهذا تلبيس ومكابرة .
ماعذر الحامد والفالح والطريفي ؟!
أولئك عاشوا في بلاد متسلطة لم تحكم بالشرع ، ولم يعذروا بانحرافهم عن المنهج الشرعي في التعامل مع الولاة الذي قادهم إلى تلكم الكفريات . فماظنك بأناس يعيشون في بلاد التوحيد والدعوة ، التي يحكم فيها بالشرع ، وتظهر فيها السنة وأهلها ، والفضيلة وحماتها .. ثم يستبدلون هذا كله بالدعوة والتلميع لذلك المجتمع المدني " الكفري " ؟!
أما الحامد : فهو الدكتور عبدالله الحامد ، " الأديب " المعروف الذي جعل ديدنه في كل لقاء يعمل معه : المناداة بهذا المجتمع المدني الذي سيخلصنا من الإستبداد و .. و .. الخ الشعارات ! ( انظر لقاءه مع قناة الجزيرة مثلا ) . وقد ألف لأجل هذا كتابيه : " المجتمع المدني سر نهوضهم وانحطاطنا " !! و " نظرية المجتمع المدني في الإسلام " . ولي معه جولة قادمة - إن شاء الله - .
وأما الفالح : فهو الدكتور متروك الفالح ، أحد دكاترة جامعة الملك سعود ، ألف كتابًا " وصفيًا " بعنوان " المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية - دراسة مقارنة لإشكالية المجتمع المدني في ضوء تريف المدن " . حاول فيه كغيره اجراء " تعديلات " و " تحكمات " على مجتمعه المدني ليتوافق مع واقعنا . ( انظر ص 151 من كتابه ) .
وأما الطريفي : فهو عادل بن زيد الطريفي ، كاتب صحفي مغرم بالتعالم ولوك المصطلحات الغربية ، بدأ من صحيفة المحايد ، ثم انتقل إلى جريدة الوطن . كتب مقالا بعنوان " أين هو المجتمع المدني في مشروعات الإصلاح العربية ؟ " ( الوطن / 1279) : يبشر فيه الدول العربية بفوائد الأخذ بالمجتمع المدني ! ويحذرهم من " الأصولية الدينية " !! و" الانغلاق السلفوي " !! وقد رد عليه الأستاذ سعيد الغامدي - وفقه الله - .
قد يقال : عذرهم أنه يوجد في مجتمعنا " أثرة " ، وقد وقع على بعضهم " ظلم " فروا منه إلى هذه الأفكار التي تقيهم من التسلط .
فأقول : سبحان الله ! أيفر من " الظلم " إلى " الكفر " ؟!
أيفر من دولة إسلامية فيها أثرة ، لكن أعلام التوحيد والشريعة والفضيلة فيها ظاهرة مرفوعة ، أهلها مجتمعون ... إلى " مجتمع مدني كفري " ترتفع فيه أعلام الكفر والبدعة ، والتحزب والتفرق ، ويرتع فيه أرباب الخنا والرذيلة بقوانين تحميهم !!
عجبًا لكم !
أليست ( الفتنة أشد من القتل ) ؟!
ثم أقول : لو التزم هؤلاء المسلك الشرعي في التعامل مع ولاتهم لما وقع عليهم هذا الظلم . فلماذا الإثارة ومنازعة الأمر أهله ؟ وقد تبين وتأكد للعقلاء عبر التاريخ أن هذا المسلك التصادمي يفسد ولا يصلح ، والواقع شاهد .
ولو اشتغل هؤلاء بالدعوة إلى دين الله وتوحيده وناصحوا من ولاه الله أمرهم ؛ لبوركت جهودهم وأثمرت كغيرهم ممن نفع الله بهم البلاد والعباد . لكنهم أشغلوا أنفسهم فيما حذرهم منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من " عدم منازعة الأمر أهله " فضروا أنفسهم وأضروا غيرهم . ثم لجؤا إلى هذه الدعوات " الكفرية " التي ظنوها تنقذهم مما هم فيه ، حتى أشربوها في قلوبهم - والعياذ بالله -
وأقول لهم أيضا : ومايدرينا أنكم لو تسلطتم علينا أن لا تظلموا ولاتستأثروا !! وحال إخوانكم في دول أخرى تمكنوا منها لا يبشر بخير !
ختامًا : أسأل الله أن يبصر شباب الإسلام بانحرافات من يزعمون " الإصلاح " ومجابهة الظلم والأثرة وهم يقودونهم إلى " الكفر " والإنسلاخ من الدين وهم لايشعرون .. وأن يجعلهم متنبهين لما يراد بهم : لاتخدعهم زخارف الألفاظ ولا تدغدغهم الشعارات الكاذبة .
والله الموفق .
مدح الاختلاف بين المسلمين وتسويغه
الاختلاف بين الناس أمر واقع ومشاهد، لا يستطيع أن ينكره عاقل، إنما يأتي التلبيس عندما يزعم البعض أن هذا الاختلاف أمر يرضاه الله عز وجل ويحبه، وأنه الغاية من خلقه بني آدم! ويحملون على هذا المعنى الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ويسيئون فهم قول بعض المفسرين عند هذه الآية: "وللاختلاف خلقهم" فيظنونه يشهد لباطلهم.
وينتج عن هذا: أن لا يروا بأساً في تفرق المسلمين واختلافهم على مذاهب وفرق شتى، بل هذا عندهم من باب "التنوع" و"التعددية" اللذين يثريان الحياة الإسلامية ويزيدانها بهاء !
فتجد أحدهم يفتخر بوجود الفرق البدعية والمنحرفة في تاريخ المسلمين ، ويعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين وقبولهم "الرأي الآخر" !
ولم يكتف بعض غلاتهم بتسويغ الاختلاف بين المسلمين، حتى ذهب يسوغ اختلاف الكافرين، ويعده –أيضاً- من باب "التعددية" التي يحبها الله عز وجل ويرضاها لعباده !! فعنده أن اليهودية والنصرانية وغيرها شرائع صحيحة ومتنوعة، جميعها موصلة إلى الله عز وجل، لا فرق بينها عنده !
فها هو من يسمى المفكر الإسلامي ! محمد عمارة يؤلف كتاباً بعنوان "الإسلام والتعددية" يقول فيه (ص 9): (وفي إطار تعددية الشرائع تحت جامع الدين الواحد جاء الحديث في القرآن الكريم عن نجاة أصحاب الشرائع المتعددة إذا هم جمعتهم جميعاً أصول:
1- الإيمان بالألوهية الواحدة.
2- والإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء .
3- والعمل الصالح في الحياة الدنيا.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) !!
نعوذ بالله من الكفر والضلال.
ففي هذا القول من هذا المفكر الجاهل إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة من تكفير كل من لم يدن بدين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال سبحانه (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال (إن الدين عند الله الإسلام) وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فمن لم يقر باطناً وظاهراً بأن الله لا يقبل ديناً سوى الإسلام فليس بمسلم، ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً فليس بمسلم، ومن لم يُحَرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين" (الفتاوى 27/463-464).
وليس المقام مقام إيراد جميع الأدلة القاضية بكفر اليهود والنصارى. ( انظر : محمد عمارة في الميزان ) .
أما الآية التي استدل بها عمارة لترويج باطله فهي (تتناول من كان قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: "إن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم " ) . (انظر : دعوة التقريب، للدكتور أحمد القاضي 1/49-50) .
هذا عن عمارة: أما غيره فقد كان أقل جرأة وتقحماً للضلال منه ؛ لعلمه بخطورة تصحيح أديان الكفار ومذاهبهم ، فاكتفى بتسويغ الخلاف بين الفرق الإسلامية المتنوعة، مدعياً أن هذا من قبيل "التعددية" و"التنوع" المحمود!
وخير مثال لهؤلاء: الدكتور محمد سليم العوا الذي ألف كتاباً سماه "التعددية في الإسلام" أقر فيه الاختلاف بين الفرق المنتسبة للإسلام، وسوغ لها انحرافها عن الحق بالدعاوى السابقة، ورد حديث "الافتراق" ثم قال (ص 28): (فالأخوة الذين يعولون عليه في رفض التعددية، أو في تعداد الفرق الإسلامية عليهم أن يرجعوا إلى أهل الرواية؛ حتى يقفوا على مدى صحته)! وأهل الرواية عنده هم محمد عمارة!! الذي نقل تكذيبه للحديث.
وعمارة والعوا وأضرابهما ممن لم يتشربوا العقيدة الصحيحة التي توضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية لله عز وجل -كما سيأتي- يقعون حتمًا في هذا الخلل العقدي الخطير.
لكن ما بال من تلقى العقيدة السلفية الصافية منذ نعومة أظفاره يتابع هؤلاء على انحرافهم ، ويقع فيما وقعوا فيه ؟!
فها هو الأستاذ إبراهيم البليهي – هداه الله - في مؤتمر الحوار الوطني الأخير يثني على هذا الاختلاف بين المسلمين ويسوغه ، ويزعم أنه "هو علة وجودهم" كما يقول! ويحمل على هذا الفهم الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
وها هو الأستاذ محمد المحمود الكاتب بجريدة الرياض ( 5/6/1425) يكتب مقالاً إنشائيًا بعنوان "مسائل الخلاف : شرعية مع وقف التنفيذ " ، يقول عن الخلاف بين الأمة ( فكذلك ينبغي أن يدوم ويعمم بأقصى درجة ممكنة ) !! ثم يدعو إلى السماح بتطبيق كل خلاف مهما كان على أرض الواقع ! وفاته أن نهاية هذه الدعوة ستؤول إلى الزندقة والتنصل من أحكام الشريعة ، لكن بأسلوب يُزعم له أنه شرعي ! كما قال الشاعر الماجن :
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج *** في كـل مسـألـة بقول إمـام !
يعني بذلك : شرب النبيذ وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة ، والوطء في الدبر على ما يُعزى لمالك ، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي .
كيف أتي هؤلاء ؟!
لقد أُتُوا من عدم تفريقهم بين إرادة الله الكونية التي لا تستلزم الرضا والحب، وبين إرادته الشرعية التي تستلزم ذلك .
فالكفر والمعاصي –مثلاً- واقعة بإرادته سبحانه الكونية، ولا يستلزم ذلك محبته لها ورضاه عنها، بخلاف الإيمان والعمل الصالح فهي واقعة بإرادته الكونية، وهو مريد لها شرعاً بما يستلزم محبته ورضاه عنها.
والقرآن قد وردت فيه آيات كثيرة تدل على كل واحدة من الإرادتين والمشيئتين.
فمن آيات الإرادة الكونية قوله تعالى (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له).
ومن آيات الإرادة الشرعية قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه ، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره ) . ( المنهاج 7 /72) .
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 79): (المحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى.
والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث).
فهؤلاء المفكرون عندما رأوا أن الله قد أراد هذا الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً ظنوا أن هذا مما يحبه الله ويرضاه! فرضوا به وسوغوه ، فيلزمهم على هذا تسويغ الكفر والمعاصي والرضا بها وعدم إنكارها !! لأنها واقعة بإرادة الله.
ولو فرقوا بين الإرادتين لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولعلموا أن وقوع الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً لا يستلزم الرضا به ومحبته وتسويغه ، بل هو مما يبغضه الله سبحانه وتعالى ويأمر عباده بإنكاره وعدم الوقوع فيه –كما سيأتي إن شاء الله-.
فقوله تعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) أي أراد بإرادته الكونية أن لا يقسر الناس على الايمان قسرًا ، بل جعل لهم مشيئة وإرادة ، ليكون الناس بعد ذلك فريقين : فريقًا للاختلاف وفريقًا للرحمة ، وهذا ما عناه بعض المفسرين عندما قال : " وللاختلاف خلقهم " .
وليس معناها كما يظن عمارة ومن معه أن الله أذن لهم بالاختلاف ورضيه !
قال الطبري: (إن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقب ذلك بقوله (ولذلك خلقهم) فعم بقوله (ولذلك خلقهم) صفة الصنفين؛ فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.
فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين ؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم؛ إلا من رحم ربك فهداه للحق، ولعلمه وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكفار والتقي والسعيد). (15/537-538).
وسئل مالك عن قول الله (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير (الطبري: 15/536).
وقال ابن حزم: (قد نص الله تعالى على الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به؛ وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي). (الإحكام في أصول الأحكام، 5/64).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله تعالى (وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون): (اللام لبيان الجملة الشرعية المتعلقة بالإرادة الشرعية؛ كما في قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (يريد الله ليبين لكم) الآية، وقد تكون لبيان العاقبة الكونية؛ كما في قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الآية، وهكذا كقوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي خلق قوماً للاختلاف وقوماً للرحمة) (الفتاوى 4/236).
وقال أيضًا : (خلق قوماً للاختلاف، وقوماً للرحمة) الفتاوى 4/236).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي : (قوله: (ولذلك خلقهم) أي اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدله وحكمته؛ وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء) (تفسيره 3/470).
وقال الشيخ حمد العثمان عن قوله تعالى ( ولايزالون مختلفين .. الآية ) :
( وبعض الجهال يستدل بهذه الأدلة على وجوب التسليم والإذعان للاختلاف، لأن الله أراده! وهذا يلتبس على من لا يفرق بين ما أراده الله وقضاه كوناً، وما أراده وقضاه شرعاً.
فالخلاف مما قضاه الله وأراده كوناً لحكمة بالغة، حتى يتميز المتبع من المبتدع، ويقوم المتبع بمجاهدة المبتدع بالحجة والبيان.
فالخلاف كالكفر باعتبار إرادة الله له كونا، فالله لا يحبه، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية قدرية ). ( دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون ، ص 30).
ثم هذه الدعوة الباطلة التي يدعو إليها هؤلاء بتسويغهم الاختلاف بين الأمة تنافي الآيات والأحاديث الآمرة لها بعدم التفرق والاختلاف ، والمحذرة لهم من هذا الأمر الذي وقع فيه من قبلهم .
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة : ( لا تختلفوا ) .
( وانظر باقي الأدلة في كتاب " الاعتصام " للشاطبي ، رسالة " وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ، للشيخ جمال بادي " ورسالة " إتمام النعمة والنعمة في ذم اختلاف الأمة ، للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن " ورسالة " ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة ، للشيخ عبدالله الغنيمان " ).
فالأمة الإسلامية مأمورة بتجنب الاختلاف ، فإن وقع شيئ منه ؛ فهي مأمورة بحسمه بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، لا تسويغه ومدحه ؛ كما يظن أولئك.
قال المزني: ( ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة ) يعني قوله تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقوله (وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول).
فإن قيل : وماذا نصنع بتفرق الأمة الحالي واختلافها إلى فرق ومذاهب شتى ؟!
فالجواب :
1 - أن لا نرضى هذا التفرق والاختلاف ، ولا نسوغه وندعي أنه أمر مشروع .
2- أن نحاول حسمه بالرجوع للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، وننكر على أهل البدع والمخالفات بدعهم ومخالفاتهم ، ونناصحهم ( بالضوابط الشرعية التي بينها العلماء ) .
3- فإن استجابوا فالحمد لله ، وإن لم ينتهوا فإننا نثبتُ على الحق والتحذير مما خالفه ، ولا نتنازل عن شيئ منه لأجل تقريب موهوم معهم . قال تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، وقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) .
هل يدخل أهل السنة في أهل الاختلاف المذموم ؟!
قد يقول قائل : وماذا عن أهل السنة المختلفين في مسائل الفقه ، هل يدخلون في أهل الاختلاف الذين ذمهم الله تعالى ؟!
فالجواب ماقاله الشاطبي رحمه الله :
( قد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال " أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضيرهم " .
يعني : لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يُرجع إليه ، وهو قول الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول ) فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يُرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك رده إليه إذا كان حيًا ، وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم .
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى ( ولا يزالون مختلفين ) أم لا ؟
والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه :
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكور مباينون لأهل الرحمة ؛ لقوله ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ، فإنها اقتضت قسمين : أهل اختلاف ومرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف ، وإلا كان قسم الشيء قسيماً له، ولم يستقم معنى الاستثناء .
والثاني : أنه قال فيها ( ولا يزالون مختلفين ) فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم ، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرؤن من ذلك ؛ لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريًا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازمًا له ، ولا ثابتًا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع .
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ؛ وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسيم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف – ولو بوجه ما – لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
الرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة ) . (الاعتصام 3/122-124) ( وانظر : مقدمات في الأهواء ، للشيخ ناصر العقل ،ص 32).
قلت : يعني بالرابع : مثل قول الإمام أحمد لما قال لمن ألف كتاب الاختلاف :" سمه كتاب السعة " ، ومثل قول عمر بن عبدالعزيز عندما قال : " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يُقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " .
وهذا كما قال القاضي إسماعيل : ( إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا . ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا )
قال ابن عبدالبر معلقًا : ( كلام إسماعيل هذا حسن جدًا ) .( جامع بيان العلم ، ص 395).
وقال الدكتور عبدالسلام المجيدي : ( المراد من كون الاختلاف رحمة ومن قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إن صح عنه : هو السعة في جواز أصل الاجتهاد ، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا ؛ حل لمن بعدهم ، فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد ، وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية ، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف ) . ( لا إنكار في مسائل الخلاف ، ص 154-155) .إذًا : فليس معنى التوسعة في الخلاف التشهي بين الأقوال المختلفة ، كما يظن البعض . قال شيخ الإسلام : ( وأما قول القائل : كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي ، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها ، وإلا عوقب ، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل ، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه ) . ( الفتاوى 22/240) ( وانظر : دراسة نقدية ..للعثمان ) .
فأهل السنة – ولله الحمد – مجتمعون على أصول واحدة ، وخلافاتهم الفقهية يُرجع فيها إلى الدليل ، فإن كانت من المسائل الاجتهادية – وهي قليلة – عذر بعضهم فيها بعضًا ، ولم يُنكر عليه . وإن كانت ليست مسألة اجتهاد ، بل الدليل فيها بيّن ؛ أنكر على المخالف .
( ولمعرفة الفرق بين المسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف ، والمسائل الاجتهادية التي لايسوغ فيها الإنكار ؛ ارجع إلى هذه الرسائل المهمة : " الاختلاف وماإليه " للشيخ محمد عمر بازمول ، و " حكم الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور فضل إلهي ، و " حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف " للشيخ فوزي الأثري ، وبحث " الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور عبدالله الطريقي ، منشور في مجلة البحوث ، عدد 47 )
وبهذا تجتمع الأمة على الحق وتأتلف ، وتستجيب لقوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) .
أما من يريد بقاء الأمة على اختلافاتها ، ويسوغ لها ذلك ، فهو مريد لها استمرار الهوان والضعف ، سواء قصد هذا أم لم يقصده ، كما قال تعالى ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .
والله الهادي والموفق .
وينتج عن هذا: أن لا يروا بأساً في تفرق المسلمين واختلافهم على مذاهب وفرق شتى، بل هذا عندهم من باب "التنوع" و"التعددية" اللذين يثريان الحياة الإسلامية ويزيدانها بهاء !
فتجد أحدهم يفتخر بوجود الفرق البدعية والمنحرفة في تاريخ المسلمين ، ويعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين وقبولهم "الرأي الآخر" !
ولم يكتف بعض غلاتهم بتسويغ الاختلاف بين المسلمين، حتى ذهب يسوغ اختلاف الكافرين، ويعده –أيضاً- من باب "التعددية" التي يحبها الله عز وجل ويرضاها لعباده !! فعنده أن اليهودية والنصرانية وغيرها شرائع صحيحة ومتنوعة، جميعها موصلة إلى الله عز وجل، لا فرق بينها عنده !
فها هو من يسمى المفكر الإسلامي ! محمد عمارة يؤلف كتاباً بعنوان "الإسلام والتعددية" يقول فيه (ص 9): (وفي إطار تعددية الشرائع تحت جامع الدين الواحد جاء الحديث في القرآن الكريم عن نجاة أصحاب الشرائع المتعددة إذا هم جمعتهم جميعاً أصول:
1- الإيمان بالألوهية الواحدة.
2- والإيمان باليوم الآخر والبعث والحساب والجزاء .
3- والعمل الصالح في الحياة الدنيا.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) !!
نعوذ بالله من الكفر والضلال.
ففي هذا القول من هذا المفكر الجاهل إنكار لما هو معلوم من الدين بالضرورة من تكفير كل من لم يدن بدين الإسلام بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ كما قال سبحانه (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال (إن الدين عند الله الإسلام) وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار".
قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فمن لم يقر باطناً وظاهراً بأن الله لا يقبل ديناً سوى الإسلام فليس بمسلم، ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً فليس بمسلم، ومن لم يُحَرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين" (الفتاوى 27/463-464).
وليس المقام مقام إيراد جميع الأدلة القاضية بكفر اليهود والنصارى. ( انظر : محمد عمارة في الميزان ) .
أما الآية التي استدل بها عمارة لترويج باطله فهي (تتناول من كان قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وحسب، قال الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: "إن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم " ) . (انظر : دعوة التقريب، للدكتور أحمد القاضي 1/49-50) .
هذا عن عمارة: أما غيره فقد كان أقل جرأة وتقحماً للضلال منه ؛ لعلمه بخطورة تصحيح أديان الكفار ومذاهبهم ، فاكتفى بتسويغ الخلاف بين الفرق الإسلامية المتنوعة، مدعياً أن هذا من قبيل "التعددية" و"التنوع" المحمود!
وخير مثال لهؤلاء: الدكتور محمد سليم العوا الذي ألف كتاباً سماه "التعددية في الإسلام" أقر فيه الاختلاف بين الفرق المنتسبة للإسلام، وسوغ لها انحرافها عن الحق بالدعاوى السابقة، ورد حديث "الافتراق" ثم قال (ص 28): (فالأخوة الذين يعولون عليه في رفض التعددية، أو في تعداد الفرق الإسلامية عليهم أن يرجعوا إلى أهل الرواية؛ حتى يقفوا على مدى صحته)! وأهل الرواية عنده هم محمد عمارة!! الذي نقل تكذيبه للحديث.
وعمارة والعوا وأضرابهما ممن لم يتشربوا العقيدة الصحيحة التي توضح لهم الفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية لله عز وجل -كما سيأتي- يقعون حتمًا في هذا الخلل العقدي الخطير.
لكن ما بال من تلقى العقيدة السلفية الصافية منذ نعومة أظفاره يتابع هؤلاء على انحرافهم ، ويقع فيما وقعوا فيه ؟!
فها هو الأستاذ إبراهيم البليهي – هداه الله - في مؤتمر الحوار الوطني الأخير يثني على هذا الاختلاف بين المسلمين ويسوغه ، ويزعم أنه "هو علة وجودهم" كما يقول! ويحمل على هذا الفهم الباطل قوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).
وها هو الأستاذ محمد المحمود الكاتب بجريدة الرياض ( 5/6/1425) يكتب مقالاً إنشائيًا بعنوان "مسائل الخلاف : شرعية مع وقف التنفيذ " ، يقول عن الخلاف بين الأمة ( فكذلك ينبغي أن يدوم ويعمم بأقصى درجة ممكنة ) !! ثم يدعو إلى السماح بتطبيق كل خلاف مهما كان على أرض الواقع ! وفاته أن نهاية هذه الدعوة ستؤول إلى الزندقة والتنصل من أحكام الشريعة ، لكن بأسلوب يُزعم له أنه شرعي ! كما قال الشاعر الماجن :
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج *** في كـل مسـألـة بقول إمـام !
يعني بذلك : شرب النبيذ وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة ، والوطء في الدبر على ما يُعزى لمالك ، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي .
كيف أتي هؤلاء ؟!
لقد أُتُوا من عدم تفريقهم بين إرادة الله الكونية التي لا تستلزم الرضا والحب، وبين إرادته الشرعية التي تستلزم ذلك .
فالكفر والمعاصي –مثلاً- واقعة بإرادته سبحانه الكونية، ولا يستلزم ذلك محبته لها ورضاه عنها، بخلاف الإيمان والعمل الصالح فهي واقعة بإرادته الكونية، وهو مريد لها شرعاً بما يستلزم محبته ورضاه عنها.
والقرآن قد وردت فيه آيات كثيرة تدل على كل واحدة من الإرادتين والمشيئتين.
فمن آيات الإرادة الكونية قوله تعالى (وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له).
ومن آيات الإرادة الشرعية قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( إن الإرادة في كتاب الله نوعان : إرادة شرعية دينية تتضمن محبته ورضاه ، وإرادة كونية قدرية تتضمن خلقه وتقديره ) . ( المنهاج 7 /72) .
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (ص 79): (المحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خَلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية.
فالإرادة الشرعية: هي المتضمنة للمحبة والرضى.
والكونية: هي المشيئة الشاملة لجميع الحوادث).
فهؤلاء المفكرون عندما رأوا أن الله قد أراد هذا الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً ظنوا أن هذا مما يحبه الله ويرضاه! فرضوا به وسوغوه ، فيلزمهم على هذا تسويغ الكفر والمعاصي والرضا بها وعدم إنكارها !! لأنها واقعة بإرادة الله.
ولو فرقوا بين الإرادتين لما وقعوا فيما وقعوا فيه، ولعلموا أن وقوع الاختلاف والتفرق بين البشر كوناً وقدراً لا يستلزم الرضا به ومحبته وتسويغه ، بل هو مما يبغضه الله سبحانه وتعالى ويأمر عباده بإنكاره وعدم الوقوع فيه –كما سيأتي إن شاء الله-.
فقوله تعالى ( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) أي أراد بإرادته الكونية أن لا يقسر الناس على الايمان قسرًا ، بل جعل لهم مشيئة وإرادة ، ليكون الناس بعد ذلك فريقين : فريقًا للاختلاف وفريقًا للرحمة ، وهذا ما عناه بعض المفسرين عندما قال : " وللاختلاف خلقهم " .
وليس معناها كما يظن عمارة ومن معه أن الله أذن لهم بالاختلاف ورضيه !
قال الطبري: (إن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقب ذلك بقوله (ولذلك خلقهم) فعم بقوله (ولذلك خلقهم) صفة الصنفين؛ فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميسر لما خلق له.
فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفين غير ملومين على اختلافهم إذ كان لذلك خلقهم ربهم، وأن يكون المتمتعون هم الملومين ؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم؛ إلا من رحم ربك فهداه للحق، ولعلمه وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكفار والتقي والسعيد). (15/537-538).
وسئل مالك عن قول الله (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريق في الجنة وفريق في السعير (الطبري: 15/536).
وقال ابن حزم: (قد نص الله تعالى على الاختلاف ليس من عنده، ومعنى ذلك أنه تعالى لم يرض به؛ وإنما أراده تعالى إرادة كون، كما أراد كون الكفر وسائر المعاصي). (الإحكام في أصول الأحكام، 5/64).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن قوله تعالى (وما خلقت الجن الأنس إلا ليعبدون): (اللام لبيان الجملة الشرعية المتعلقة بالإرادة الشرعية؛ كما في قوله تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (يريد الله ليبين لكم) الآية، وقد تكون لبيان العاقبة الكونية؛ كما في قوله تعالى (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) الآية، وهكذا كقوله تعالى (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) أي خلق قوماً للاختلاف وقوماً للرحمة) (الفتاوى 4/236).
وقال أيضًا : (خلق قوماً للاختلاف، وقوماً للرحمة) الفتاوى 4/236).
وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي : (قوله: (ولذلك خلقهم) أي اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء، والمتفقون والمختلفون، والفريق الذي هدى الله، والفريق الذي حقت عليهم الضلالة؛ ليتبين للعباد عدله وحكمته؛ وليظهر ما كمن في الطباع البشرية من الخير والشر، ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء) (تفسيره 3/470).
وقال الشيخ حمد العثمان عن قوله تعالى ( ولايزالون مختلفين .. الآية ) :
( وبعض الجهال يستدل بهذه الأدلة على وجوب التسليم والإذعان للاختلاف، لأن الله أراده! وهذا يلتبس على من لا يفرق بين ما أراده الله وقضاه كوناً، وما أراده وقضاه شرعاً.
فالخلاف مما قضاه الله وأراده كوناً لحكمة بالغة، حتى يتميز المتبع من المبتدع، ويقوم المتبع بمجاهدة المبتدع بالحجة والبيان.
فالخلاف كالكفر باعتبار إرادة الله له كونا، فالله لا يحبه، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية قدرية ). ( دراسة نقدية لقاعدة المعذرة والتعاون ، ص 30).
ثم هذه الدعوة الباطلة التي يدعو إليها هؤلاء بتسويغهم الاختلاف بين الأمة تنافي الآيات والأحاديث الآمرة لها بعدم التفرق والاختلاف ، والمحذرة لهم من هذا الأمر الذي وقع فيه من قبلهم .
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث عديدة : ( لا تختلفوا ) .
( وانظر باقي الأدلة في كتاب " الاعتصام " للشاطبي ، رسالة " وجوب لزوم الجماعة وترك التفرق ، للشيخ جمال بادي " ورسالة " إتمام النعمة والنعمة في ذم اختلاف الأمة ، للشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن " ورسالة " ذم الفرقة والاختلاف في الكتاب والسنة ، للشيخ عبدالله الغنيمان " ).
فالأمة الإسلامية مأمورة بتجنب الاختلاف ، فإن وقع شيئ منه ؛ فهي مأمورة بحسمه بالرجوع إلى الكتاب والسنة ، لا تسويغه ومدحه ؛ كما يظن أولئك.
قال المزني: ( ذم الله الاختلاف، وأمر عنده بالرجوع إلى الكتاب والسنة، فلو كان الاختلاف من دينه ما ذمه، ولو كان التنازع من حكمه ما أمرهم بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة ) يعني قوله تعالى (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) وقوله (وإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول).
فإن قيل : وماذا نصنع بتفرق الأمة الحالي واختلافها إلى فرق ومذاهب شتى ؟!
فالجواب :
1 - أن لا نرضى هذا التفرق والاختلاف ، ولا نسوغه وندعي أنه أمر مشروع .
2- أن نحاول حسمه بالرجوع للكتاب والسنة بفهم السلف الصالح ، وننكر على أهل البدع والمخالفات بدعهم ومخالفاتهم ، ونناصحهم ( بالضوابط الشرعية التي بينها العلماء ) .
3- فإن استجابوا فالحمد لله ، وإن لم ينتهوا فإننا نثبتُ على الحق والتحذير مما خالفه ، ولا نتنازل عن شيئ منه لأجل تقريب موهوم معهم . قال تعالى ( وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) ، وقال سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) .
هل يدخل أهل السنة في أهل الاختلاف المذموم ؟!
قد يقول قائل : وماذا عن أهل السنة المختلفين في مسائل الفقه ، هل يدخلون في أهل الاختلاف الذين ذمهم الله تعالى ؟!
فالجواب ماقاله الشاطبي رحمه الله :
( قد نقل المفسرون عن الحسن في هذه الآية أنه قال " أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضيرهم " .
يعني : لأنه في مسائل الاجتهاد التي لا نص فيها يقطع العذر ، بل لهم فيه أعظم العذر ، ومع أن الشارع لما علم أن هذا النوع من الاختلاف واقع ، أتى فيه بأصل يُرجع إليه ، وهو قول الله تعالى ( فإن تنازعتم في شيئ فردوه إلى الله والرسول ) فكل اختلاف من هذا القبيل حكم الله فيه أن يُرد إلى الله ، وذلك رده إلى كتابه ، وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك رده إليه إذا كان حيًا ، وإلى سنته بعد موته ، وكذلك فعل العلماء رضي الله عنهم .
إلا أن لقائل أن يقول : هل هم داخلون تحت قوله تعالى ( ولا يزالون مختلفين ) أم لا ؟
والجواب : أنه لا يصح أن يدخل تحت مقتضاها أهل هذا الاختلاف من أوجه :
أحدها : أن الآية اقتضت أن أهل الاختلاف المذكور مباينون لأهل الرحمة ؛ لقوله ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ) ، فإنها اقتضت قسمين : أهل اختلاف ومرحومين ، فظاهر التقسيم أن أهل الرحمة ليسوا من أهل الاختلاف ، وإلا كان قسم الشيء قسيماً له، ولم يستقم معنى الاستثناء .
والثاني : أنه قال فيها ( ولا يزالون مختلفين ) فظاهر هذا أن وصف الاختلاف لازم لهم ، حتى أطلق عليهم لفظ اسم الفاعل المشعر بالثبوت ، وأهل الرحمة مبرؤن من ذلك ؛ لأن وصف الرحمة ينافي الثبوت على المخالفة ، بل إن خالف أحدهم في مسألة فإنما يخالف فيها تحريًا لقصد الشارع فيها ، حتى إذا تبين له الخطأ فيها راجع نفسه وتلافى أمره ، فخلافه في المسألة بالعرض لا بالقصد الأول ، فلم يكن وصف الاختلاف لازمًا له ، ولا ثابتًا ، فكان التعبير عنه بالفعل الذي يقتضي العلاج والانقطاع أليق في الموضع .
والثالث : أنا نقطع بأن الخلاف في مسائل الاجتهاد واقع ممن حصل له محض الرحمة ؛ وهم الصحابة ومن اتبعهم بإحسان رضي الله عنهم ، بحيث لا يصح إدخالهم في قسيم المختلفين بوجه ، فلو كان المخالف منهم في بعض المسائل معدودًا من أهل الاختلاف – ولو بوجه ما – لم يصح إطلاق القول في حقه : إنه من أهل الرحمة . وذلك باطل بإجماع أهل السنة .
الرابع : أن جماعة من السلف الصالح جعلوا اختلاف الأمة في الفروع ضربًا من ضروب الرحمة ، وإذا كان من جملة الرحمة ، فلا يمكن أن يكون صاحبه خارجًا من قسم أهل الرحمة ) . (الاعتصام 3/122-124) ( وانظر : مقدمات في الأهواء ، للشيخ ناصر العقل ،ص 32).
قلت : يعني بالرابع : مثل قول الإمام أحمد لما قال لمن ألف كتاب الاختلاف :" سمه كتاب السعة " ، ومثل قول عمر بن عبدالعزيز عندما قال : " ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا ، لأنه لو كان قولا واحدًا كان الناس في ضيق ، وإنهم أئمة يُقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة " .
وهذا كما قال القاضي إسماعيل : ( إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي ، فأما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا . ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا )
قال ابن عبدالبر معلقًا : ( كلام إسماعيل هذا حسن جدًا ) .( جامع بيان العلم ، ص 395).
وقال الدكتور عبدالسلام المجيدي : ( المراد من كون الاختلاف رحمة ومن قول عمر بن عبدالعزيز رحمه الله إن صح عنه : هو السعة في جواز أصل الاجتهاد ، فكما حل لهم الاجتهاد حتى اختلفوا ؛ حل لمن بعدهم ، فالرحمة في جواز أصل الاجتهاد ، وفيما أدى إليه اجتهادهم في المسائل الاجتهادية ، لا فيما أدى إليه اجتهادهم في كل مسألة ورد فيها خلاف ) . ( لا إنكار في مسائل الخلاف ، ص 154-155) .إذًا : فليس معنى التوسعة في الخلاف التشهي بين الأقوال المختلفة ، كما يظن البعض . قال شيخ الإسلام : ( وأما قول القائل : كلٌ يعمل في دينه الذي يشتهي ، فهي كلمة عظيمة يجب أن يُستتاب منها ، وإلا عوقب ، بل الإصرار على مثل هذه الكلمة يوجب القتل ، فليس لأحد أن يعمل في الدين إلا ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم دون ما يشتهيه أو يهواه ) . ( الفتاوى 22/240) ( وانظر : دراسة نقدية ..للعثمان ) .
فأهل السنة – ولله الحمد – مجتمعون على أصول واحدة ، وخلافاتهم الفقهية يُرجع فيها إلى الدليل ، فإن كانت من المسائل الاجتهادية – وهي قليلة – عذر بعضهم فيها بعضًا ، ولم يُنكر عليه . وإن كانت ليست مسألة اجتهاد ، بل الدليل فيها بيّن ؛ أنكر على المخالف .
( ولمعرفة الفرق بين المسائل الخلافية التي يُنكر فيها على المخالف ، والمسائل الاجتهادية التي لايسوغ فيها الإنكار ؛ ارجع إلى هذه الرسائل المهمة : " الاختلاف وماإليه " للشيخ محمد عمر بازمول ، و " حكم الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور فضل إلهي ، و " حجج الأسلاف في بيان الفرق بين مسائل الاجتهاد ومسائل الخلاف " للشيخ فوزي الأثري ، وبحث " الإنكار في مسائل الخلاف " للدكتور عبدالله الطريقي ، منشور في مجلة البحوث ، عدد 47 )
وبهذا تجتمع الأمة على الحق وتأتلف ، وتستجيب لقوله تعالى ( واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا ) .
أما من يريد بقاء الأمة على اختلافاتها ، ويسوغ لها ذلك ، فهو مريد لها استمرار الهوان والضعف ، سواء قصد هذا أم لم يقصده ، كما قال تعالى ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ) .
والله الهادي والموفق .
مصـطـلـح الـتـسـامـح
كثر الحديث من بعض الإعلاميين بعد أحداث العنف التي مرت بها بلادنا عن " التسامح " ، مطالبين بنشر ثقافته بين الناس بدلا عما يسمونه " ثقافة العنف والكراهية " !
والتسامح كلمة قريبة من نفوس المسلمين ، محببة إليهم ؛ لما تحمله من معانٍ سامية جاءت نصوص شرعية كثيرة بالثناء على أهلها ؛ كحديث " رحم الله عبدا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى سمحًا إذا تقاضى " وحديث " اسمح يُسمح لك " وحديث " دخل رجل الجنة بسماحته " .. إلى غيرها من الأحاديث الصحيحة . ( انظر : صحيح الترغيب والترهيب للألباني ، 2/326 ومابعدها ) .
ولكن : قد عودنا علماء الإسلام النابهين عند الحكم على مصطلح حمال أوجه ؛ كمصطلح " التسامح " أن نستفصل من مطلقه عما يريد به ؟ فإن أراد حقًا أيدناه ، وإن أراد باطلا رددناه عليه وبينا مغالطته وتلاعبه بالألفاظ . لا سيما إذا كان مروج هذا المصطلح من غير المأمونين على دين المسلمين وأخلاقهم ! ومن متابعي دعوات الغرب وأفكارهم .
ـــــــــــــــــــــــــ
ومصطلح " التسامح " هذا قد كان له وهج عند الغربيين في فترة من تاريخهم القريب الحافل بالصراعات الدينية بين طائفتي " الكاثوليك و البروتستانت " على وجه الخصوص .
ثم جاءت الدعوة إلى التسامح من بعض مفكريهم لإنقاذ المجتمع الغربي من هذا الصراع الذي راح ضحيته ألوف من الفريقين .
ويعنون بالتسامح الذي دعوا إليه : نشر العلمانية اللادينية، وتقبل ما يسمونه التعددية مهما كانت ، وأن يُجعل الدين مجرد علاقة بين المرء وربه ، لادخل لها بشئون الحياة .
وقد أجاد الدكتور عبدالرحمن بدوي في مقدمته الحافلة لرسالة " جون لوك " عن التسامح في تتبع نشأة هذه الفكرة بين المفكرين الغربيين ، وأسبابها ، وملخصها . ( فليرجع إليها من يريد التوسع ص 7-61) .
فإن كان للنصارى عذر في الدعوة إلى هذه الفكرة العلمانية التي تخلصهم من تسلط رجال الدين " المحرف " وطغيانهم ، فما عذر بعض أبناء المسلمين من الكتاب والكاتبات عندما يتهافتون لترويج هذه الفكرة العَلمانية التي تعارض أحكام الإسلام خاتم الأديان الذي تكفل الله بحفظه ، وجعله صالحًا مصلحًا لأتباعه إلى يوم الدين ؟!
أقوال أهل الإسلام في مصطلح " التسامح " :
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ:"التسامح موجود في الدين الإسلامي، قال تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيئ فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ) ، (وأن تعفوا أقرب للتقوى ) الآية.
ليس التسامح خاصاً بما يُنشر عن دين المسيح عيسى ابن مريم، بل التسامح في الإسلام، لكن تسامح الإسلام تسامحٌ في حزم؛ أي أنه يُشرع التسامح في الموضع الذي يكون فيه التسامح خيراً.
أحياناً لا يكون التسامح خيراً، ولهذا قيد الله عز وجل العفو بالإصلاح فقال: ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ؛ لأن العفو أحياناً لا يكون حميداً ، أحياناً يكون العفو سبباً لتسلط الأشخاص واستمرارهم في شرورهم، وإذا أُخذوا بالحزم وعوقبوا بما تقتضيه جرائمهم من العقوبة، كان في هذا خير كثير وكف أذى، ولهذا يجب ألا نحكم العاطفة في العفو عن الجناة في كل حال، بل يجب أن يكون لدينا رأفة ورحمة ، وأن يكون لدينا حزم وعزيمة وقوة.
ألم تسمعوا قول الله ـ عز وجل ـ : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فنهى الله تعالى عن الرأفة للزاني والزانية، مع أن الرأفة مطلوبة، ومن أسماء الله الرؤوف لكن الرأفة لها محل، والحزم والأخذ بالعقوبة له محل آخر). (اللقاء الشهري (11/7 ـ 8).
وقال الشيـخ محـمد بن إسمـاعيل معلقـاً علـى هذه الكلمة: "اعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول: "لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنه لا يدخل الجنة"، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وَعدّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام !!
ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة، فالتعصب: أن تعامل الذميِّ اليهودي أو النصراني بحيف، وتبخسه حقه، والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً.
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً حازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ) من الخير ؛كصدقة، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف ( فجعلناه هباء منثورا ) ، لا ثواب له في الآخرة، وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون، لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول، لبطلان دينهم المخالف للإسلام ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام أحمد ومسلم، فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم، فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون، لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين، لأنه مبني على العقيدة، فإذا فُقِدت فُقِد، فينبغي عدم إقراره على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه ببغض الله تعالى له، وعدم موالاته وموادته قال تعالى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ، وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعلم) . ( عودة الحجاب، (1/274).
وقال الدكتور أحمد القاضي: "إن مفهوم التسامح الذي يتكئ عليه دعاة التقريب مفهوم فضفاض يتضمن حقاً وباطلاً، يحتم ضرورة الاستفصال عن المدلول المراد:
فإن أريد بالتسامح : العفو والصفح في المعاملة، بالتنازل عن بعض الحقوق الشخصية مالية أو معنوية، أو ما يحيله الشرع الإسلامي إلى اجتهاد ولاة أمور المسلمين في معاملة الحربيين من المنِّ أو الفداء، حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية، أو منح الذميين والمعاهدين والمستأمنين في المجتمع الإسلامي حقوقاً مدنية، وإذناً في البقاء على دينهم وعباداتهم، من غير إكراهٍ لهم على اعتناق الإسلام، فهو حقٌ جاء به الإسلام، وحفل به تاريخه، وفاق به جميع الأنظمة القديمة والحديثة، وقد شهد له بذلك الأعداء ، فهو بهذا المدلول فضيلة خلقية، ومنهجٌ نبيل في العلاقات الدولية، والتنظيم الاجتماعي، لا يثلم عقيدة، ولا يهدر كرامة، ولا يضيع حقاً.
وإن كان التسامح يعني المداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وتسوية المسلمين بالمجرمين، وإدانة سبيل السابقين الأولين من المؤمنين، وإباحة جناب المجتمع المسلم لجحافل المنصرين والملحدين لإشاعة الفاحشة الفكرية والخلقية في الذين آمنوا، باسم "الحرية الدينية" و"التعددية الثقافية"، و"التنوع الحضاري"، وما شابهها في زخرف القول، بحجة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين، فما هذا بتسامح، بل خنوع واستخذاء، ونزع للباس التقوى.
يقول أحد دعاة التقريب: "إن التسامح يعد خطاً حضارياً يقضي بمنح الآخرين حرية التعبير عن الآراء والأفكار التي تغاير الآخرين، كما يسمح بالعيش وفقاً للمبادئ والمعتقدات التي لا ندين بها سوية، إن التسامح أصبح إذاً مسألة لا يمكن فصلها عن الحرية وحقوق الإنسان، إن التسامح يجب أن يشمل الجميع، وكل الأديان على وجه الأرض، إن العالم العربي مدعوٌ في المستقبل القريب إلى أن لا يواصل تجاهله لوجود عدة بلايين من البشر على وجه البسيطة، من الذين لا يدعون الانحدار من إبراهيم، ولا يعني ذلك أبداً أن حضاراتهم وأنماط تفكيرهم غير جديرة بالتقدير والاحترام، مثلما هو الشأن لحضارتنا ونمط تفكيرنا، بل يجب علينا إذاً نحن المسلمين أن نطبق على الآخرين ما نطالب به لأنفسنا".
هذا مؤدى مفهوم التسامح الذي ينادي به دعاة التقريب، يضفي عباءته الفضفاضة على كل مشركٍ وثني، فضلاً عن اليهودي والنصراني، ويمنحه التقدير والاحترام من جهة حضارته وعقيدته، ويتيح له أن يجهر بالسوء من القول!
إن الغرب الذي يخطب هؤلاء التقريبيون وده، لا يكف ليلَ نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله، ولا يعوزه للقيام بهذا الصد عن سبيل الله وجود تصرفات طائشة مرفوضة تتسم بالعنف والعدوان من بعض المنتسبين إلى الإسلام، كما لن يوقفه بالمقابل اطراح هؤلاء التقريبيين بين أيديهم في ضعة وانخذال، فتلك عقيدة راسخة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، منذ فجر الإسلام ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) .
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية أو ثورية في أنحاء العالم، لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدين الذي تنتمي إليه تلك المجموعة، أو حتى الفرد، إلا حين تصدر عن مسلمين، فيقال رأساً: (الإرهاب الإسلامي) و(الإرهابيون المسلمون)، ولا يقال لجرائم الصرب الفظيعة في البوسنة وكوسوفا (إرهاب أرثذوكسي)، ولا لعمليات الألوية الحمراء في إيطاليا (إرهاب كاثوليكي)، ولا لتفجيرات الجيش السري الإيرلندي (إرهاب بروتستانتي)، ولا لأعمال القمع التي يمارسها الجيش الإسرائيلي يومياً (إرهاب يهودي)، بل لا يقال لمجازر الهنود القوميين، وهدمهم لمساجد المسلمين (إرهاب هندوسي)، ولا لعمليات الجيش الأحمر الياباني (إرهاب بوذي). كما لا توصف حملات التشويه والتشهير الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بالتطرف وعدم التسامح. ودعاة التقريب، بحكم ثقافاتهم الغربية غالباً، يدركون هذه الحقائق جيداً ، فلا يزيدهم ذلك إلا تقرباً إلى الخصم الذي لا يمل من الابتزاز.
إن تحسين صورة الإسلام في أذهان الغربيين، والناس أجمعين، وإبراز محاسن الإسلام، لا يكون إلا بالتمسك به، والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، ولا يكون أبداً بانتقاصه، واجتزائه، والتخلي عن شيء منه قرباناً إلى الكافرين، وموالاةً لهم من دون المؤمنين.
يقول الأستاذ سيد قطب : "إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الآيات، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي" ) . ( دعوة التقريب بين الأديان، (4/1525ـ1528) .
ـــــــــــــــــــــــــ
ويقول الدكتور محمد يحيى : (إن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات الأخرى ، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة .
وبجانب ذلك : فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها ، فلا يصبح هناك حق وباطل ، أو جيد ورديء ، أو أعلى و أدنى ، بل الكل سواء طالما أنه دخل في سياق (التعددية) ، فلا يوجد فرق بين بوذي ، وهندوسي ، ، وبهائي ، وقادياني ، ويهودي ، ونصراني ، وزرادشتي ... ومسلم ؛ لأن الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية) ، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو الحق في القول : بأنه دين الحق .
والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام ، أي : نزع القداسة والمنزلة الإلهية عنه ، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع أو " العلمانية " ! ) .
ويقول – أيضًا - : ( تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ ، التي لا يذكر أحد في العادة أن الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى أنفسهم ، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد
والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم ، بل وجُعلت حكراً خاصاً بهم ) .
ويقول - أيضًا – في مقال بعنوان " خطاب السماحة " :
( أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع محددة وضيقة النطاق من الخطاب ؛ تمليها اعتبارات السياسة ، والتوجيه من أعلى ؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس : لها أوثق صلة بالتيارات العلمانية أو اللادينية . ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب (السماحة) أو (التسامح) ، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر ؛ التي
أقصر هذه الملاحظات عليها . ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز : (الإسلام دين السماحة) ، أو (سماحة الإسلام) ، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها . ويقترن بالإلحاح المتكرر (والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة عليها ، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة هذا الخطاب .
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية ، ويُفرض على جمهور المسلمين . وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه ، والشعور بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب ؛ عندما يجد أن الإسلام كله قد اختزل في مفهوم واحد ، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح ، وفُرض فرضاً بفعل الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة بالإرهاب وتارة بالتطرف .
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام على مستويين : أولهما : هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت ، عندما لا يعود هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح ، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم الغامض . أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه ؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين) ، ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون به ضمناً وصراحة .
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته ؛ لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها من تعاليم دينه ؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات ، والبعد عن الخشونة والجلافة ، وليس المقصود البعد عن اللدد في الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث ، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات ، وليس المقصود سعة الصدر وسعة
الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم .
في الجملة : ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك ؛ بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة
والشريعة وأحكامها ، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في علاقات المسلمين بعضهم مع بعض . ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة : أن يتساهل المسلمون في الطرح العقدي والتشريعي ويخفّضون منه ، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان الأخرى ، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها ؛ وذلك بحجة مزعومة هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي . فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى بالتعاون الدولي ، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل بالمسلمين والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد غيرهم الشركية أو المنحرفة ؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من
التعامل الشخصي ، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت . والتسامح في نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً ، أو يبعدوهما تماماً في تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية ؛ فهذا هو التحضر والمسلك التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية .
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها ، لا ينطلق من حرص على دين أو عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين ؛ بل هو نتاج وضع معروف من أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين ؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة ، ولا يصاولهم في
مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول . ومفهوم التسامح والسماحة بهذا المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير حضاري أو إنساني ؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن
أن ينطلق ويسري ، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي الخاص بهم .
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين ، وكأن سماحة الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين ، وإذا قرأنا
الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل وكنسيي الأمريكان ؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة الإدارية والأمنية .
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء ، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف ،
لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من الدين مثل إغلاق المساجد ، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار العلمانيين .
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا : إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام والغرب ولا سماحة للمسلمين) ، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق
والغرب بل حتى جزاري الصرب ؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن والقتل والمنع والحظر !
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية ، وقبل كل شيء يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج ؛ لا من باب نشر الفكرة الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية
هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها ). ( مجلة البيان ، الأعداد بالترتيب : 100، 116، 134) .
والتسامح كلمة قريبة من نفوس المسلمين ، محببة إليهم ؛ لما تحمله من معانٍ سامية جاءت نصوص شرعية كثيرة بالثناء على أهلها ؛ كحديث " رحم الله عبدا سمحًا إذا باع سمحًا إذا اشترى سمحًا إذا تقاضى " وحديث " اسمح يُسمح لك " وحديث " دخل رجل الجنة بسماحته " .. إلى غيرها من الأحاديث الصحيحة . ( انظر : صحيح الترغيب والترهيب للألباني ، 2/326 ومابعدها ) .
ولكن : قد عودنا علماء الإسلام النابهين عند الحكم على مصطلح حمال أوجه ؛ كمصطلح " التسامح " أن نستفصل من مطلقه عما يريد به ؟ فإن أراد حقًا أيدناه ، وإن أراد باطلا رددناه عليه وبينا مغالطته وتلاعبه بالألفاظ . لا سيما إذا كان مروج هذا المصطلح من غير المأمونين على دين المسلمين وأخلاقهم ! ومن متابعي دعوات الغرب وأفكارهم .
ـــــــــــــــــــــــــ
ومصطلح " التسامح " هذا قد كان له وهج عند الغربيين في فترة من تاريخهم القريب الحافل بالصراعات الدينية بين طائفتي " الكاثوليك و البروتستانت " على وجه الخصوص .
ثم جاءت الدعوة إلى التسامح من بعض مفكريهم لإنقاذ المجتمع الغربي من هذا الصراع الذي راح ضحيته ألوف من الفريقين .
ويعنون بالتسامح الذي دعوا إليه : نشر العلمانية اللادينية، وتقبل ما يسمونه التعددية مهما كانت ، وأن يُجعل الدين مجرد علاقة بين المرء وربه ، لادخل لها بشئون الحياة .
وقد أجاد الدكتور عبدالرحمن بدوي في مقدمته الحافلة لرسالة " جون لوك " عن التسامح في تتبع نشأة هذه الفكرة بين المفكرين الغربيين ، وأسبابها ، وملخصها . ( فليرجع إليها من يريد التوسع ص 7-61) .
فإن كان للنصارى عذر في الدعوة إلى هذه الفكرة العلمانية التي تخلصهم من تسلط رجال الدين " المحرف " وطغيانهم ، فما عذر بعض أبناء المسلمين من الكتاب والكاتبات عندما يتهافتون لترويج هذه الفكرة العَلمانية التي تعارض أحكام الإسلام خاتم الأديان الذي تكفل الله بحفظه ، وجعله صالحًا مصلحًا لأتباعه إلى يوم الدين ؟!
أقوال أهل الإسلام في مصطلح " التسامح " :
قال الشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ:"التسامح موجود في الدين الإسلامي، قال تعالى: ( ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيئ فاتباع بالمعروف وآداء إليه بإحسان ) ، (وأن تعفوا أقرب للتقوى ) الآية.
ليس التسامح خاصاً بما يُنشر عن دين المسيح عيسى ابن مريم، بل التسامح في الإسلام، لكن تسامح الإسلام تسامحٌ في حزم؛ أي أنه يُشرع التسامح في الموضع الذي يكون فيه التسامح خيراً.
أحياناً لا يكون التسامح خيراً، ولهذا قيد الله عز وجل العفو بالإصلاح فقال: ( فمن عفا وأصلح فأجره على الله ) ؛ لأن العفو أحياناً لا يكون حميداً ، أحياناً يكون العفو سبباً لتسلط الأشخاص واستمرارهم في شرورهم، وإذا أُخذوا بالحزم وعوقبوا بما تقتضيه جرائمهم من العقوبة، كان في هذا خير كثير وكف أذى، ولهذا يجب ألا نحكم العاطفة في العفو عن الجناة في كل حال، بل يجب أن يكون لدينا رأفة ورحمة ، وأن يكون لدينا حزم وعزيمة وقوة.
ألم تسمعوا قول الله ـ عز وجل ـ : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ) فنهى الله تعالى عن الرأفة للزاني والزانية، مع أن الرأفة مطلوبة، ومن أسماء الله الرؤوف لكن الرأفة لها محل، والحزم والأخذ بالعقوبة له محل آخر). (اللقاء الشهري (11/7 ـ 8).
وقال الشيـخ محـمد بن إسمـاعيل معلقـاً علـى هذه الكلمة: "اعلم ـ أخي المسلم ـ أن بعض الناس يخلطون بين لفظة (التعصب) ولفظة (التسامح) خلطاً معيباً يؤدي إلى خلل في دينهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، فإذا سمعك أحدهم مثلاً تقول: "لا يجوز الترحم على اليهودي أو النصراني، لأنه لا يدخل الجنة"، اعتبر هذا تشدداً وتعصباً، وتشدق بأن رحمة الله واسعة، وَعدّ نفسه متمسكاً بسماحة الإسلام !!
ولكشف النقاب عن هذا الخلط نقول:
إن التعصب والتسامح لا يكونان إلا في المعاملة، فالتعصب: أن تعامل الذميِّ اليهودي أو النصراني بحيف، وتبخسه حقه، والشرع يأبى ذلك ولا يرضاه، والتسامح: أن تعامله بالعدل والإنصاف، وتعاشره بالمجاملة والألطاف، وأن تحسن جيرته إن كان جاراً لك، وأن تصله إن كان من قرابتك، غير أنك لا تعطيه من زكاة مالك، ولا من زكاة فطرك، لأنهما خاصتان بفقراء المسلمين، ولا بأس أيضاً بجريان بعض المعاملات الدنيوية بينك وبينه كقرض أو نحوه مما لا تعلق له بالدين، وشرط هذا كله أن لا يكون محارباً.
ومع هذا يجب عليك أن تعتقد اعتقاداً حازماً لا تردد فيه أنه على باطل، وأنه إن مات كافراً لا يجوز الترحم عليه ولا الدعاء له بالمغفرة، قال تعالى: ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ) من الخير ؛كصدقة، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف ( فجعلناه هباء منثورا ) ، لا ثواب له في الآخرة، وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد منهم ولي أو قديس كما يقولون، لأن الولاية أو القداسة نتيجة العمل الصالح المقبول، وعملهم غير مقبول، لبطلان دينهم المخالف للإسلام ( ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) . وقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، لا يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به إلا كان من أصحاب النار" رواه الإمام أحمد ومسلم، فمن جوز وجود ولي منهم أو تبرك بأحد قديسيهم، فقد تخلى عن عقيدته ودينه، إذ التساهل في شيء من العقيدة لا يكون تسامحاً كما ظن المخلطون الواهمون، لكنه تنازل عنها، يلزم منه الخروج من الدين، لأنه مبني على العقيدة، فإذا فُقِدت فُقِد، فينبغي عدم إقراره على كفره، وعدم الرضا به، وبغضه ببغض الله تعالى له، وعدم موالاته وموادته قال تعالى: ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) ، وعدم التشبه به، وعدم إنكاحه المؤمنة، وعدم بداءته بالسلام، وأن يضطره إلى أضيق الطريق فهذا كله من التمسك بالدين وليس من التعصب في شيء، والتفريط فيه ليس تسامحاً، ولكنه تنازل عن حدود الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى أعلم) . ( عودة الحجاب، (1/274).
وقال الدكتور أحمد القاضي: "إن مفهوم التسامح الذي يتكئ عليه دعاة التقريب مفهوم فضفاض يتضمن حقاً وباطلاً، يحتم ضرورة الاستفصال عن المدلول المراد:
فإن أريد بالتسامح : العفو والصفح في المعاملة، بالتنازل عن بعض الحقوق الشخصية مالية أو معنوية، أو ما يحيله الشرع الإسلامي إلى اجتهاد ولاة أمور المسلمين في معاملة الحربيين من المنِّ أو الفداء، حسب ما تقتضيه السياسة الشرعية، أو منح الذميين والمعاهدين والمستأمنين في المجتمع الإسلامي حقوقاً مدنية، وإذناً في البقاء على دينهم وعباداتهم، من غير إكراهٍ لهم على اعتناق الإسلام، فهو حقٌ جاء به الإسلام، وحفل به تاريخه، وفاق به جميع الأنظمة القديمة والحديثة، وقد شهد له بذلك الأعداء ، فهو بهذا المدلول فضيلة خلقية، ومنهجٌ نبيل في العلاقات الدولية، والتنظيم الاجتماعي، لا يثلم عقيدة، ولا يهدر كرامة، ولا يضيع حقاً.
وإن كان التسامح يعني المداهنة، وإعطاء الدنية في الدين، وتسوية المسلمين بالمجرمين، وإدانة سبيل السابقين الأولين من المؤمنين، وإباحة جناب المجتمع المسلم لجحافل المنصرين والملحدين لإشاعة الفاحشة الفكرية والخلقية في الذين آمنوا، باسم "الحرية الدينية" و"التعددية الثقافية"، و"التنوع الحضاري"، وما شابهها في زخرف القول، بحجة تحسين صورة الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين، فما هذا بتسامح، بل خنوع واستخذاء، ونزع للباس التقوى.
يقول أحد دعاة التقريب: "إن التسامح يعد خطاً حضارياً يقضي بمنح الآخرين حرية التعبير عن الآراء والأفكار التي تغاير الآخرين، كما يسمح بالعيش وفقاً للمبادئ والمعتقدات التي لا ندين بها سوية، إن التسامح أصبح إذاً مسألة لا يمكن فصلها عن الحرية وحقوق الإنسان، إن التسامح يجب أن يشمل الجميع، وكل الأديان على وجه الأرض، إن العالم العربي مدعوٌ في المستقبل القريب إلى أن لا يواصل تجاهله لوجود عدة بلايين من البشر على وجه البسيطة، من الذين لا يدعون الانحدار من إبراهيم، ولا يعني ذلك أبداً أن حضاراتهم وأنماط تفكيرهم غير جديرة بالتقدير والاحترام، مثلما هو الشأن لحضارتنا ونمط تفكيرنا، بل يجب علينا إذاً نحن المسلمين أن نطبق على الآخرين ما نطالب به لأنفسنا".
هذا مؤدى مفهوم التسامح الذي ينادي به دعاة التقريب، يضفي عباءته الفضفاضة على كل مشركٍ وثني، فضلاً عن اليهودي والنصراني، ويمنحه التقدير والاحترام من جهة حضارته وعقيدته، ويتيح له أن يجهر بالسوء من القول!
إن الغرب الذي يخطب هؤلاء التقريبيون وده، لا يكف ليلَ نهار عن تشويه الإسلام في وسائل الإعلام والسخرية من أهله، ولا يعوزه للقيام بهذا الصد عن سبيل الله وجود تصرفات طائشة مرفوضة تتسم بالعنف والعدوان من بعض المنتسبين إلى الإسلام، كما لن يوقفه بالمقابل اطراح هؤلاء التقريبيين بين أيديهم في ضعة وانخذال، فتلك عقيدة راسخة، وطبيعة متأصلة في نفوسهم، منذ فجر الإسلام ( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) ، ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) .
إن كل جريمة ترتكبها مجموعة دينية أو عرقية أو ثورية في أنحاء العالم، لا تنسب في لغة الإعلام الغربي إلى الدين الذي تنتمي إليه تلك المجموعة، أو حتى الفرد، إلا حين تصدر عن مسلمين، فيقال رأساً: (الإرهاب الإسلامي) و(الإرهابيون المسلمون)، ولا يقال لجرائم الصرب الفظيعة في البوسنة وكوسوفا (إرهاب أرثذوكسي)، ولا لعمليات الألوية الحمراء في إيطاليا (إرهاب كاثوليكي)، ولا لتفجيرات الجيش السري الإيرلندي (إرهاب بروتستانتي)، ولا لأعمال القمع التي يمارسها الجيش الإسرائيلي يومياً (إرهاب يهودي)، بل لا يقال لمجازر الهنود القوميين، وهدمهم لمساجد المسلمين (إرهاب هندوسي)، ولا لعمليات الجيش الأحمر الياباني (إرهاب بوذي). كما لا توصف حملات التشويه والتشهير الإعلامي ضد الإسلام في الغرب بالتطرف وعدم التسامح. ودعاة التقريب، بحكم ثقافاتهم الغربية غالباً، يدركون هذه الحقائق جيداً ، فلا يزيدهم ذلك إلا تقرباً إلى الخصم الذي لا يمل من الابتزاز.
إن تحسين صورة الإسلام في أذهان الغربيين، والناس أجمعين، وإبراز محاسن الإسلام، لا يكون إلا بالتمسك به، والتأدب بآدابه، والدعوة إليه، ولا يكون أبداً بانتقاصه، واجتزائه، والتخلي عن شيء منه قرباناً إلى الكافرين، وموالاةً لهم من دون المؤمنين.
يقول الأستاذ سيد قطب : "إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة باسم التسامح والتقريب بين الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الآيات، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي، ولا في النظام الاجتماعي" ) . ( دعوة التقريب بين الأديان، (4/1525ـ1528) .
ـــــــــــــــــــــــــ
ويقول الدكتور محمد يحيى : (إن دعوى (التعددية) تخفي وراء مظهر التسامح والرحابة الفكرية البراق دعوةً عنصرية لفرض ثقافات وقيم وتوجهات الغرب على الثقافات الأخرى ، وبالذات على الإسلام بوصفه ديناً وعقيدة وثقافة .
وبجانب ذلك : فإن دعوة (التعددية) تسوي بين جميع الأطراف الداخلة فيها ، فلا يصبح هناك حق وباطل ، أو جيد ورديء ، أو أعلى و أدنى ، بل الكل سواء طالما أنه دخل في سياق (التعددية) ، فلا يوجد فرق بين بوذي ، وهندوسي ، ، وبهائي ، وقادياني ، ويهودي ، ونصراني ، وزرادشتي ... ومسلم ؛ لأن الجميع أديان وعقائد داخلة في (التعددية) ، فليس لأحد منها فضل على الآخر أو الحق في القول : بأنه دين الحق .
والمحصلة النهائية مرة أخرى هي علمنة الإسلام ، أي : نزع القداسة والمنزلة الإلهية عنه ، وتحويله إلى نِحلة بشرية الوضع تضاف إلى النّحَل البشرية الوضع أو " العلمانية " ! ) .
ويقول – أيضًا - : ( تفاخر العلمانية الأوروبية ويتباهى معها وكلاؤها المحليون في البلاد الإسلامية بأن أعظم إنجازاتها كانت في إحلال روح التسامح الديني محل التعصب الذي رمزوا له بمحاكم التفتيش المشهورة في التاريخ ، التي لا يذكر أحد في العادة أن الكثير من ضحاياها كانوا من مسلمي الأندلس المقهورة قبل أن يكونوا من النصارى أنفسهم ، وأياً كانت الحال فقد أقام العلمانيون وعلى مدى ما يقارب العقد من السنين في بلادنا المسلمة محاكم تفتيش خاصة بهم نصبوها على صفحات الجرائد
والمجلات وموجات الأثير ومنابر الثقافة التي سلمت لهم ، بل وجُعلت حكراً خاصاً بهم ) .
ويقول - أيضًا – في مقال بعنوان " خطاب السماحة " :
( أصبحت الساحة الفكرية الإسلامية في بعض البلاد العربية حكراً على أنواع محددة وضيقة النطاق من الخطاب ؛ تمليها اعتبارات السياسة ، والتوجيه من أعلى ؛ خدمةً لمصالح وتوجهات لا علاقة لها بالإسلام بل على العكس : لها أوثق صلة بالتيارات العلمانية أو اللادينية . ومن أنواع الخطاب هذه ما يمكن أن نسميه بخطاب (السماحة) أو (التسامح) ، الذي اكتسب مكانة احتكارية في لغة الحديث والفكر الرسمي لأرباب ما يسمى بالمؤسسات الدينية في بلد مركزي مثل مصر ؛ التي
أقصر هذه الملاحظات عليها . ووفق هذا النوع من الخطاب نسمع دائماً مجموعة من العبارات والتوصيفات تتكرر من طراز : (الإسلام دين السماحة) ، أو (سماحة الإسلام) ، أو (الإسلام شريعة التسامح) وأشباهها . ويقترن بالإلحاح المتكرر (والممل) على أمثال هذه التوصيفات قصر الحديث في الموضوعات الإسلامية الفكرية أو الشرعية أو العقدية على المادة التي تفيد هذا التسامح أو توظف للدلالة عليها ، كما تلوي أعناق الخطب والعظات والمناسبات الإسلامية بتعسف واضح لكي يقتصر مغزاها ومعناها ومداها على إثبات هذا التسامح وفق المفهوم الذي يراه دعاة هذا الخطاب .
ويثير خطاب السماحة بهذا المعنى مشكلة أولية عندما يصبح هو الخطاب الوحيد أو الرئيس الذي يشغل الساحة الإسلامية ، ويُفرض على جمهور المسلمين . وهذه المشكلة هي ضياع سعة نطاق الفكر الإسلامي وثرائه وغناه ، والشعور بالنفور وعدم التصديق الذي ينتاب السامع لهذا الخطاب ؛ عندما يجد أن الإسلام كله قد اختزل في مفهوم واحد ، وأنه مفهوم قفز فجأة إلى السطح ، وفُرض فرضاً بفعل الظرف السياسي المشغول هو الآخر بهمٍّ وحيد ألا وهو مكافحة ما يسمى تارة بالإرهاب وتارة بالتطرف .
والوضع الاحتكاري لخطاب السماحة هذا يؤدي في الواقع إلى إلغاءٍ للإسلام على مستويين : أولهما : هو مستوى الدعوة والفكر كما أسلفت ، عندما لا يعود هناك ما يقال للجماهير المسلمة في المنابر ووسائل الإعلام سوى كلمة واحدة هي أن
الإسلام دين التسامح ، وتختزل كل عقيدته وشريعته وتعاليمه في هذا الوصف المبهم الغامض . أما المستوى الآخر والأكثر خطورة فهو أن التسامح أو السماحة وفق المفهوم الذي يروّج له يعني في حقيقة الأمر إلغاء الدين الإسلامي نفسه ؛ من فرط
الحرص على ما يوصف بأنه حساسيات ومشاعر الآخرين (غير المسلمين) ، ويقودنا هذا إلى البحث بشكل أكثر عمقاً في محتوى هذا المفهوم كما ينشره القائلون به ضمناً وصراحة .
إن الذين يروّجون لخطاب السماحة كما أسميه ويختزلون الإسلام على سعته ؛ لا يقصدون أبداً ما يترامى إلى الذهن المسلم في معان تقترن بهذا المفهوم كما تعلمها من تعاليم دينه ؛ فليس المقصود سلوكاً شخصياً من اللين والرقة والسهولة في
التعاملات ، والبعد عن الخشونة والجلافة ، وليس المقصود البعد عن اللدد في الخصومة والتشفي والملاهاة والجدل والرفث ، وليس المقصود الحلم والأناة والصبر الجميل وحسن السياسة والكياسة في العلاقات ، وليس المقصود سعة الصدر وسعة
الرأي والجدل بالتي هي أحسن ورحابة الذهن في الفهم .
في الجملة : ليس المقصود سلوكاً وقيماً ومشاعر وتوجهات شخصية يتسم بها المسلمون في تعاملاتهم الاجتماعية على تنوعها من تجارية أو فكرية أو غير ذلك ؛ بل المقصود حسبما نقرأ ونستدل هو مسلك يراد له أن يسود على صعيد العقيدة
والشريعة وأحكامها ، وعلى صعيد العلاقات بالذات مع غير المسلمين وليس في علاقات المسلمين بعضهم مع بعض . ومفهوم السماحة والتسامح كما يروّج له هذا الخطاب الاحتكاري المغرض يعني ببساطة : أن يتساهل المسلمون في الطرح العقدي والتشريعي ويخفّضون منه ، أو حتى يخفونه في علاقاتهم مع العقائد والأديان الأخرى ، والدول والهيئات والتيارات العالمية التي تمثلها ؛ وذلك بحجة مزعومة هي الحفاظ على السلام والوئام الدولي . فالتسامح والسماحة كما يرى أولئك هو ألا يجعل المسلم من عقيدته وشريعته بتعاليمها وأحكامها حاجزاً يعوقه عما يسمى بالتعاون الدولي ، مع عقائد وأديان أخرى حتى وإن كان ممثلو هذه العقائد أفراداً وجماعات يمارسون الاحتلال والاستيطان والتبشير والتنصير والقتل والتنكيل بالمسلمين والسماحة لديهم هي ألا يطرح المسلمون عقيدتهم التوحيدية في وجه عقائد غيرهم الشركية أو المنحرفة ؛ حتى ولو كان هذا الطرح لا لشيء إلا ليحفظوا أبناءهم من زيغ تلك العقائد وهي تُروّج بينهم ليل نهار بكل أدوات الاتصال من
التعامل الشخصي ، إلى البث على الأقمار الصناعية والإنترنت . والتسامح في نظرهم هو أن ينحّي المسلمون عقيدتهم وشريعتهم جانباً ، أو يبعدوهما تماماً في تعاملاتهم مع غير المسلمين من شتى الأطراف الدولية ؛ فهذا هو التحضر والمسلك التعاوني حتى ولو كان هؤلاء من غير المسلمين لا يتعاملون مع المسلمين إلا من منطلق عقيدتهم وتعاليمهم هم سواءً أكانت دينية أم دنيوية .
وغني عن البيان أن هذا المفهوم للسماحة أو التسامح الذي يُفرض فرضاً على الساحة الفكرية الإسلامية إلى حد احتكارها ، لا ينطلق من حرص على دين أو عقيدة أو حتى تعاون مزعوم مع غير المسلمين ؛ بل هو نتاج وضع معروف من أوضاع التبعية للغرب تحرص فيه النخب العلمانية صاحبة السلطة والنفوذ على أن تُرضي الأسياد في الغرب من يهود ونصارى وملحدين ؛ بأن تضمن لهم أن الإسلام الذي يخافون منه سيظل أسيراً مقيداً لا يطاولهم في مجال العقيدة ، ولا يصاولهم في
مجال بناء الحضارة والوصول إلى القلوب والعقول . ومفهوم التسامح والسماحة بهذا المعنى الخاص الذي يُروّج به من خلال بعض الدوائر المشبوهة يصبح مفهوماً غير حضاري أو إنساني ؛ بل مجرد أداة لقمع الفكر والطرح الإسلامي وكبته وتكبيله عن
أن ينطلق ويسري ، بحجة غريبة هي أن طرح هذا الفكر والعقيدة والتمسك والاعتزاز بهما ينافي فكرة السلام العالمي والتعاون الدولي رغم أن غير المسلمين على اختلاف نحلهم لا ينطلقون في تعاملاتهم الدولية إلا من هذا السياق العقدي الخاص بهم .
وليس أدل على ما نقول به من انحراف هذا المفهوم وشذوذه من أن الذين يروّجون له يطبقونه على من يشاؤون ولا يطبقونه على المسلمين ، وكأن سماحة الإسلام قصد بها أن تسري على الكفار ولا تسري على المؤمنين ، وإذا قرأنا
الصحف وتابعنا الإعلام فسنجد أن دعاة السماحة يستقبلون حاخامات إسرائيل وكنسيي الأمريكان ؛ لكنهم عندما يختلفون مع علماء يفترض أنهم زملاء بل وأساتذة لهم يركبهم اللدد في الخصومة ويشردون بهم بين قاعات المحاكم وعسف الأجهزة الإدارية والأمنية .
ويقف كبير دعاة التسامح ليدافع عن أستاذ جامعي أنكر وحي القرآن ليقول عنه إنه مجتهد قد يصيب وقد يخطئ ؛ لكنه في الوقت نفسه يستغل منصبه المسيطر على المساجد ليفصل ويُوقِف الأئمة الفضلاء ، واصفاً إياهم بالإرهاب والتطرف ،
لا لشيء سوى أنهم راجعوه في بعض مواقفه التي فاحت منها رائحة التحلل من الدين مثل إغلاق المساجد ، وتحويل الخطب والمواعظ بالأمر إلى ترويج أفكار العلمانيين .
ولو استعرضنا التعبير المشهور الذي راج في بعض الأوساط (الثورية) لقلنا : إن لسان حال خطاب التسامح يعلن أن (السماحة كل السماحة لأعداء الإسلام والغرب ولا سماحة للمسلمين) ، والتسامح مع حاخامات الصهاينة وقساوسة الشرق
والغرب بل حتى جزاري الصرب ؛ أما شباب الإسلام ودعاته فليس لهم إلا السجن والقتل والمنع والحظر !
إن السماحة أو التسامح من القيم الإسلامية بل والإنسانية ، وقبل كل شيء يجب ألاّ يتحول الإسلام أو يُختزل في كلمات مبهمة تُروّج ؛ لا من باب نشر الفكرة الإسلامية (على تهافت هذه الطريقة) ؛ وإنما لكي ترضى عن الإسلام جهات علمانية
هي بطبعها لن ترضى عن المسلمين إلا إذا اتبعوا ملتها ). ( مجلة البيان ، الأعداد بالترتيب : 100، 116، 134) .