الفيديوهات
تحميل كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية
http://www.kutubpdf.net/download.html?did=2963
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج1
https://www.youtube.com/watch?v=VPaMLqXkVIA
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج2
https://www.youtube.com/watch?v=F9SZwIxxqvg
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج3
https://www.youtube.com/watch?v=7rmokSzRdCo
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج4
https://www.youtube.com/watch?v=Rbnx1EfB3lc
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج5
https://www.youtube.com/watch?v=iGYIwTWX4kQ
حديث في السياسة الشرعية ll الشيخ عبد العزيز الطريفي [1-2]ـ
https://www.youtube.com/watch?v=Qf16Nfwvuzs
حديث في السياسة الشرعية ll الشيخ عبد العزيز الطريفي [2-2]ـ
https://www.youtube.com/watch?v=nISolKZcfGA
هل هناك تغييباً لأحكام السياسة الشرعية --- الشيخ عبد العزيز الطريفي
https://www.youtube.com/watch?v=lvvGHLuC79M
مفهوم ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر --- الشيخ الطريفي
https://www.youtube.com/watch?v=7zhnc56lXNY
دورة في السياسة الشرعية(1-2)ـ
https://www.youtube.com/watch?v=b86hKMTygFc
دورة في السياسة الشرعية(2-2)ـ
https://www.youtube.com/watch?v=uG73xIhu1eo
http://www.kutubpdf.net/download.html?did=2963
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج1
https://www.youtube.com/watch?v=VPaMLqXkVIA
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج2
https://www.youtube.com/watch?v=F9SZwIxxqvg
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج3
https://www.youtube.com/watch?v=7rmokSzRdCo
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج4
https://www.youtube.com/watch?v=Rbnx1EfB3lc
شرح كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ج5
https://www.youtube.com/watch?v=iGYIwTWX4kQ
حديث في السياسة الشرعية ll الشيخ عبد العزيز الطريفي [1-2]ـ
https://www.youtube.com/watch?v=Qf16Nfwvuzs
حديث في السياسة الشرعية ll الشيخ عبد العزيز الطريفي [2-2]ـ
https://www.youtube.com/watch?v=nISolKZcfGA
هل هناك تغييباً لأحكام السياسة الشرعية --- الشيخ عبد العزيز الطريفي
https://www.youtube.com/watch?v=lvvGHLuC79M
مفهوم ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر --- الشيخ الطريفي
https://www.youtube.com/watch?v=7zhnc56lXNY
دورة في السياسة الشرعية(1-2)ـ
https://www.youtube.com/watch?v=b86hKMTygFc
دورة في السياسة الشرعية(2-2)ـ
https://www.youtube.com/watch?v=uG73xIhu1eo
كتاب السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية لابن تيميه
[المقدمة]
السياسة الشرعية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرسل رسله بالبينات والهدى، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ؛ وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛ وَأَيَّدَهُ بِالسُّلْطَانِ النَّصِيرِ، الْجَامِعِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَلَمِ لِلْهِدَايَةِ وَالْحُجَّةِ؛ وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالسَّيْفِ لِلنُّصْرَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شهادة خالصة أخلص من الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيرا، شهادة يَكُونُ صَاحِبُهَا فِي حِرْزٍ حَرِيزٍ. (أَمَّا بَعْدُ) فَهَذِهِ رِسَالَةٌ مُخْتَصَرَةٌ (1) فِيهَا جَوَامِعُ مِنْ السِّيَاسَةِ الإلهية والآيات النَّبَوِيَّةِ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةُ، اقْتَضَاهَا مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ نُصْحَهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما ثبت عنه من غير وجه في صحيح مسلم وغيره: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تناصحوا من ولاه الله أمركم» . وهذه الرسالة مبنية على آيتين في كتاب الله: وهما قوله تعالى:
_________
(1) تسمى " السياسة الشرعية " كتبها في ليلة لما سأله الإمام أن يعلق له شيئا من أحكام الرعايا، وما ينبغي للمتولي - هذا التعليق في الفتاوى (28 / 244) .
(1/5)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58 - 59] (سورة النساء: الآيتان 58، 59) . قَالَ الْعُلَمَاءُ: نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُولَى فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وَنَزَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي الرَّعِيَّةِ مِنْ الْجُيُوشِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ الْفَاعِلِينَ لِذَلِكَ فِي قَسْمِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَغَازِيهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إلَّا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وُلَاةُ الْأَمْرِ ذَلِكَ، أُطِيعُوا فِيمَا يأمرون به من طاعة الله ورسوله، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأُدِّيَتْ حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (سورة المائدة: من الآية 2) . وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ أَوْجَبَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمَ بِالْعَدْلِ: فَهَذَانِ جِمَاعُ السِّيَاسَةِ العادلة، والولاية الصالحة.
(1/6)
[فصل أنواع أداء الأمانات]
[القسم الأول الولايات]
فصل أما أداء الأمانات ففيه نوعان: أحدهما الولايات: وهو كان سبب نزول الآية. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَتَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ، طَلَبَهَا مِنْهُ الْعَبَّاسُ، لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَسَدَانَةِ الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية، فدفع مَفَاتِيحِ الْكَعْبَةِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ. فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «من ولى رجلاً عَلَى عِصَابَةٍ، وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ: لِابْنِ عُمَرَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا لِمَوَدَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ ". وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوِلَايَاتِ مِنْ نُوَّابِهِ عَلَى الْأَمْصَارِ؛ مِنْ الْأُمَرَاءِ الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ونحوهم، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الصغار وَالْكِبَارِ، وَوُلَاةِ الْأَمْوَالِ: مِنْ الْوُزَرَاءِ، وَالْكُتَّابِ، وَالشَّادِّينَ، وَالسُّعَاةِ عَلَى الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، أَنْ يَسْتَنِيبَ وَيَسْتَعْمِلَ أَصْلَحَ مَنْ
(1/7)
يَجِدُهُ؛ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، والمقرئين، والمعلمين، وأمراء الْحَاجِّ، وَالْبُرُدِ، وَالْعُيُونِ الَّذِينَ هُمْ الْقُصَّادُ، وَخُزَّانِ الْأَمْوَالِ، وَحُرَّاسِ الْحُصُونِ، وَالْحَدَّادِينَ الَّذِينَ هُمْ الْبَوَّابُونَ عَلَى الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ، وَنُقَبَاءِ الْعَسَاكِرِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَعُرَفَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ، وَرُؤَسَاءِ الْقُرَى الَّذِينَ هُمْ " الدهاقين ". فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ طلب الولاية، أو سبق في الطلب؛ بل يكون ذلك سبباً للمنع؛ فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية؛ فَقَالَ: إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» . «وَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا؛ وَإِنْ أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عليه؛ أنزل الله عليه مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إلَى غَيْرِهِ، لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مرافقة فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ؛ أَوْ طَرِيقَةٍ، أَوْ جنب: كَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْفَارِسِيَّةِ، وَالتُّرْكِيَّةِ، وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا: فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] (سورة الأنفال: الآية 27) . ثُمَّ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] (سورة الأنفال: الآية 28) .
(1/8)
فَإِنَّ الرَّجُلَ لِحُبِّهِ لِوَلَدِهِ، أَوْ لِعَتِيقِهِ، قَدْ يُؤْثِرُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ، أَوْ يُعْطِيهِ مَا لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته؛ وكذلك قَدْ يُؤْثِرُهُ زِيَادَةً فِي مَالِهِ أَوْ حِفْظِهِ؛ بِأَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، أَوْ مُحَابَاةَ مَنْ يُدَاهِنُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَانَ أَمَانَتَهُ. ثُمَّ إنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَمَانَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ، يُثَبِّتُهُ اللَّهُ فَيَحْفَظُهُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَعْدَهُ، وَالْمُطِيعُ لِهَوَاهُ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَيُذِلُّ أَهْلَهُ، وَيُذْهِبُ مَالَهُ. وَفِي ذَلِكَ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، سَأَلَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَمَّا أَدْرَكَ، فَقَالَ: أَدْرَكْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز، قيل لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْفَرْت أَفْوَاهَ بَنِيك مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَتَرَكْتَهُمْ فُقَرَاءَ لَا شَيْءَ لَهُمْ -وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ- فَقَالَ: أَدْخِلُوهُمْ علي، فأدخلوهم: وهم بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، لَيْسَ فِيهِمْ بَالِغٌ، فَلَمَّا رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم: يَا بَنِيَّ وَاَللَّهِ مَا مَنَعْتُكُمْ حَقًّا هُوَ لَكُمْ، وَلَمْ أَكُنْ بِاَلَّذِي آخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَأَدْفَعُهَا إلَيْكُمْ؛ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا صَالِحٌ، فَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ؛ وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ، فلا أخلف لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، قوموا عني. قال: فلقد رأيت بعض بنيه، حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَعْنِي أَعْطَاهَا لِمَنْ يَغْزُو عَلَيْهَا. قُلْت: هَذَا وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ: بِلَادِ التُّرْكِ، إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ: بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ جَزَائِرِ قُبْرُصَ وَثُغُورِ الشَّامِ وَالْعَوَاصِمِ كَطَرَسُوسَ وَنَحْوِهَا، إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا يَسِيرًا، يُقَالُ: أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- قَالَ وَحَضَرْتُ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ وَقَدْ اقْتَسَمَ تَرِكَتَهُ بَنُوهُ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ
(1/9)
دِينَارٍ: وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَهُمْ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ -أَيْ يَسْأَلُهُمْ بِكَفِّهِ- وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحِكَايَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الزَّمَانِ، وَالْمَسْمُوعَةِ عَمَّا قَبْلَهُ؛ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ. وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ أَمَانَةٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي مَوَاضِعَ: مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الْإِمَارَةِ: «إنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فيهما» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة. قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر السَّاعَةَ» . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى هَذَا؛ فَإِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرَ الْوَقْفِ، وَوَكِيلَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] (سورة الإسراء: من الآية 34) . وَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِيَ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ رَاعِي الْغَنَمِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْوَلَدُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رعيته» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سفيان، فقال: السلام
(1/10)
عليكم أَيُّهَا الْأَجِيرُ؛ فَقَالُوا: قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الأمير. فقال السلام عليك أيهما الْأَجِيرُ. فَقَالُوا: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالُوا قُلْ السلام عليك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ. دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَقَالَ إنَّمَا أَنْتَ أَجِيرٌ اسْتَأْجَرَك رَبُّ هَذِهِ الْغَنَمِ لِرِعَايَتِهَا؛ فَإِنْ أَنْتَ هَنَّأَتْ جَرْبَاهَا، وَدَاوَيْت مَرْضَاهَا، وَحَبَسْت أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا: وَفَّاك سَيِّدُهَا أَجْرَك، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَهْنَأْ جَرْبَاهَا وَلَمْ تُدَاوِ مَرْضَاهَا؛ وَلَمْ تَحْبِسْ أُولَاهَا على أخراها عاقبك سيدها. وهذا ظاهر في الاعتبار: فإن الخلق عباد الله، والولاة نُوَّابُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ وُكَلَاءُ الْعِبَادِ على نفوسهم؛ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَعَ الْآخَرِ؛ فَفِيهِمْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوَكَالَةِ؛ ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ مَتَى اسْتَنَابَ فِي أُمُورِهِ رَجُلًا، وَتَرَكَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ للتجارة أو العقار مِنْهُ، وَبَاعَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ، وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ بَيْنَ مَنْ حاباه وبينه مودة أو قرابة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، ويرى أنه قد خانه وداهن قريبه أو صديقه.
(1/11)
[الأصلح هو الأولى]
إذا عرف هذا، فليس عليه أَنْ يَسْتَعْمِلَ إلَّا أَصْلَحَ الْمَوْجُودَ، وَقَدْ لَا يكون في موجوده من هو أصلح لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ، فَيَخْتَارُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ فِي كُلِّ منصب بحسبه، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ، وَأَخْذِهِ لِلْوِلَايَةِ بِحَقِّهَا، فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ، وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِي هَذَا، وَصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أئمة العدل المقسطين عِنْدَ اللَّهِ؛ وَإِنْ اخْتَلَّ بَعْضُ الْأُمُورِ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِهِ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) . وَيَقُولُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (سورة البقرة: من الآية 286) وقال في الجهاد في سبيل الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] (سورة النساء: من الآية 84) . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) . فَمَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَقَدْ اهْتَدَى: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أَخْرَجَاهُ في الصحيحين؛ لكن إن كان منه عجز بلا حَاجَةَ إلَيْهِ، أَوْ خِيَانَةٌ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْأَصْلَحَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ: الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] (سورة القصص: من الآية 26) . وَقَالَ صَاحِبُ مِصْرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] (سورة يوسف: من الآية 54) . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ - مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21] (سورة التكوير: الآيات 19-21) .
(1/12)
وَالْقُوَّةُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسَبِهَا؛ فَالْقُوَّةُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ تَرْجِعُ إلَى شَجَاعَةِ الْقَلْبِ، وَإِلَى الخبرة بالحروب، والخادعة فِيهَا، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْقِتَالِ: مِنْ رَمْيٍ وَطَعْنٍ وَضَرْبٍ وَرُكُوبٍ، وكر، وفر، ونحو ذلك؛ كما قال الله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (سورة الأنفال: من الآية 60) . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَهِيَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْقُوَّةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ تَرْجِعُ إلى العلم بالعدل الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ. وَالْأَمَانَةُ تَرْجِعُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، وَأَلَّا يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَتَرْكِ خشية الناس؛ وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حَكَمٍ عَلَى النَّاسِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (سورة المائدة: من الآية 44) . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ. فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ، فَهُوَ في النار. لرجل قَضَى بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَالْقَاضِي اسْمٌ كل مَنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كان
(1/13)
خَلِيفَةً، أَوْ سُلْطَانًا، أَوْ نَائِبًا، أَوْ وَالِيًا؛ أَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لِيَقْضِيَ بِالشَّرْعِ، أَوْ نَائِبًا له، حتى من يَحْكُمَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ، إذَا تَخَايَرُوا. هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وهو ظاهر.
(1/14)
[فصل القوة والأمانة هما المطلوب في الشرع]
فصل اجْتِمَاعُ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَشْكُو إلَيْكَ جَلَدَ الْفَاجِرِ، وَعَجْزَ الثِّقَةِ. فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ الْأَصْلَحُ بِحَسَبِهَا. فَإِذَا تَعَيَّنَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ أَمَانَةً وَالْآخَرُ أَعْظَمُ قُوَّةً: قُدِّمَ أَنْفَعُهُمَا لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ: وَأَقَلُّهُمَا ضرراً فيها: فيقدم في إمارة الحروب الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ -وَإِنْ كَانَ فِيهِ فُجُورٌ- عَلَى الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا؛ كَمَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَكُونَانِ أَمِيرَيْنِ فِي الْغَزْوِ، وَأَحَدُهُمَا قَوِيٌّ فَاجِرٌ وَالْآخَرُ صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؛ فَقَالَ: أَمَّا الْفَاجِرُ الْقَوِيُّ، فَقُوَّتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَأَمَّا الصَّالِحُ الضَّعِيفُ فَصَلَاحُهُ لِنَفْسِهِ وَضَعْفُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَيُغْزِي مَعَ الْقَوِيِّ الْفَاجِرِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . وروي «بأقوام لا خلاق لهم» . وإن لَمْ يَكُنْ فَاجِرًا، كَانَ أَوْلَى بِإِمَارَةِ الْحَرْبِ ممن هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فِي الدِّينِ إذَا لَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعْمِلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الحرب، منذ أسلم، وقال: «إن خالداً سيف سد الله على المشركين» . مع أنه أحيانا قد كان يَعْمَلُ مَا يُنْكِرُهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حتى إنه -مرة- قام ثم رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ " لَمَّا أَرْسَلَهُ إلى بني جذيمة فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، حَتَّى وَدَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَمِنَ أَمْوَالَهُمْ؛ وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ يُقَدِّمُهُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ،
(1/15)
وَفَعَلَ مَا فَعَلَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَصْلَحَ مِنْهُ فِي الأمانة والصدق؛ ومع هذا قال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي: لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. نَهَى أَبَا ذَرٍّ عَنْ الْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ، لِأَنَّهُ رَآهُ ضَعِيفًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: «مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ» . وَأَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ -اسْتِعْطَافًا لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ- عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَأَمَّرَ أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه. وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مَعَ الْأَمِيرِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَهَكَذَا أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا زَالَ يَسْتَعْمِلُ خَالِدًا فِي حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَفِي فَتُوحَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَبَدَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ كَانَ لَهُ فِيهَا تَأْوِيلٌ، وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهَا هَوًى، فَلَمْ يعزله من أجلها؛ بل عاتبه عَلَيْهَا: لِرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ فِي بَقَائِهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ الْكَبِيرَ، إذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ؛ وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ؛ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُؤْثِرُ اسْتِنَابَةَ خَالِدٍ؛ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُؤْثِرُ عَزْلَ خَالِدٍ، وَاسْتِنَابَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِأَنَّ خَالِدًا كان شديد، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبَا
(1/16)
عُبَيْدَةَ كَانَ لَيِّنًا كَأَبِي بَكْرٍ؛ وَكَانَ الْأَصْلَحُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ وَلَّاهُ؛ لِيَكُونَ أَمْرُهُ مُعْتَدِلًا، وَيَكُونَ بِذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مُعْتَدِلٌ؛ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، أَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ» . وَقَالَ: «أَنَا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ» . وَأُمَّتُهُ وَسَطٌ قَالَ الله تَعَالَى فِيهِمْ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] (سورة الفتح: من الآية 29) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] (سورة المائدة: من الآية 54) . وَلِهَذَا لَمَّا تَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- صَارَا كَامِلَيْنِ فِي الْوِلَايَةِ، وَاعْتَدَلَ مِنْهُمَا مَا كَانَ يُنْسَبَانِ فِيهِ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ لِينِ أَحَدِهِمَا وَشِدَّةِ الْآخَرِ، حَتَّى قَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقتدوا باللذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَظَهَرَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ شَجَاعَةِ الْقَلْبِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَغَيْرِهِمْ: مَا بَرَزَ بِهِ عَلِيٌّ عمر وسائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وإذا كَانَتْ الْحَاجَةُ فِي الْوِلَايَةِ إلَى الْأَمَانَةِ أَشَدَّ، قُدِّمَ الْأَمِينُ؛ مِثْلُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا؛ فَأَمَّا اسْتِخْرَاجُهَا وَحِفْظُهَا، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ، فَيُوَلَّى عَلَيْهَا شَادٌّ قَوِيٌّ يَسْتَخْرِجُهَا بِقُوَّتِهِ، وَكَاتِبٌ أَمِينٌ يَحْفَظُهَا بِخِبْرَتِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَكَذَلِكَ فِي إمارة الحرب، إذا أمر الأمير بمشاورة أهل الْعِلْمِ وَالدِّينِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ إذَا لَمْ تَتِمَّ الْمَصْلَحَةُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَصْلَحِ، أَوْ تَعَدُّدِ الْمُوَلَّى، إذَا لَمْ تَقَعْ الْكِفَايَةُ بِوَاحِدٍ تَامٍّ. وَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ: الْأَعْلَمُ الْأَوْرَعُ الْأَكْفَأُ؛ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أعلم،
(1/17)
وَالْآخَرُ أَوْرَعَ؛ قُدِّمَ -فِيمَا قَدْ يَظْهَرُ حُكْمُهُ، وَيُخَافُ فِيهِ الْهَوَى- الْأَوْرَعُ؛ وَفِيمَا يَدُقُّ حُكْمُهُ، وَيُخَافُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ: الْأَعْلَمُ. فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إن الله يحب البصر النافذ عند وررد الشبهات، ويحب العقل الكامل عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ» . وَيُقَدَّمَانِ عَلَى الْأَكْفَأِ، إنْ كَانَ الْقَاضِي مُؤَيَّدًا تَأْيِيدًا تَامًّا، مِنْ جِهَةِ وَالِي الْحَرْبِ، أَوْ الْعَامَّةِ. وَيُقَدَّمُ الْأَكْفَأُ إنْ كان القضاء يحتاج إِلى قوة وإعانة للقاضي، أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْمُطْلَقَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا قَادِرًا. بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَيُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقَصَتْ، ظَهَرَ الْخَلَلُ بِسَبَبِهِ، وَالْكَفَاءَةُ: إمَّا بِقَهْرٍ وَرَهْبَةٍ؛ وَإِمَّا بِإِحْسَانٍ وَرَغْبَةٍ؛ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا. وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ؛ إلَّا عَالِمٌ فَاسِقٌ، أَوْ جَاهِلُ دِينٍ؛ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدِّينِ أَكْثَرَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، قُدِّمَ الدِّينُ. وإن كانت الحاجة إلى العلم أَكْثَرَ لِخَفَاءِ الْحُكُومَاتِ قُدِّمَ الْعَالِمُ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُقَدِّمُونَ ذَا الدِّينِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي، مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ: هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، أَوْ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كَيْفَمَا تَيَسَّرَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَبُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الموضع. ومع أنه يجوز تولية كير الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ، إذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ منه،
(1/18)
مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ والإِمارات وَنَحْوِهَا: كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ، بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هنا لا يتم إلا بها.
(1/19)
[كيفية معرفة الأصلح في الولاية]
وأهم ما فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةُ الْأَصْلَحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِ الْوِلَايَةِ، وَمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ؛ فَإِذَا عَرَفْت الْمَقَاصِدَ وَالْوَسَائِلَ تَمَّ الْأَمْرُ. فَلِهَذَا لَمَّا غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُلُوكِ قَصْدُ الدُّنْيَا، دُونَ الدِّينِ؛ قَدَّمُوا فِي وِلَايَتِهِمْ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَكَانَ مَنْ يَطْلُبُ رِئَاسَةَ نَفْسِهِ، يُؤْثِرُ تَقْدِيمَ مَنْ يُقِيمُ رِئَاسَتَهُ؛ وَقَدْ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيَخْطُبُ بِهِمْ: هُمْ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ، الَّذِينَ هم نواب ذي السلطان على الأجناد؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، قَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى حَرْبٍ، كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَمِّرُهُ لِلصَّلَاةِ بِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا نَائِبًا عَلَى مَدِينَةٍ، كما استعمل عتاب ابن أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ، وَعَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ، وعمرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ: كَانَ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ، وَيُقِيمُ فِيهِمْ الْحُدُودَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَفْعَلُهُ أَمِيرُ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ الْأُمَوِيِّينَ وَبَعْضِ الْعَبَّاسِيِّينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، «وَكَانَ إذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك، يَشْهَدُ لَك صَلَاةً، وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا» . «وَلَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: يَا مُعَاذُ إنَّ أَهَمَّ أَمْرِك
(1/20)
عِنْدِي الصَّلَاةُ» . وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يكتبَ إلَى عُمَّالِهِ: إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا وَحَفِظَهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدُّ إضَاعَةً. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» . فَإِذَا أَقَامَ الْمُتَوَلِّي عِمَادَ الدِّينِ: فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَهِيَ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] (سورة البقرة: الآية 45) . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] (سورة البقرة: الآية 153) . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] (سورة طه: الآية 132) . وَقَالَ تَعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] (سورة الذاريات: الآيات 56-58) . فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ: إصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الذيِ مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا؛ وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. وَهُوَ نَوْعَانِ: قَسْمُ الْمَالِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ؛ وعقوبات المعتدين، فَمَنْ لَمْ يَعْتَدِ أَصْلَحَ لَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ: وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: [إنَّمَا بَعَثْت عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ، وَسُنَّةَ نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم ". فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ الرَّعِيَّةُ مِنْ وَجْهٍ، وَالرُّعَاةُ مِنْ وجه؛ تناقصت الْأُمُورُ. فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّاعِي فِي إصْلَاحِ دِينِهِمْ ودنياهم بحسب
(1/21)
الْإِمْكَانِ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ: «يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ» وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضُهُمْ إلَيْهِ إمَامٌ جَائِرٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَبْعَةٌ يظلهم الله في ظله لِوم لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نشأ في طاعة اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابًّا فِي أدنه، اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذات منصب وجمال فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تنفق يمينه» . وفي صحح مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذو سلطان مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، لرجل غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] (سورة الأنفال: من الآية 39) ، «وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وأن تكون كلمة الله الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُهُ، وَهَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(1/22)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] (سورة الحديد: من الآية 25) . فَالْمَقْصُودُ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] (سورة الحديد: من الآية 25) . فَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَضْرِبَ بِهَذَا -يَعْنِي السَّيْفَ- مَنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا -يَعْنِي الْمُصْحَفَ-» فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَإِنَّهُ يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَيَنْظُرُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، أَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ وُلِّيَ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ مَثَلًا: إمَامَةَ صَلَاةٍ فَقَطْ؛ قُدِّمَ مَنْ قَدَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلَا يُؤَمَّنَّ الرجل الرجلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِذَا تكافأ رجلان: وخفي أَصْلَحُهُمَا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا أَقْرَعَ سَعْدُ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، لَمَّا تَشَاجَرُوا عَلَى الْأَذَانِ، مُتَابَعَةً لِقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» . فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِأَمْرِ اللَّهِ إذَا ظَهَرَ، وَبِفِعْلِهِ -وَهُوَ مَا يُرَجِّحُهُ بِالْقُرْعَةِ إذَا خَفِيَ الْأَمْرُ- كَانَ الْمُتَوَلِّي قَدْ أَدَّى الْأَمَانَاتِ فِي الْوِلَايَاتِ إلَى أَهْلِهَا.
(1/23)
[القسم الثاني الأموال]
[الأعيان والديون الخاصة والعامة]
فصل القسم الثاني من الأمانات: الأموال، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الدُّيُونِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] (سورة البقرة: من الآية 283) . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ: الْأَعْيَانُ، وَالدُّيُونُ الْخَاصَّةُ، وَالْعَامَّةُ: مِثْلُ رَدِّ الْوَدَائِعِ، وَمَالِ الشَّرِيكِ، وَالْمُوَكِّلِ، والمضارب، ومال المولى عليه، مِنْ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ وَفَاءُ الدُّيُونِ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَبَدَلِ الْقَرْضِ، وَصَدَقَاتِ النِّسَاءِ وَأُجُورِ الْمَنَافِعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلَّا الْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ - وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ - لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 19 - 25] (سورة المعارج: الآيات 19-25) . إلى قوله: {هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32] (سورة المعارج: الآية 32) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]-أَيْ لَا تُخَاصِمْ عنهم- (سورة النساء: الآية 105) . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبَعْضُهُ في سنن الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا
(1/24)
أتلفه الله» . رواه البخاري. وإن كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ الَّتِي قُبِضَتْ بِحَقٍّ؛ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الغضب وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَكَذَلِكَ أَدَاءُ الْعَارِيَّةِ، وَقَدْ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ فِي خطبته: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ، إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَهَذَا الْقِسْمُ يَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ وَالرَّعِيَّةَ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ مَا يَجِبُ أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان، ونوابه في العطاء، أَنْ يُؤْتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَعَلَى جُبَاةِ الْأَمْوَالِ كَأَهْلِ الدِّيوَانِ أَنْ يُؤَدُّوا إلَى ذِي السُّلْطَانِ مَا يَجِبُ إيتَاؤُهُ إلَيْهِ؛ وَكَذَلِكَ على الرعية الذين تجب عليهم الْحُقُوقِ؛ وَلَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ وُلَاةِ الأموال ما لا يستحقونه، فيكونون مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 58 - 59] (سورة التوبة: الآيتان 58، 59) . ثم بين سبحانه لمن تكون بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] (سورة التوبة: الآية 60) . وَلَا لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ دفعه إليه مِنْ الْحُقُوقِ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا؛ كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ جور الولاة، قال: أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
(1/25)
عَنْهُ -عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هلك نبي، خلفه نبي، فإنه لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا استرعاهم» . وفيهما عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا به يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ؛ واسألوا الله حقكم» . وليس لولاة الأمور أَنْ يُقَسِّمُوهَا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، كَمَا يُقَسِّمُ الْمَالِكُ مِلْكَهُ، فَإِنَّمَا هُمْ أُمَنَاءُ وَنُوَّابٌ وَوُكَلَاءُ، لَيْسُوا مُلَّاكًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إني -والله- لا أعطي أحدا، وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا؛ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حيث أمرت» . رواه البخاري وعن أبي هريرة -رضي الله عَنْهُ- نَحْوُهُ. فَهَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُلُوكُ الذين يعطون من أحبوا ويمنعون من أبغضوا، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، يَقْسِمُ الْمَالَ بِأَمْرِهِ، فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَكَذَا قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ وَسَّعْت عَلَى نَفْسِك فِي النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلِ هَؤُلَاءِ؟ كَمِثْلِ قَوْمٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَجَمَعُوا مِنْهُمْ مَالًا، وَسَلَّمُوهُ إلَى وَاحِدٍ يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ، فَهَلْ يَحِلُّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ وَحُمِلَ مَرَّةً إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الْخُمُسِ: فَقَالَ: إنَّ قَوْمًا أَدُّوا الْأَمَانَةَ فِي هَذَا لِأُمَنَاءَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: إنَّك أَدَّيْت
(1/26)
الْأَمَانَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَدُّوا إلَيْك الْأَمَانَةَ، ولو رتعت لرتعوا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ كَالسُّوقِ، مَا نَفَقَ فِيهِ جُلِبَ إلَيْهِ، هَكَذَا قَالَ عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ وَالْعَدْلَ وَالْأَمَانَةَ، جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ وَالْجَوْرَ وَالْخِيَانَةَ، جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ، وَيَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ نُوَّابِهِ ظَلَمَ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ آمُرُهُمْ أَنْ يظلموا خلقك، ولا أن يتركوا حقك.
(1/27)
[فصل الأموال السلطانية]
[الغنيمة]
فصل الْأَمْوَالُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْغَنِيمَةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْفَيْءُ.
فَأَمَّا " الْغَنِيمَةُ " فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ " الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي غزوة بدر، وسماها أنفالاً، لأنها زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] (سورة الأنفال: من الآية1) . إلَى قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] الآية (سورة الأنفال: الْآيَةَ 41) ؛ وَقَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69] (سورة الأنفال: الآية 69) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي: نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ؛ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً» . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
(1/28)
فَالْوَاجِبُ فِي الْمَغْنَمِ تَخْمِيسُهُ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى من ذكره الله تعالى؛ وقسمة الأخماس الباقية بَيْنَ الْغَانِمِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَهُمْ الذين شهدوها للقتال، قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. وَيَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَهُمْ بالعدل، فلا يحابى أحد، لَا لِرِيَاسَتِهِ، وَلَا لِنَسَبِهِ، وَلَا لِفَضْلِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَقْسِمُونَهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَأَى لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟» . وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ، يَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً؟ قَالَ: " ثَكِلَتْك أُمُّك ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ؛ وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟» . وَمَا زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية، ودولة بني الْعَبَّاسِ، لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالْبَرْبَرَ؛ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ: كَسَرِيَّةٍ تَسَرَّتْ مِنْ الْجَيْشِ، أَوْ رَجُلٍ صَعِدَ حِصْنًا عَالِيًا فَفَتَحَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَى مُقَدَّمِ الْعَدُوِّ فَقَتَلَهُ، فَهُزِمَ الْعَدُوُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ كَانُوا يُنَفِّلُونَ لِذَلِكَ. وَكَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ فِي الْبِدَايَةِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. وهذا النفل؛ قال العلماء: إنه يكون من الْخُمُسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الخمس؛ لئلا يفضل بعض الغانمين عَلَى بَعْضٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بعض لمصلحة دينية؛ لا لهوى النفس، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الشَّامِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ
(1/29)
قِيلَ: إنَّهُ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَ بِشَرْطٍ وَغَيْرِ شرط، وينفل الزيادة على ذلك بالشرط، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةٍ فله كذا، أو من جاءني بِرَأْسٍ فَلَهُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يُنَفِّلُ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا يُنَفِّلُهُ إلَّا بالشرط، وهذان قولان لأحمد وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ -عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ- لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً عَلَى الْمَفْسَدَةِ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَجْمَعُ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُهَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَغُلَّ مِنْهَا شَيْئًا {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] (سورة آل عمران من الآية 161) فَإِنَّ الْغُلُولَ خِيَانَةٌ. وَلَا تَجُوزُ النُّهْبَةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا. فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ الْجَمْعَ وَالْقِسْمَةَ، وَأَذِنَ فِي الْأَخْذِ إذْنًا جَائِزًا: فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِلَا عُدْوَانٍ، حَلَّ لَهُ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فَهُوَ إذْنٌ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَنْ أَوْ أَذِنَ إذْنًا غَيْرَ جَائِزٍ: جَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ مَا يُصِيبُهُ بِالْقِسْمَةِ، مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ حَرَّمَ على المسلمين جمع الغنائم، والحال هذه، وأباح للإمام أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مَا يَشَاءُ: فَقَدْ تَقَابَلَ الْقَوْلَانِ تَقَابُلَ الطَّرَفَيْنِ، وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ. وَالْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ: أَنْ يُقْسَمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم: سهم لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، هَكَذَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من يقول: للفارس سهمان، والأول هو الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه -منفعة الْفَارِسِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ رَاجِلِينَ- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُسَوِّي بَيْنَ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَالْهَجِينِ فِي هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْهَجِينُ يُسْهَمُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ
(1/30)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَالْفَرَسُ الْهَجِينُ: الَّذِي تَكُونُ أُمُّهُ نَبَطِيَّةً -وَيُسَمَّى الْبِرْذَوْنَ -وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ التتري، سَوَاءٌ كَانَ حِصَانًا، أَوْ خَصِيًّا، وَيُسَمَّى الْإِكْدِيشَ أَوْ رَمَكَةَ، وَهِيَ الْحَجَرُ: كان السلف يعدون للقتال الحصان، لِقُوَّتِهِ وَحِدَّتِهِ، وَلِلْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ الْحَجَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا صَهِيلٌ يُنْذِرُ الْعَدُوَّ فَيَحْتَرِزُونَ، وَلِلسَّيْرِ الْخَصِيَّ، لِأَنَّهُ أَصْبَرُ عَلَى السَّيْرِ. وَإِذَا كَانَ الْمَغْنُومُ مَالًا -قَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ. مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ، وَعُرِفَ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ- فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَفَارِيعُ الْمَغَانِمِ وَأَحْكَامُهَا: فِيهَا آثَارٌ وَأَقْوَالٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بعضها، وتنازعوا في بعض ذلك، وليس هَذَا مَوْضِعُهَا؛ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ الْجُمَلِ الْجَامِعَةِ.
(1/31)
[الصدقات]
فصل وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ، فَهِيَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِقَسْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أعطيتك» . (فالفقراء والمساكين) يجمعهما مَعْنَى الْحَاجَةِ إلَى الْكِفَايَةِ؛ فَلَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) هُمْ الَّذِينَ يَجْبُونَهَا، وَيَحْفَظُونَهَا، وَيَكْتُبُونَهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قلوبهم) فنذكرهم -إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَالِ الْفَيْءِ. (وَفِي الرِّقَابِ) يَدْخُلُ فِيهِ إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ، وَافْتِدَاءُ الْأَسْرَى، وَعِتْقُ الرِّقَابِ. هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيهَا. (وَالْغَارِمِينَ) هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهَا. فَيُعْطُونَ وَفَاءَ دُيُونِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَرِمُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُعْطُونَ حَتَّى يَتُوبُوا. (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِغَزْوِهِمْ، فَيُعْطُونَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، أَوْ تَمَامَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَنَفَقَةٍ وَأُجْرَةٍ؛ وَالْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَابْنُ السَّبِيلِ) هُوَ الْمُجْتَازُ مِنْ بلد إلى بلد.
(1/32)
[الفيء]
فصل وَأَمَّا الْفَيْءُ، فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، بَعْدَ بَدْرٍ، مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 6 - 10] (سورة الحشر: الآيات 6-10) . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَ، فَدَخَلَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ كُلُّ مَنْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] (سورة الأنفال: من الآية 75) . وفي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] (سورة التوبة: من الآية 100) . وَفِي قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] (سورة الجمعة: الآية 3) .
(1/33)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] (سورة الحشر: من الآية 6) 0 أَيْ مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْفَيْءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ. وَسُمِّيَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ. فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمْ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا، وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، وَأَفَاءَ إلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَهَذَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمَالُ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ، أَوْ يُهْدُونَهُ إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْحِمْلِ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ؛ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَهُوَ الْعُشْرُ، وَمِنْ تُجَّارِ أهل الذمة إذا اتجروا في غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ. هَكَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَأْخُذُ. وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ، وَالْخَرَاجُ الَّذِي كَانَ مَضْرُوبًا فِي الْأَصْلِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ الْفَيْءِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، مِثْلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ معين؛ وكالغصوب، والعواري، والودائع التي تعذر مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْفَيْءَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَمُوتُ عَلَى عَهْدِهِ مَيِّتٌ، إلَّا وَلَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لِظُهُورِ الْأَنْسَابِ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ
(1/34)
مَاتَ مَرَّةً رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ فَدُفِعَ مِيرَاثَهُ إلَى أَكْبَرِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ، أَيْ أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إلَى جَدِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، كَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَ رَجُلٌ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا عَتِيقًا لَهُ، فَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إلَى عَتِيقِهِ، وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَدُفِعَ مِيرَاثُ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يَتَوَسَّعُونَ فِي دَفْعِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ، إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا الصَّدَقَاتِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ، دِيوَانٌ جَامِعٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ في وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَقْسِمُ الْمَالَ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثُرَ الْمَالُ، وَاتَّسَعَتْ الْبِلَادُ، وَكَثُرَ النَّاسُ، فَجَعَلَ ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم؛ وديوان الجير -فِي هَذَا الزَّمَانِ- مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِهِ؛ وَذَلِكَ الدِّيوَانُ هُوَ أَهَمُّ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ لِلْأَمْصَارِ دَوَاوِينُ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ وَمَا يُقْبَضُ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يُحَاسِبُونَ الْعُمَّالَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَصَارَتْ الْأَمْوَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَبْلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَسْتَحِقُّ الإِمام قَبْضَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَنَوْعٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بالإجماع، كالجبايات الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لأجل قتيل قتل بينهم، لان كان له وارث، أو على حد ارتكبه، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ، وَكَالْمُكُوسِ الَّتِي لَا يَسُوغُ وَضْعُهَا اتِّفَاقًا. وَنَوْعٌ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ كَمَالِ مَنْ لَهُ
(1/35)
ذُو رَحِمٍ، وَلَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْ الْوُلَاةِ وَالرَّعِيَّةِ: هؤلاء يأخذون ما لا يحل، وهؤلاء يمنعون ما جب، كَمَا قَدْ يَتَظَالَمُ الْجُنْدُ وَالْفَلَّاحُونَ. وَكَمَا قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْجِهَادِ مَا يَجِبُ، ويكنز الولاة من مال الله ما لَا يَحِلُّ كَنْزُهُ. وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ مِنْهَا مَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ؛ وَقَدْ يَفْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، يَجِبُ أَدَاؤُهُ، كَرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ مضاربة، أَوْ شَرِكَةٌ، أَوْ مَالٌ لِمُوَكِّلِهِ، أَوْ مَالُ يَتِيمٍ، أَوْ مَالُ وَقْفٍ، أَوْ مَالٌ لِبَيْتٍ المال؛ أو عنده دين وهو قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أداء الحق الواجب: من عاين، أَوْ دَيْنٍ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، حَتَّى يُظْهِرَ الْمَالَ، أَوْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ. فَإِذَا عَرَّفَ الْمَالَ، وصُير فِي الْحَبْسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْ الْمَالِ، ولا حاجة إلى ضربه، وإن امتنع من الدلالة على ماله وَمِنْ الْإِيفَاءِ، ضُرِبَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ أَدَائِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، لما روى عمرو ابن الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال: «لَيّ الواجد جل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم: «مطل الفني ظلم» أخرجاه في الصحيحين، و " الليّ "، هُوَ الْمَطْلُ: وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ. وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِنْ لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيراً يجتهد فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ فَيُعَاقِبُ الْغَنِيَّ الْمُمَاطِلَ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ
(1/36)
-رضي الله عَنْهُمْ- وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالسِّلَاحِ، سَأَلَ بَعْضُ الْيَهُودِ -وَهُوَ سَعْيَةُ عَمُّ حُيي بْنِ أَخْطَبَ - عَنْ كَنْزِ مَالِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ. فَقَالَ: " الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ " فَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْيَةَ إلى الزبير، فمسه بِعَذَابٍ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خربة ههنا، فَذَهَبُوا فَطَافُوا، فَوَجَدُوا الْمِسْكَ فِي الْخِرْبَةِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ ذِمِّيًّا، وَالذِّمِّيُّ لَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُ إلَّا بِحَقٍّ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ دَلَالَةٍ وَاجِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، يعاقب على ترك الواجب. وما أخذه العمال وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْعَادِلِ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُمْ؛ كَالْهَدَايَا الَّتِي يَأْخُذُونَهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ -فِي كِتَابِ الْهَدَايَا -عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ؛ فَيَقُولُ: هَذَا لكم، وهذا أهدي إلي؟ فهلا جلست فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ. فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رأينا عفرتي إبطيه؛ ثم قال: اللهم هل
(1/37)
بلغت؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلَاثًا» . وَكَذَلِكَ مُحَابَاةُ الْوُلَاةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، هو من نوع الهدية؛ وَلِهَذَا شَاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ عُمَّالِهِ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ، لَا يُتَّهَمُ بِخِيَانَةٍ، وَإِنَّمَا شَاطَرَهُمْ لَمَّا كَانُوا خُصُّوا بِهِ لِأَجْلِ الْوِلَايَةِ مِنْ مُحَابَاةٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ، يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. فَلَمَّا تَغَيَّرَ الْإِمَامُ وَالرَّعِيَّةُ، كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْوَاجِبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكَ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ. وَقَدْ يُبْتَلَى النَّاسُ مِنْ الولاة بمن يمتنع من الهدية وَنَحْوِهَا؛ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَظَالِمِ مِنْهُمْ، وَيَتْرُكَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ فَيَكُونَ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَلَى كَفِّ ظُلْمٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ مُبَاحَةٍ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَأَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ كَفُّ الظُّلْمِ عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا: مِنْ تَبْلِيغِ ذِي السُّلْطَانِ حَاجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفِهِ بِأُمُورِهِمْ، وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، وَصَرْفِهِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ؛ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ اللَّطِيفَةِ وَغَيْرِ اللَّطِيفَةِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَوُو الْأَغْرَاضِ مِنْ الْكُتَّابِ وَنَحْوِهِمْ فِي أَغْرَاضِهِمْ. فَفِي حَدِيثِ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا: ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يوم تزل
(1/38)
الْأَقْدَامُ» . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى باباً غيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل، فتقضى له، فيهدي إليه هدية، فَيَقْبَلَهَا. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا، فَأَهْدَى لَهُ صَاحِبُهَا وَصَيْفًا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً، فَرَزَأَهُ عَلَيْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَهُوَ سُحْتٌ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا كُنَّا نَرَى السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، قَالَ: ذَاكَ كُفْرٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ يَسْتَخْرِجُ مِنْ الْعُمَّالِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَذَوُوه، فَلَا يَنْبَغِي إعَانَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ، كَلِصٍّ سَرَقَ مِنْ لِصٍّ، وَكَالطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَرِئَاسَةٍ؛ وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ؛ فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى: مِنْ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ؛ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فَقَدْ تَرَكَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ مُتَوَرِّعٌ. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَشْتَبِهُ الْجُبْنُ وَالْفَشَلُ بِالْوَرَعِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ. وَالثَّانِي: تَعَاوُنٌ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ، كَالْإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ، أَوْ أَخْذِ مَالِ مَعْصُومٍ، أَوْ ضَرْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الذي
(1/39)
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. نَعَمْ إذَا كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَصْحَابِهَا، كَكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ؛ فَالْإِعَانَةُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدَادِ الثُّغُورِ، وَنَفَقَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ إذْ الْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ -إذَا لَمْ يُمْكِنْ معرفة أصحابها وردها عَلَيْهِمْ، وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِمْ -أَنْ يَصْرِفَهَا- مَعَ التَّوْبَةِ إنْ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ- إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وإن كان غيره قد أخذها، فَعَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ رَدِّهَا: كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَى إنْفَاقِهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا بِيَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:! {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) المفسر لِقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] (سورة آل عمران: من الآية 102) ؛ وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ المصالح وتكميلها؛ وتعطيل الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احتمال أدناهما: هُوَ الْمَشْرُوعَ. وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ
(1/40)
الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى أداء الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ. مِثَالُ ذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ، إذَا طَلَبَ ظَالِمٌ مِنْهُ مَالًا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالٍ أَقَلَّ مِنْهُ إلَيْهِ، أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَالِكِ مِنْ المنادين والكتاب وغيرهم، الذي يتوكل لَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، وَدَفَعَ مَا يَطْلُبُ منهم؛ لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ منهم مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِمكان وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ، وَالْإِعْطَاءِ: كَانَ مُحْسِنًا؛ لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلَ الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مُخْفِرًا لِمَنْ يُرِيدُ، وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ. وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نار، هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار.
(1/41)
[مصارف الفيء]
فصل وأما المصارف: فالواجب أن يبدأ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ العامة: كَعَطَاءِ مَنْ يُحَصِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً. فَمِنْهُمْ الْمُقَاتِلَةُ: الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْفَيْءِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمْ؛ حَتَّى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِ الْفَيْءِ: هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، أَوْ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ؟ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمَصَالِحِ وِفَاقًا، إلَّا مَا خَصَّ بِهِ نوع، كَالصَّدَقَاتِ وَالْمَغْنَمِ. وَمِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ ذَوُو الْوِلَايَاتِ عَلَيْهِمْ: كَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالسُّعَاةِ عَلَى الْمَالِ: جَمْعًا، وَحِفْظًا، وَقِسْمَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ حَتَّى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ والمؤذنين ونحو ذلك. وكذا صرفه فِي الْأَثْمَانِ وَالْأُجُورِ، لِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ: مِنْ سَدَادِ الثُّغُورِ بِالْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ، وَعِمَارَةُ مَا يُحْتَاجُ إلَى عِمَارَتِهِ مِنْ طُرُقَاتِ النَّاسِ: كَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ، وَطُرُقَاتِ الْمِيَاهِ كَالْأَنْهَارِ. وَمِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ: ذَوُو الْحَاجَاتِ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدَّمُونَ فِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ، مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقَدَّمُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَالُ اُسْتُحِقَّ بالإِسلام، فَيَشْتَرِكُونَ فِيهِ، كَمَا يَشْتَرِكُ الْوَرَثَةُ فِي الْمِيرَاثِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُقَدَّمُونَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَدِّمُ ذَوِي الْحَاجَاتِ، كَمَا قَدَّمَهُمْ فِي مَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ؛ إنما
(1/42)
هُوَ الرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ، وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ فَجَعَلَهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: ذَوُو السَّوَابِقِ الَّذِينَ بِسَابِقَتِهِمْ حَصَلَ الْمَالُ. الثَّانِي: مَنْ يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور والعلماء الذين يجتلبون لَهُمْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. الثَّالِثُ: مَنْ يُبْلِي بلاء حسناً في دفع الضرر عنهم، كالجاهدين فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْأَجْنَادِ وَالْعُيُونِ مِنْ القصاد والناسحين وَنَحْوِهِمْ. الرَّابِعُ: ذَوُو الْحَاجَاتِ. وَإِذَا حَصَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَبَرِّعٌ، فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ بِهِ؛ وَإِلَّا أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ، أَوْ قَدْرَ عَمَلِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعَطَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ مَنْفَعَةِ الرَّجُلِ، وَبِحَسَبِ حَاجَتِهِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ وَفِي الصَّدَقَاتِ أيضا، فما زاد على ذلك لا يستحقه الرَّجُلُ، إلَّا كَمَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي غَنِيمَةٍ، أَوْ مِيرَاثٍ. وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَا لَا يَسْتَحِقَّهُ لِهَوَى نَفْسِهِ: مِنْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ مَوَدَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْطِيَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْهُ، كَعَطِيَّةِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الصبيان المردان: الأحرار والمماليك ونحوهم، والبغايا والمغني، وَالْمَسَاخِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ إعْطَاءِ الْعَرَّافِينَ مِنْ الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ. لَكِنْ يَجُوزُ -بَلْ يَجِبُ- الْإِعْطَاءُ لِتَأْلِيفِ مِنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِ قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ، كَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ العطاء للمؤلفة
(1/43)
قلوبهم من الصدقات، وكما كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ، وَهُمْ السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي عَشَائِرِهِمْ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَيِّدَ بَنِي تَمِيمٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ سَيِّدَ بَنِي فَزَارَةَ، وَزَيْدَ الْخَيْرِ الطَّائِيَّ سَيِّدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيَّ سَيِّدَ بَنِي كِلَابٍ، وَمِثْلَ سَادَاتِ قُرَيْشٍ مِنْ الطُّلَقَاءِ: كَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بين أربعة: الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، وعيينِة بْنِ حِصْنٍ الفزاري، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيَّ، سَيِّدَ بَنِي كِلَابٍ، وزيد الخير الطائي، سيد بَنِي نَبْهَانَ. قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ، فَقَالُوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا: فقال رسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنِّي إنَّمَا فَعَلْتُ ذلك لتأليفهم ". فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ العينين، ناتئ الجبين، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فمن يتق الله إن عصيته؟ أيأمنني على أَهْلُ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي؟ ! " قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» . وَعَنْ رافع بن خديج -رضي الله عَنْهُ- قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ
(1/44)
حَابِسٍ، كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الإِبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يفوقان مرداس فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ يُخْفَضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
قَالَ: فَأَتَمَّ له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً.» رواه مسلم و " العبيد " اسْمُ فَرَسٍ لَهُ. وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ نَوْعَانِ: كَافِرٌ ومسلم؛ فالكافر: إما أن يرجى بعطيته منفعة: كإسلامه؛ أر دَفْعُ مَضَرَّتِهِ، إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِذَلِكَ. وَالْمُسْلِمُ الْمُطَاعُ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ الْمَنْفَعَةُ أَيْضًا، كَحُسْنِ إسْلَامِهِ. أَوْ إسْلَامِ نَظِيرِهِ، أَوْ جِبَايَةِ الْمَالِ ممن لا يعطيه إلا لخوف، أو النكايةَ فِي الْعَدُوِّ، أَوْ كَفِّ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، إذَا لَمْ يَنْكَفَّ إلَّا بِذَلِكَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَطَاءِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إعْطَاءَ الرُّؤَسَاءِ وَتَرْكَ الضُّعَفَاءِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ فَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ، كان من جنى عطاء النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد، كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ فِرْعَوْنَ؛ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ ذَوُو الدِّينِ الْفَاسِدِ كَذِي الْخُوَيْصِرَةِ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قال فيه ما قال، وكذلك حِزْبُهُ الْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا قَصَدَ بِهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ التَّحْكِيمِ، وَمَحْوِ اسْمِهِ، وَمَا تَرَكَهُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ، لِأَنَّ مَعَهُمْ دِينًا فَاسِدًا لَا يَصْلُحُ بِهِ دُنْيَا وَلَا
(1/45)
آخِرَةٌ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الْوَرَعُ الْفَاسِدُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ: فَإِنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ تَرْكٌ؛ فَيَشْتَبِهُ تَرْكُ الْفَسَادِ؛ لِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالنَّفَقَةِ: جُبْنًا وَبُخْلًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ ظَنًّا أَوْ إظْهَارًا أَنَّهُ وَرَعٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كِبْرٌ وَإِرَادَةٌ لِلْعُلُوِّ: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنَّ النِّيَّةَ لِلْعَمَلِ، كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّاجِدِ لِلَّهِ، وَالسَّاجِدِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، قَدْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَصُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ؛ ثُمَّ هَذَا أَقْرَبُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] (سورة البلد: من الآية 17) . وَفِي الْأَثَرِ: أَفْضَلُ الْإِيمَانِ: السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ. فَلَا تتم رِعَايَةُ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتُهُمْ إلَّا بِالْجُودِ، الَّذِي هُوَ الْعَطَاءُ؛ وَالنَّجْدَةِ، الَّتِي هِيَ الشَّجَاعَةُ؛ بَلْ لَا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك. ولهذا كان مَنْ لَا يَقُومُ بِهِمَا سَلَبَهُ الْأَمْرُ، وَنَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ - إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39] (سورة التوبة: الآيتان 38، 39) . وَقَالَ تَعَالَى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] (سورة محمد: الآية 38) . وقد
(1/46)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (سورة الحديد: من الآية 10) . فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ، وَالْقِتَالِ الَّذِي هُوَ الشَّجَاعَةُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] (سورة التوبة: من الآية 41) . وَبَيَّنَ أَنَّ الْبُخْلَ مِنْ الْكَبَائِرِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (سورة آل عمران: من الآية 180) . وَفِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] (سورة التوبة: من الْآيَةَ 34) . وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] (سورة الأنفال: الآية 16) . وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] (سورة التوبة: الآية 56) . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْأَمْثَالِ الْعَامِّيَّةِ: " لَا طَعْنَةَ وَلَا جَفْنَةَ " وَيَقُولُونَ: " لَا فَارِسَ الْخَيْلِ، وَلَا وَجْهَ الْعَرَبِ ". وَلَكِنْ افْتَرَقَ النَّاسُ هُنَا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَرِيقٌ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ الْمَعَادِ، وَرَأَوْا أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَقُومُ إلَّا بِعَطَاءٍ، وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى الْعَطَاءُ إلَّا بِاسْتِخْرَاجِ أَمْوَالٍ مِنْ غَيْرِ حلها؛ فصاروا فهابين وَهَّابِينَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّى على الناس إلا من يأكل وطعم، فإنه إذا تولى العفيف الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَطْعَمُ سَخِطَ عَلَيْهِ الرؤساء
(1/47)
وَعَزَلُوهُ؛ إنْ لَمْ يَضُرُّوهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا فِي، عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَأَهْمَلُوا الْآجِلَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، فَعَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَا يُصْلِحُ عَاقِبَتَهُمْ مِنْ تَوْبَةٍ وَنَحْوِهَا. وَفَرِيقٌ عِنْدَهُمْ خَوْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَدِينٌ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ قَبِيحًا مِنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ، وَفِعْلِ الْمَحَارِمِ، فَهَذَا حَسَنٌ وَاجِبٌ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّ السِّيَاسَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا يفعله أولئك من الحرام، فيمتنعون عَنْهَا مُطْلَقًا، وَرُبَّمَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ جُبْنٌ أَوْ بُخْلٌ، أَوْ ضِيقُ خُلُقٍ يَنْضَمُّ إلَى مَا مَعَهُمْ مِنْ الدِّينِ، فَيَقَعُونَ أَحْيَانًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ، يَكُونُ تَرْكُهُ أَضَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يَقَعُونَ فِي النَّهْيِ عَنْ وَاجِبٍ، يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَأَوِّلِينَ. وَرُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقِتَالِ، فَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ، وَهَؤُلَاءِ لَا تَصْلُحُ بِهِمْ الدُّنْيَا وَلَا الدِّينُ الْكَامِلُ؛ لَكِنْ قَدْ يَصْلُحُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّينِ وَبَعْضُ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُمْ فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا، وَيُغْفَرُ لَهُمْ قُصُورُهُمْ، وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ لَا يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ، ولا يرى أنه يتألف الناس من الكفار وَالْفُجَّارِ؛ لَا بِمَالٍ وَلَا بِنَفْعٍ، وَيَرَى أَنَّ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نَوْعِ الْجَوْرِ وَالْعَطَاءِ الْمُحَرَّمِ. الْفَرِيقُ الثَّالِثُ: الْأَمَةُ الْوَسَطُ، وَهُمْ أَهْلُ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ -وَإِنْ كَانُوا رُؤَسَاءَ- بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، إلَى صَلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَلِإِقَامَةِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الدِّينُ، وَعِفَّتُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَأْخُذُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ
(1/48)
فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّقْوَى والإِحسان {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] (سورة النحل: الآية 128) . وَلَا تَتِمُّ السِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ إلَّا بِهَذَا، وَلَا يَصْلُحُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَهَذَا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إلى طَعَامِهِ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ إلَّا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه الأول، فَإِنَّ الَّذِي يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، تَطْمَعُ فِيهِ النُّفُوسُ، ما لا تطمع في العفيف، ويصلح به الناس في ديتهم مَا لَا يَصْلُحُونَ بِالثَّانِي؛ فَإِنَّ الْعِفَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تُقَوِّي حُرْمَةَ الدِّينِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: «أَنَّ هِرَقْلَ مِلْكَ الروم سأله عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ» . وَفِي الْأَثَرِ: " أَنَّ اللَّه أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ الخليل عليه السلام: يَا إبْرَاهِيمُ: أَتَدْرِي لِمَ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا؟ لِأَنِّي رأيت العطاء أحب إليك من الأخذة. وهذا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّزْقِ، وَالْعَطَاءِ، الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ، وَبَذْلُ الْمَنَافِعِ، نَظِيرُهُ فِي الصَّبْرِ وَالْغَضَبِ، الذي هو الشجاعة ودفع المضار. فإن النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِرَبِّهِمْ. وَقِسْمٌ لَا يِغضبون لِنُفُوسِهِمْ وَلَا لِرَبِّهِمْ. وَالثَّالِثُ -هو الوسط- الذي يغضب لربه لَا لِنَفْسِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ: خَادِمًا لَهُ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا دَابَّةً، وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى ينتقم لله» .
(1/49)
فأما من يغضبه لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّهِ، أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ. فَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ، شَرُّ الْخَلْقِ؛ لَا يَصْلُحُ بِهِمْ دِينٌ وَلَا دُنْيَا. كَمَا أَنَّ الصَّالِحِينَ أَرْبَابَ السِّيَاسَةِ الْكَامِلَةِ، هُمْ الَّذِينَ قَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ، وَهُمْ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَا يُصْلِحُ الدِّينَ بِعَطَائِهِ، وَلَا يَأْخُذُونَ إلَّا مَا أُبِيحَ لَهُمْ، وَيَغْضَبُونَ لِرَبِّهِمْ إذَا اُنْتُهِكَتْ محارمه، ويعفون عن حقوقهم، وهذه أَخْلَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بذله ودفعه، وهي أكمل الأمور. وكل ما كَانَ إلَيْهَا أَقْرَبَ، كَانَ أَفْضَلَ. فَلْيَجْتَهِدْ الْمُسْلِمُ في التقرب إليها بجهده، وَيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قُصُورِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ كَمَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّينِ، فَهَذَا فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] (سورة النساء: من الآية 58) والله أعلم.
(1/50)
[فصل الحكم بين الناس]
[القسم الْأَوَّلُ الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وتسمى حدود الله]
فصل وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] (سورة النساء: من الآية 58) . فَإِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، وَهُمَا قِسْمَانِ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ؛ بَلْ مَنْفَعَتُهَا لِمُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَوْعٍ مِنْهُمْ. وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا. وَتُسَمَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَحُقُوقَ اللَّهِ: مِثْلَ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالسُّرَّاقِ، وَالزُّنَاةِ وَنَحْوِهِمْ، وَمِثْلَ الْحُكْمِ في الأموال السُّلْطَانِيَّةِ، وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا الَّتِي لَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ. فَهَذِهِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إمَارَةٍ: بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا. فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ؛ فَقَالَ: يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ، وَتَأْمَنُ بِهَا السُّبُلُ، وَيُجَاهَدُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَإِقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ تُقَامُ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ: هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِمَالِهِ؛ عَلَى قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لكنهم متفقون عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بالحد، وَقَدْ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَالِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى الشَّرِيفِ، وَالْوَضِيعِ، وَالضَّعِيفِ، وَلَا يَحِلُّ تَعْطِيلُهُ؛ لَا بِشَفَاعَةٍ، وَلَا بِهَدِيَّةٍ، وَلَا بِغَيْرِهِمَا، وَلَا تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فِيهِ. وَمَنْ
(1/51)
عَطَّلَهُ لِذَلِكَ -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَتِهِ- فَعَلَيْهِ لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَهُوَ ممن اشترى؛ بآيات الله ثمنا قليلاً. وروى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر -رضي الله عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ. وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ. وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ دَيِّنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل الناري» . فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكماء وَالشُّهَدَاءَ وَالْخُصَمَاءَ، وَهَؤُلَاءِ أَرْكَانُ الْحُكْمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زيد. فقال: يَا أُسَامَةُ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ أَشْرَفَ بَيْتٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَطْنَانِ: بَنُو مَخْزُومٍ، وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا -الَّتِي هِيَ جُحُودُ العارية، على قول بعض العلماء، أو سرقة أخرى غيرها عَلَى قَوْلِ آخَرِينَ- وَكَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِلِ، وَأَشْرَفِ الْبُيُوتِ، وَشَفَعَ فِيهَا حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ، غَضِبَ رَسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ دُخُولَهُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثْلَ بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ -وَقَدْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ- فَقَالَ: " لَوْ أَنَّ فاطمة بنت محمد
(1/52)
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُطِعَتْ يَدُهَا تَابَتْ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْضِي حَاجَتَهَا» . فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ السَّارِقَ إذَا تَابَ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى النَّارِ» . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّ جَمَاعَةً أَمْسَكُوا لِصًّا لِيَرْفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَتَلَقَّاهُمْ الزُّبَيْرُ فَشَفَعَ فِيهِ فَقَالُوا: إذَا رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ فَاشْفَعْ فِيهِ عِنْدَهُ فَقَالَ: " إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ ". يَعْنِي الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ. «وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ نَائِمًا عَلَى رِدَاءٍ لَهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ لِصٌّ فَسَرَقَهُ، فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْلَى رِدَائِي تُقْطَعُ يَدُهُ؟ أَنَا أَهَبُهُ لَهُ. فَقَالَ: " فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ ! " ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّكَ لَوْ عَفَوْتُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ لَكَانَ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ رفع إلي فلا. فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَدِّ، لَا بِعَفْوٍ، وَلَا بِشَفَاعَةٍ، وَلَا بِهِبَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا اتفق العلماء -فيما أعلم- على أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَاللِّصَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا رُفِعُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ثُمَّ تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُمْ؛ بَلْ تَجِبُ إقَامَتُهُ وإن تابوا فإن كَانُوا صَادِقِينَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ الْحَدُّ كَفَّارَةً لهم، وكان تمكينهم من ذلك من تَمَامُ التَّوْبَةِ -بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا، والتمكين مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَأَصْلُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] (سورة النساء: الآية 85) . فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى يصير مَعَهُ شَفْعًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا، فَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، كَانَتْ
(1/53)
شَفَاعَةً حَسَنَةً، وَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ، كَانَتْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً. وَالْبِرُّ مَا أُمِرْتَ بِهِ، والإِثم مَا نُهِيتَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34] (سورة المائدة: الآيتان 33، 34) . فَاسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، فَالتَّائِبُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَاقٍ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِلْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ، وَالتَّعْلِيلِ. هَذَا إذَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِقْرَارٍ، وَجَاءَ مُقِرًّا بِالذَّنْبِ تَائِبًا: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ بَلْ إنْ طَلَبَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ، وَإِنْ ذَهَبَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدٌّ. وَعَلَى هَذَا حَمْلُ حَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا قَالَ: " فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ " وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ " أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ " مَعَ آثَارٍ أُخَرَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عبد الله بن عمرو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي من حد فقد وجب» . وفي سن النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قَالَ: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» . وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِنَقْصِ الرِّزْقِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ والسنَّة، فَإِذَا أُقِيمَتْ الْحُدُودُ، ظَهَرَتْ طَاعَةُ اللَّهِ، وَنَقَصَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى،
(1/54)
فَحَصَلَ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الزَّانِي أَوْ السَّارِقِ أَوْ الشَّارِبِ أَوْ قاطع الطريق ونحوهم مَالٌ تُعَطَّلُ بِهِ الْحُدُودُ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ سُحْتٌ خَبِيثٌ، وَإِذَا فَعَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جَمَعَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : تَعْطِيلُ الْحَدِّ، و (الثاني) : أَكْلُ السُّحْتِ. فَتَرَكَ الْوَاجِبَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ. قَالَ الله تَعَالَى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] (سورة المائدة: الآية 63) . وقال الله تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] (سورة المائدة: من الآية 42) . لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشْوَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْبِرْطِيلَ، وَتُسَمَّى أَحْيَانًا الْهَدِيَّةَ وَغَيْرَهَا. وَمَتَى أَكَلَ السُّحْتَ وَلِيُّ الْأَمْرِ احْتَاجَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ والمرتشي والرائش -الواسطة- الذي بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ صَاحِبُهُ -وَكَانَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بكتاب الله، وائذن لي، فقال: قل. فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أَهْلِ هَذَا -يَعْنِي أَجِيرًا- فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بمائة شاة وخادم. وإني سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتخريب عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ: " والذي نفسي بيده، لأفضي! ن بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ. وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَاسْأَلْهَا، فَإِنْ اعترفت
(1/55)
فَارْجُمْهَا ". فَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ عَنْ الْمُذْنِبِ هَذَا الْمَالَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ. وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَدِّ بِمَالٍ يُؤْخَذُ، أَوْ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الزَّانِي، وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ، وَالْمُحَارِبِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ونحو ذلك لتعطيل الحد، ممال سحت خبيث. وكثير مِمَّا يُوجِدُ مِنْ فَسَادِ أُمُورِ النَّاسِ، إنَّمَا هو لتعطيل الْحَدِّ بِمَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ: مِنْ الْأَعْرَابِ، وَالتُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَقَيْسٍ، وَيَمَنٍ، وَأَهْلِ الْحَاضِرَةِ مِنْ رُؤَسَاءِ الناس وأغنيائهم وَفُقَرَائِهِمْ، وَأُمَرَاءِ النَّاسِ وَمُقَدَّمَيْهِمْ وَجُنْدِهِمْ، وَهُوَ سَبَبُ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْمُتَوَلِّي، وَسُقُوطِ قَدْرِهِ مِنْ الْقُلُوبِ، وَانْحِلَالِ أَمْرِهِ، فَإِذَا ارْتَشَى وَتَبَرْطَلَ عَلَى تَعْطِيلِ حَدٍّ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ حَدًّا آخَرَ، وَصَارَ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ الْمَلْعُونِينَ، وَأَصْلُ الْبِرْطِيلِ هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ، سُمِّيَتْ بِهِ الرِّشْوَةُ، لِأَنَّهَا تَلْقُمُ الْمُرْتَشِيَ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ كَمَا يُلْقِمُهُ الْحَجَرُ الطَّوِيلُ، كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " إذَا دَخَلَتْ الرِّشْوَةُ مِنْ الْبَابِ، خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ من الكوة، وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك، مثل هذا السُّحْتِ الَّذِي يُسَمَّى التَّأْدِيبَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْرَابَ الْمُفْسِدِينَ أَخَذُوا لِبَعْضِ النَّاسِ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقَادُوا إلَيْهِ خَيْلًا يُقَدِّمُونَهَا لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَيْفَ يَقْوَى طَمَعُهُمْ فِي الْفَسَادِ، وَتَنْكَسِرُ حُرْمَةُ الْوِلَايَةِ وَالسَّلْطَنَةِ، وَتَفْسُدُ الرعية؟ ؟ !
(1/56)
وَكَذَلِكَ الْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا أخذ فدفع بعض مَالَهُ: كَيْفَ يَطْمَعُ الْخَمَّارُونَ، فَيَرْجُونَ إذَا أَمْسَكُوا أن يفتدوا ببعض أموالهم، فيأخذها ذلك الوالي سحتاً، لا يبارك فيها، والفساد قائم. وكذلك ذوو الجاه، إذا حموا أَحَدًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، مِثْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ جَرِيمَةً، ثُمَّ يَأْوِي إلَى قرية نائب السلطان أو أميره فَيُحْمَى عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ، مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» فَكُلُّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحْدِثِينَ، فَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إنَّ مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ» . فَكَيْفَ بِمَنْ مَنَعَ الْحُدُودَ بِقُدْرَتِهِ وَيَدِهِ، وَاعْتَاضَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ بِسُحْتٍ. مِنْ الْمَالِ يَأْخُذُهُ، لَا سِيَّمَا الْحُدُودَ عَلَى سُكَّانِ الْبَرِّ؛ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ فَسَادِهِمْ حِمَايَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِجَاهٍ أَوْ مَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِلْوَالِي: سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، فَذَلِكَ جَمِيعُهُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِثْلُ تَضْمِينِ الْحَانَاتِ وَالْخَمْرِ، فَإِنَّ مَنْ مَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَعَانَ أَحَدًا عَلَيْهِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ جِنْسٍ واحد. والمال المأخوذ على هذا يشبه مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَهْرِ الْبَغْيِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَأُجْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْحَرَامِ: الَّذِي يُسَمَّى الْقَوَّادَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغْيِ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَمَهْرُ الْبَغْيِ الَّذِي يُسَمَّى حُدُورَ الْقِحَابِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا يعطاه الخنثون الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَمَالِيكِ أَوْ الْأَحْرَارِ عَلَى الْفُجُورِ بهم، وحلوان
(1/57)
الْكَاهِنِ: مِثْلُ حَلَاوَةِ الْمُنَجِّمِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُبَشِّرَةِ بِزَعْمِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا تَرَكَ إنْكَارَ الْمُنْكَرَاتِ وإقامة الحدود عليهما بِمَالٍ يَأْخُذُهُ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ، الَّذِي يُقَاسِمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْأَخِيذَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْقَوَّادِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى فَاحِشَةٍ، وَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ، الَّتِي كَانَتْ تَدُلُّ الْفُجَّارَ عَلَى ضَيْفِهِ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83] (سورة الأعراف: الآية 83) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] (سورة هود: من الآية 18) . فَعَذَّبَ اللَّهُ عَجُوزَ السُّوءِ الْقَوَّادَةَ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَ قَوْمَ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ أَخْذُ مَالٍ لِلْإِعَانَةِ على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نُصِبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ. فَإِذَا كَانَ الْوَالِي يُمَكِّنُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ، كَانَ قَدْ أَتَى بضد المقصود، مثل مَنْ نَصَّبْتَهُ لِيُعِينَكَ عَلَى عَدُوِّكَ، فَأَعَانَ عَدُوَّكَ عَلَيْكَ. وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَالًا لِيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتَلَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْعِبَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَبِهِ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] (سورة أل عمران: من الآية 110) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] (سورة آل عمران: من الآية 104) .
(1/58)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] (سورة التوبة: من الآية 71) . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] (سورة المائدة: الآية 79) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] (سورة الأعراف: الآية 165) . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ لَمَّا نَزَلَ نَجَّى الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ، وَأَخَذَ الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا في غَيْرِ مَوْضِعِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ من عنده» . وفي حديث آخر: «إن المعصية إذا خفيت لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فلم تنكر ضرت الْعَامَّةَ» . وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ في حدود الله وحقوقه: مقصوده الْأَكْبَرِ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ: مِثْلُ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، والصدق، وَالْأَمَانَةِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ، وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ التَّارِكُونَ طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يُقَاتَلُونَ عَلَى ترك الزكاة، والصيام، وغيرهما، وعلى استحلال
(1/59)
الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الإِسلام الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يَجِبُ جِهَادُهَا، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ التَّارِكُ لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى، وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَاسِقًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَافِرًا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا، أَمَّا إذَا جَحَدَ وُجُوبَهَا، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ من جحد سائر الواجبات المذكورات والمحرمات التي يجب القتال عليها. فالعقوبة على ترك الواجبات، وفعل المحرمات، هي مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ على الأمة بالاتفاق، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ. . . «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَوْ لَا تُطِيقُهُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ؟ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ، وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . وقال الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] (سورة الحجرات: الآية 15) .
(1/60)
وَقَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22] (سورة التوبة 19-22)
(1/61)
[عقوبة المحاربين]
فصل ومن ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ: الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ الناس بالسلاح فِي الطُّرُقَاتِ وَنَحْوِهَا، لِيَغْصِبُوهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً: مِنْ الْأَعْرَابِ، وَالتُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَفَسَقَةِ الْجُنْدِ، أَوْ مَرَدَةِ الْحَاضِرَةِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] (سورة المائدة: الآية 33) . وقد روى الشافعي -رحمه الله- في مسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ- " إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا مِنْ الْأَرْضِ ". وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمْ، فَيَقْتُلَ مَنْ رَأَى قَتْلَهُ مَصْلَحَةً، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْتُلْ: مِثْلَ أَنْ يكون رئيسا مطاعاً فيهم، وَيَقْطَعَ مَنْ رَأَى قَطْعَهُ مَصْلَحَةً؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ فِي أَخْذِ الْمَالِ. كَمَا أَنَّ منهم من درى أنهم إذَا أَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَقُطِعُوا وَصُلِبُوا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ قَدْ قَتَلَ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ الإِمام حَدًّا، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بِحَالٍ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. ذَكَرَهُ ابْنُ المنذر، ولا
(1/62)
يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا دَمُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، إنْ أَحَبُّوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ. وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ فَإِنَّمَا يُقْتَلُونَ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَضَرَرُهُمْ عَامٌّ؛ بمنزلة السراق، فكان قتلهم حداً لله. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مُكَافِئِ لِلْقَاتِلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، أَوْ الْقَاتِلُ مسلماً، والمقتول ذمياً أر مُسْتَأْمَنًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُقْتَلُ فِي الْمُحَارَبَةِ؛ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يُقْتَلُ: لِأَنَّهُ قُتِلَ لِلْفَسَادِ الْعَامِّ حَدًّا، كَمَا يُقْطَعُ إذَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَمَا يُحْبَسُ بِحُقُوقِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُحَارِبُونَ الْحَرَامِيَّةُ جَمَاعَةً، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَاقُونَ لَهُ أَعْوَانٌ وَرِدْءٌ لَهُ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ فَقَطْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يُقْتَلُونَ، وَلَوْ كَانُوا مِائَةً، وَأَنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ، وَالرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى مَكَان عَالٍ، يَنْظُرُ مِنْهُ لَهُمْ من يجيء. ولأن المباشر إنما تمكن مِنْ قَتْلِهِ بِقُوَّةِ الرِّدْءِ وَمَعُونَتِهِ. وَالطَّائِفَةُ إذَا انْتَصَرَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى صَارُوا مُمْتَنِعِينَ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، كَالْمُجَاهِدِينَ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى من سواهم، يرد متسريهم على قعدهم» يعني أن جيش المسالمين إذَا تَسَرَّتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ فَغَنِمَتْ مَالًا، فَإِنَّ الْجَيْشَ يُشَارِكُهَا فِيمَا غَنِمَتْ، لِأَنَّهَا بِظَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ تمكنت؛ لكن تنفل
(1/63)
عنها نَفْلًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ إذَا كَانُوا فِي بِدَايَتِهِمْ الربع بعد الخمس، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بَعْدَ الْخُمُسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَنِمَ الْجَيْشُ غَنِيمَةً شَارَكَتْهُ السَّرِيَّةُ، لِأَنَّهَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُمَا في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة، وَأَنْصَارُهَا مِنْهَا، فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَهَكَذَا الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى بَاطِلٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ؛ مِثْلُ الْمُقْتَتِلِينَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؛ كَقَيْسٍ وَيَمَنٍ وَنَحْوِهِمَا؛ هُمَا ظَالِمَتَانِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في الصحيحين. ولضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ القاتل؛ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد، وفي ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] (سورة البقرة: من الآية 178) . وَأَمَّا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ فَقَطْ، وَلَمْ يَقْتُلُوا -كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ كَثِيرًا- فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة، وأحمد، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] (سورة المائدة: من الآية 33) . تُقْطَعُ الْيَدُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَالرِّجْلُ الَّتِي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَنَحْوِهِ؛ لِيَنْحَسِمَ الدَّمُ فَلَا يَخْرُجُ فَيُفْضِي إلَى تَلَفِهِ، وَكَذَلِكَ تُحْسَمُ يَدُ السَّارِقِ بالزيت. وهذا الفعل قد يَكُونُ أَزَجَرَ مِنْ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْأَعْرَابَ، وَفَسَقَةَ الْجُنْدِ وَغَيْرَهُمْ إذَا رَأَوْا دَائِمًا مَنْ هُوَ بَيْنَهُمْ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، ذَكَرُوا بِذَلِكَ جُرْمَهُ
(1/64)
فَارْتَدَعُوا؛ بِخِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُنْسَى؛ وَقَدْ يُؤْثِرُ بَعْضُ النُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ قَتْلَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ، فَيَكُونُ هَذَا أَشَدَّ تَنْكِيلًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا، ثُمَّ أغمدوه، أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل: نَفْيُهُمْ تَشْرِيدُهُمْ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَرَاهُ الإمام أصلح من ففي أو حسي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ: هُوَ ضَرْبُ الرقبة بالكف ونحوه، لأن ذلك أروح أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ قَتْلَ مَا يُبَاحُ قَتْلُهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، إذَا قُدِرَ عليه على هذا الوجه. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحسان عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وليحد أحد كم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ: «إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ» . وَأَمَّا الصَّلْبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ رَفْعُهُمْ عَلَى مَكَان عَالٍ لِيَرَاهُمْ النَّاسُ، وَيَشْتَهِرَ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ بَعْدَ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُصْلَبُونَ ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَهُمْ مُصَلَّبُونَ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَتْلَهُمْ بِغَيْرِ السَّيْفِ، حَتَّى قَالَ: يُتْرَكُونَ عَلَى الْمَكَانِ الْعَالِي، حَتَّى يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ بِلَا قَتْلٍ. فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ قَالَ عِمْرَانُ ابن حصين -رضي الله عَنْهُمَا- «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرْنَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ، حَتَّى الْكُفَّارَ إذَا قَتَلْنَاهُمْ، فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ، وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا أَنْ يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثل ما فعلا» . وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 126 - 127] (سورة النحل: الآية 126، ومن الآية 127)
(1/65)
قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِضِعْفَيْ مَا مَثَّلُوا بِنَا» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ -وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (سورة الإسراء: من الآية 85) . وَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (سوره هود: من الآية 114) . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ جَرَى بِالْمَدِينَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْخِطَابَ، فَأُنْزِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً -فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، " بل نصبر ". وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ في حاجه نفسه أوصاه في خاصة نفسه بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خيراً، ثم يقول: اغزوا بسم الله، في سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا» . وَلَوْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فِي الْبُنْيَانِ -لَا فِي الصَّحْرَاءِ- لِأَخْذِ الْمَالِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ ليسموا مُحَارِبِينَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يُدْرِكُهُ الْغَوْثُ، إذَا اسْتَغَاثَ بِالنَّاسِ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ -فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ- وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ هُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ مَحَلُّ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ تَنَاصُرِ النَّاسِ وَتَعَاوُنِهِمْ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونِ الرَّجُلَ فِي دَارِهِ جَمِيعَ مَالِهِ، وَالْمُسَافِرُ لَا يَكُونُ مَعَهُ-غَالِبًا- إلَّا بَعْضُ
(1/66)
مَالِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ المتحزبون (1) الَّذِينَ تُسَمِّيهِمْ الْعَامَّةُ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ الْمَنْسَرَ (2) وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِبَغْدَادَ الْعَيَّارِينَ؛ وَلَوْ حَارَبُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِالْأَيْدِي، أَوْ الْمَقَالِيعِ وَنَحْوِهَا: فَهُمْ مُحَارِبُونَ أَيْضًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا مُحَارَبَةَ إلَّا بِالْمُحَدَّدِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ: عَلَى أَنَّ الْمُحَارَبَةَ تَكُونُ بِالْمُحَدَّدِ وَالْمُثْقَلِ. وَسَوَاءٌ كان فيه خلاف أو لَمْ يَكُنْ: فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ بِأَيِّ نوع كان من أنواع القتالة فَهُوَ مُحَارِبٌ قَاطِعٌ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، وَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفٍ، أَوْ رُمْحٍ، أَوْ سَهْمٍ، أَوْ حِجَارَةٍ، أَوْ عِصِيٍّ، فَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَقْتُلُ النُّفُوسَ سِرًّا، لِأَخْذِ الْمَالِ؛ مِثْلَ الَّذِي يَجْلِسُ فِي خَانٍ يُكْرِيهِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. أَوْ يَدْعُو إلَى منزله من يستأجره لخياطة، أو طب أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَقْتُلُهُ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ، وَهَذَا يُسَمَّى الْقَتْلَ غِيلَةً، وَيُسَمِّيهِمْ بَعْضُ الْعَامَّةِ الْمُعَرِّجِينَ (3) فإذا كان لأخذ المال، فهل هم كالمحاربين، أو يجرى عليهم حُكْمُ الْقَوَدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ، لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْحِيلَةِ كَالْقَتْلِ مُكَابَرَةٍ، كِلَاهُمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ.
_________
(1) نسخة المحترفون.
(2) نسخة المفسد.
(3) نسخة المعرضين.
(1/67)
والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِيمَنْ يَقْتُلُ السُّلْطَانُ، كَقَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- هَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ، فَيُقْتَلُونَ حَدًّا، أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ -عَلَى قولينِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ- لِأَنَّ فِي قتله فساداٌ عاما.
(1/68)
فصل وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا إذَا طَلَبَهُمْ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ، لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِلَا عُدْوَانٍ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. وَمَتَى لَمْ يَنْقَادُوا إلَّا بِقِتَالٍ يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قُوتِلُوا، وَإِنْ أَفْضَى إلَى ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا أَوْ لَمْ يَقْتُلُوا. وَيُقْتَلُونَ فِي الْقِتَالِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ: فِي الْعُنُقِ وغيره. ويقاتل من قاتل معهم بن يَحْمِيهِمْ وَيُعِينُهُمْ. فَهَذَا قِتَالٌ، وَذَاكَ إقَامَةُ حَدٍّ. وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ أَوْكَدُ مِنْ قَتْلِ الطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَحَزَّبُوا لِفَسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ؛ لَيْسَ مقصودهم إقامة دِينٍ وَلَا مُلْكٍ. وَهَؤُلَاءِ كَالْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يَأْوُونَ إلَى حِصْنٍ، أَوْ مَغَارَةٍ أَوْ رَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ، وَإِذَا جَاءَهُمْ جُنْدُ ولي الأمر يطلبهم لِلدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ والجماعةَ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ: قَاتَلُوهُمْ وَدَفَعُوهُمْ؛ مِثْلَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَاجِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقَاتِ، أَوْ الجبلية الَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ أَوْ الْمَغَارَاتِ؛ لِقَطْعِ الطريق. وكالأحلاف الَّذِينَ تَحَالَفُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " النَّهِيضَةَ " (1) فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا ذَكَرْنَا: لَكِنَّ قِتَالَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْكُفَّارِ، إذَا لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا أخذوا، وإن لم
_________
(1) نسخة " النهضة " ونسخة " الهينِصة ".
(1/69)
نعلم عين الآخذ. وَكَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ عَيْنُهُ؛ فَإِنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَاهُ، لَكِنْ إذَا عُرِفَ عَيْنُهُ كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ مَا يُؤْخَذُ منهم عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ رِزْقِ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ قِتَالِهِمْ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْفَسَادِ، فَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جَرْحًا مُثْخَنًا، لَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ. وَإِذَا هَرَبَ وَكَفَانَا شَرَّهُ لَمْ نَتْبَعْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ نَخَافَ عَاقِبَتَهُ، وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي يُقَامُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِمْ حَتَّى يَرَى غَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْمِيسَهَا؛ وَأَكْثَرُهُمْ يَأْبُونَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا إلَى مَمْلَكَةِ طَائِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ شريعة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين. قوتلوا كقتالهم. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَلَكِنَّهُ يأخذ خفارة أو ضريبة مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى الرُّءُوسِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَحْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مَكَّاسٌ، عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمَكَّاسِينَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَامِدِيَّةِ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ، لَغُفِرَ لَهُ» وَيَجُوزُ للمظلومين -الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ- قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فهو شهيد» .
(1/70)
وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلَ " وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ المال جاز دفعه بِمَا يُمْكِنُ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقِتَالِ قُوتِلَ، وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ جَازَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ- مِثْلُ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ، أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ. فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ، وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالٍ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ، وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ، جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَلْ يَجِبُ عليه؟ على قولين للعلماء فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- فِتْنَةً، مِثْلُ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ، إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرَ، وَجَرَى السَّيْفُ، أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ، أَوْ يَسْتَسْلِمَ فَلَا يُقَاتِلَ فِيهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَإِذَا ظَفِرَ السُّلْطَانُ بِالْمُحَارِبِينَ الْحَرَامِيَّةِ -وَقَدْ أَخَذُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ- فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ، وَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ، مَعَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ السَّارِقُ؛ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إحْضَارِ الْمَالِ بَعْدَ ثبوته عليهم عاقبهم بالحبر وَالضَّرْبِ، حَتَّى يُمَكِّنُوا مِنْ أَخْذِهِ بِإِحْضَارِهِ أَوْ تَوْكِيلِ مَنْ يُحْضِرُهُ، أَوْ الْإِخْبَارِ بِمَكَانِهِ كَمَا يُعَاقَبُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ عَنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ إذَا نَشَزَتْ، فَامْتَنَعَتْ من الحق الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، حَتَّى تُؤَدِّيَهُ. فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ وَالْعُقُوبَةُ حَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَرَادَ هِبَتَهُمْ الْمَالَ، أَوْ الْمُصَالَحَةَ عَلَيْهِ؛ أَوْ العفو عن
(1/71)
عُقُوبَتِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْعَفْوِ عَنْهُ بِحَالٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الْمَالِ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ تَلِفَتْ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَ السَّارِقِ. فَقِيلَ: يَضْمَنُونَهَا لِأَرْبَابِهَا، كَمَا يَضْمَنُ سَائِرُ الْغَارِمِينَ. وهو قول الشافعي وأحمد -رضي الله عَنْهُمَا- وَتَبْقَى مَعَ الْإِعْسَارِ فِي ذِمَّتِهِمْ إلَى مَيْسَرَةٍ. وَقِيلَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقِيلَ: يَضْمَنُونَهَا مع اليسار فقط دون الإعسار، وهو قَوْلُ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-. وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جُعْلًا عَلَى طب المحاربين، ولإقامة الْحَدِّ، وَارْتِجَاعِ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى طَلَبِ السَّارِقِينَ، لَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِلْجُنْدِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ فِي طَلَبِهِمْ: بَلْ طَلَبُ هَؤُلَاءِ مِنْ نرع الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَخْرُجُ فِيهِ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَخْرُجُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْغَزَوَاتِ الَّتِي تُسَمَّى الْبَيْكَارَ. وَيُنْفِقُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي هَذَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى سائر الغزاة، فإن كان لهم إقْطَاعٌ أَوْ عَطَاءٌ يَكْفِيهِمْ وَإِلَّا أَعْطَاهُمْ تَمَامَ كِفَايَةِ غَزْوِهِمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذِينَ زَكَاةٌ، مِثْلُ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَدْ يُؤْخَذُونَ، فَأَخَذَ الإِمام زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وأنفقهما فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَنَفَقَةِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْمُحَارِبِينَ جاز. وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تأليف، فأعطى الإِمام من الفيء والمصالح والزكاة لِبَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ يُعِينُهُمْ عَلَى إحْضَارِ الْبَاقِينَ، أَوْ لِتَرْكِ شَرِّهِ فَيَضْعُفُ الْبَاقُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ وغيره، وهو ظاهر الكتاب والسن وأصول الشريعة.
(1/72)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ الإِمام مَنْ يَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحَرَامِيَّةِ، وَلَا مَنْ يَأْخُذُ مَالًا من المأخوذين: التجار ونحوهم مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، بَلْ يُرْسِلُ مِنْ الْجُنْدِ الْأَقْوِيَاءِ الْأُمَنَاءِ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَيُرْسِلَ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُ نُوَّابِ السُّلْطَانِ أَوْ رُؤَسَاءِ الْقُرَى وَنَحْوِهِمْ يَأْمُرُونَ الْحَرَامِيَّةَ بِالْأَخْذِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، حَتَّى إذَا أَخَذُوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم، وأرضى المأخوذين ببعض أَمْوَالِهِمْ، أَوْ لَمْ يُرْضِهِمْ، فَهَذَا أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِدُونِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا. وَالْوَاجِبُ أَنْ يقال فيه ما يقال في الردء وَالْعَوْنِ لَهُمْ. فَإِنْ قُتِلُوا قُتِلَ هُوَ عَلَى قول أمير المؤمنين عمر ابن الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله، وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَتَلَ وَصَلَبَ. وَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقْطَعُ وَيَقْتُلُ وَيَصْلُبُ، وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لم يأذن لَهُمْ؛ لَكِنْ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ قَاسَمَهُمْ الْأَمْوَالَ، وَعَطَّلَ بَعْضَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ. وَمَنْ آوَى مُحَارِبًا أَوْ سَارِقًا، أَوْ قَاتِلًا وَنَحْوَهُمْ. مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لآدمي، ومنعه أن يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ، فَهُوَ شَرِيكُهُ في الجرم، وقد لعنه الله ورسوله. روى مسلم في صحيحه، عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» . وَإِذَا ظُفِرَ بِهَذَا الَّذِي آوَى الْمُحْدِثَ، فَإِنَّهُ طلب مِنْهُ إحْضَارُهُ، أَوْ الْإِعْلَامُ بِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْ ذَلِكَ الْمُحْدِثِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب. فمن وَجَبَ حُضُورُهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ يُعَاقَبُ مَنْ منع حضورها.
(1/73)
وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يَعْرِفُ مَكَانَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ بِحَقٍّ، أَوْ الرَّجُلَ الْمَطْلُوبَ بِحَقٍّ، وَهُوَ الَّذِي يمنعه، فتنة يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّفْسُ أَوْ الْمَالُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ، فإنه لا يحل الْإِعْلَامُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ بَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ، لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا. فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إيَّاهُ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «أَمَرَنَا رسول الله ولا بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وإجابة الدعوة ورد السلام، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ، وَعَنْ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْقَسِّيِّ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ» . فَإِنْ امْتَنَعَ هَذَا الْعَالِمُ بِهِ مِنْ الْإِعْلَامِ بِمَكَانِهِ جَازَتْ عُقُوبَتُهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ. فَعُوقِبَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ. وَهَذَا مطرد فيما تَتَوَلَّاهُ الْوُلَاةُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ، فِي كُلِّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وليس هذا بمطالبة لِلرَّجُلِ بِحَقٍّ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا عُقُوبَةً عَلَى جِنَايَةِ غَيْرِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} [الإسراء: 15] (سورة الإسراء: من الآية 15) . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُطْلَبَ بِمَالٍ قَدْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ،
(1/74)
وهو ليس وكيلاً ولا ضامنا وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ. أَوْ يُعَاقَبَ الرَّجُلُ جريرة قَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هو قَدْ أَذْنَبَ، لَا بِتَرْكِ وَاجِبٍ، وَلَا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَحِلُّ. فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ مَكَانَ الظَّالِمِ، الَّذِي يُطْلَبُ حُضُورُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، أَوْ يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ والسنة والإجماع، إما محاباة أو حمية لذلك الظالم، كما قد يفعل أهل العصبية بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِمَّا مُعَادَاةً أَوْ بُغْضًا لِلْمَظْلُومِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: من الآية 8) . وإما إعراضا -عن القيام لله والقيام بِالْقِسْطِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهَ وَجُبْنًا وَفَشَلًا وَخِذْلَانًا لِدِينِهِ، كَمَا يَفْعَلُ التَّارِكُونَ لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَدِينِهِ وَكِتَابِهِ، الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلُوا إلَى الْأَرْضِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الضَّرْبُ، يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ العلماء. وما لم يسلك هذه السبل، عطلت الحدود وضيعت الحقوق، وأكل القوى الضعيف. وَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ عِنْدَهُ مَالُ الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِحَاكِمٍ عَادِلٍ، يُوفِي بِهِ دَيْنَهُ، أَوْ يُؤَدِّي مِنْهُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ أَوْ مَمَالِيكِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ. وَكَثِيرًا مَا يجب على الرجل حق بسبب غيره، كلما تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِسَبَبِ حَاجَةِ قَرِيبِهِ، وَكَمَا تجب الدية عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْزِيرِ عُقُوبَةٌ لِمَنْ عُلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا أَوْ نفساً يجب
(1/75)
إحْضَارُهُ، وَهُوَ لَا يُحْضِرُهُ؛ كَالْقُطَّاعِ وَالسُّرَّاقِ وَحُمَاتِهِمْ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِهِ وَهُوَ لَا يُخْبِرُ بِمَكَانِهِ. فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِحْضَارِ، لِئَلَّا يَتَعَدَّى عَلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ يَظْلِمَهُ، فَهَذَا مُحْسِنٌ. وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ويجتمع شبهة وشهوة. وَالْوَاجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ. وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي الرُّؤَسَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ، إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ مُسْتَجِيرٌ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ صَدَاقَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَالْعِزَّةَ بالإِثم، وَالسُّمْعَةَ عِنْدَ الْأَوْبَاشِ: أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُ -وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُبْطِلًا- عَلَى الْمُحِقِّ الْمَظْلُومِ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَظْلُومُ رَئِيسًا يُنَادِيهِمْ ويناويهم، فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذُلًّا أَوْ عَجْزًا؛ وَهَذَا -عَلَى الْإِطْلَاقِ- جَاهِلِيَّةٌ محضة. وهي مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَدْ ذكر أنه إنما كان سبب كثير مِنْ حُرُوبِ الْأَعْرَابِ، كَحَرْبِ الْبَسُوسِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَتَغْلِبَ، إلَى نَحْوِ هَذَا، وكذلك سبب دخول الترك، والمغول دار الإسلام، واستيلائهم عَلَى مُلُوكِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ: كَانَ سببه نحو هذا. ومن أذل نفسه لته فَقَدْ أَعَزَّهَا، وَمَنْ بَذَلَ الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ أَكْرَمَ نَفْسَهُ، فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَمَنْ اعْتَزَّ بِالظُّلْمِ: مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ، وَفِعْلِ الْإِثْمِ، فَقَدْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] (سورة فاطر: من الآية 10) . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] (سورة المنافقون: الآية 8) . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ - وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206] (سورة البقرة: الآيات 204-206) .
(1/76)
وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ مُسْتَجِيرٌ- إنْ كَانَ مَظْلُومًا يَنْصُرُهُ. وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مظلوم بمجرد دعواه؛ فطالما اشتكى الوجل وهو ظالم؛ بل يكثف خَبَرَهُ مِنْ خَصْمِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا رَدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ بِالرِّفْقِ إنْ أَمْكَنَ؛ إمَّا مِنْ صُلْحٍ أَوْ حُكْمٍ بِالْقِسْطِ، وَإِلَّا فَبِالْقُوَّةِ. وإن كان كل منهما ظَالِمًا مَظْلُومًا كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، مِنْ قَيْسٍ وَيَمَنٍ وَنَحْوِهِمْ. وَأَكْثَرُ الْمُتَدَاعِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي، أو كان جَمِيعًا غَيْرَ ظَالِمَيْنِ. لِشُبْهَةٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوْ غَلَطٍ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا: سَعَى بَيْنَهُمَا بِالْإِصْلَاحِ، أَوْ الْحُكْمِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9 - 10] (سورة الحجرات: الآيتان 9، 10) . وَقَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (سورة النساء: الآية 114) . وقد روى أبو داود في السنن. عزر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قِيلَ لَهُ: " أَمِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْحَقِّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْبَاطِلِ» . وَقَالَ: «خَيْرُكُمْ الدَّافِعُ عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ» . وَقَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَنْصُرُ قَوْمَهُ بِالْبَاطِلِ كَبَعِيرٍ تَرَدَّى فِي
(1/77)
بِئْرٍ فَهُوَ يَجُرُّ بِذَنَبِهِ» . وَقَالَ: «مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ. وَلَا تُكَنُّوا» . وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ: مِنْ نَسَبٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ جِنْسٍ أَوْ مَذْهَبٍ، أَوْ طَرِيقَةٍ: فَهُوَ مِنْ عَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ «لَمَّا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار فقال الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» . وَغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شديدا.
(1/78)
[حد السارق]
فصل وَأَمَّا السَّارِقُ فَيَجِبُ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى بِالْكِتَابِ والسنة والإجماع، قال الله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38 - 39] (سورة المائدة: الآيتان 38، 39) . ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه، أو بالإقرار تأخيره: لا بحبس وَلَا مَالٌ يُفْتَدَى بِهِ وَلَا غَيْرُهُ، بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مِنْ الْعِبَادَاتِ، كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِعِبَادِهِ: فَيَكُونُ الْوَالِي شَدِيدًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، لَا تَأْخُذُهُ رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَيُعَطِّلُهُ. وَيَكُونُ قَصْدُهُ رَحْمَةَ الْخَلْقِ بكف الناس عن المنكرات؛ لا شفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق: بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ إذَا أَدَّبَ وَلَدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَّ عَنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ -كَمَا تُشِيرُ بِهِ الْأُمُّ رِقَّةً وَرَأْفَةً- لَفَسَدَ الْوَلَدُ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ رحمة به، وإصلاحا لحاله؛ مع أن يَوَدُّ وَيُؤْثِرُ أَنْ لَا يُحْوِجَهُ إلَى تَأْدِيبٍ، وَبِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَسْقِي الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَبِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، وَالْحَجْمِ، وَقَطْعِ الْعُرُوقِ بالفساد، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْإِنْسَانِ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَمَا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ لِيَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ. فَهَكَذَا شُرِعَتْ الْحُدُودُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْوَالِي فِي إقَامَتِهَا، فإنه مَتَى كَانَ قَصْدُهُ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ، وَابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَاعَةَ أَمْرِهِ: أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْقُلُوبَ، وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ، وَكَفَاهُ الْعُقُوبَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقَدْ
(1/79)
يُرْضِي الْمَحْدُودَ، إذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ غَرَضُهُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِمْ، وَإِقَامَةَ رِيَاسَتِهِ لِيُعَظِّمُوهُ، أَوْ لِيَبْذُلُوا لَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْوَالِ، انْعَكَسَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ نَائِبًا لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ سَاسَهُمْ سِيَاسَةً صَالِحَةً، فَقَدِمَ الْحَجَّاجُ مِنْ الْعِرَاقِ، وَقَدْ سَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَنْ عُمَرَ. كَيْفَ هَيْبَتُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَنْظُرَ إلَيْهِ. قَالَ: كَيْفَ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ؟ قَالُوا: هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِنَا قَالَ: فَكَيْفَ أَدَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأَسْوَاطِ إلَى الْعَشَرَةِ. قَالَ: هَذِهِ هَيْبَتُهُ، وَهَذِهِ مَحَبَّتُهُ، وَهَذَا أَدَبُهُ، هَذَا أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ. وَإِذَا قُطِعَتْ يده حسمت، ويستحب أَنْ تُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ. فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا: قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى. فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا، وَرَابِعًا: ففيه قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَحَدُهُمَا: تُقْطَعُ أَرْبَعَتُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُحْبَسُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَالْكُوفِيِّينَ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى. وَإِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ إذَا سَرَقَ نِصَابًا، وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. فَمَنْ سَرَقَ ذَلِكَ قُطِعَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عن ابن عمر -رضي الله عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» وفي لفظ مسلم «قطع
(1/80)
سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم» والجن التُّرْسُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «تقطع اليد في ريع دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» . وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، والدينار اثني عَشَرَ دِرْهَمًا. وَلَا يَكُونُ السَّارِقُ سَارِقًا حَتَّى يأخذ الْمَالَ مِنْ حِرْزٍ. فَأَمَّا الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَالثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّجَرِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا حَائِطٍ، وَالْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ عِنْدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، لَكِنْ يعزر الآخذ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّضْعِيفِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . وَالْكَثَرُ جُمَّارُ النَّخْلِ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قال: يا رسول الله جئت أَسْأَلُكَ عَنْ الضَّالَّةِ مِنْ الْإِبِلِ، قَالَ: مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَتَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا. قَالَ: فَالضَّالَّةُ مِنْ الْغَنَمِ؛ قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، تَجْمَعُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا: قَالَ: فَالْحَرِيسَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا؟ قَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ. وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا مِنْ أَكْمَامِهَا قَالَ: مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِفَمِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شيء،
(1/81)
وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبَ نَكَالٍ، وَمَا أَخَذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه كرامة مِثْلِيَّةٌ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. لَكِنَّ هذا سياق النسائي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا الخائن قطع» . فالمنتهب الذي يَنْهَبُ الشَّيْءَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَالْمُخْتَلِسُ الَّذِي يَجْتَذِبُ الشَّيْءَ، فَيُعْلَمُ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَأَمَّا الطَّرَّارُ وَهُوَ الْبَطَّاطُ الَّذِي يَبُطُّ الْجُيُوبَ وَالْمَنَادِيلَ وَالْأَكْمَامَ ونحوها، فإنه يقطع على الصحيح.
(1/82)
[حد الزاني]
وَأَمَّا الزَّانِي: فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيَّ، ورجم الغامدية، ورجم اليهوديين، ورجم غير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده. وقد اختلف الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمِ مِائَةً؛ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيُغَرَّبُ عَامًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يَرَى وُجُوبَ التَّغْرِيبِ. وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مِنْ يَكْتَفِي بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَسْقُطُ. وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ -وَهُوَ حُرٌّ مُكَلَّفٌ- من تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي قُبُلِهَا، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مُسَاوِيَةً لِلْوَاطِئِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. . وهل تحصن المراهقة البالغ؟ وَبِالْعَكْسِ؟ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُمْ مُحْصَنُونَ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَجْمٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُجِدَتْ حُبْلَى، ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولم تدع شُبْهَةً فِي الْحَبَلِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أحمد وغيره. قيل: لا حد
(1/83)
عليها؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَبِلَتْ مُكْرَهَةً، أَوْ بتحمل، أو بوطء شبهة. قيل: بَلْ تُحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ النَّادِرَةَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، كَاحْتِمَالِ كَذِبِهَا، وَكَذِبِ الشُّهُودِ. وَأَمَّا اللِّوَاطُ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: حَدُّهُ كَحَدِّ الزِّنَا. وَقَدْ قِيلَ: دُونَ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ: أَنْ يُقْتَلَ الِاثْنَانِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ. سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَنِ رَوَوْا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في البكر يوجد على اللوطية. قَالَ: يُرْجَمُ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي قَتْلِهِ؛ وَلَكِنْ تَنَوَّعُوا فِيهِ. فَرُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، وَعَنْ غَيْرِهِ قَتْلُهُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ جِدَارٌ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ الهدم، وقيل: يحبسان في أنق مَوْضِعٍ حَتَّى يَمُوتَا. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُرْمَى مِنْهُ، وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ، كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ. . وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى قَالَ: يُرْجَمُ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ. قَالُوا لِأَنَّ اللَّهَ رَجَمَ قَوْمَ لُوطٍ، وَشُرِعَ رَجْمُ الزاني تشبيهاً برجم قوم لُوطٍ، فَيُرْجَمُ الِاثْنَانِ، سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً والآخر حرا، إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ بَالِغٍ عُوقِبَ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ، وَلَا يُرْجَمُ إلا البالغ.
(1/84)
[حد الشرب]
فصل وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ: فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الشارب غير مرة، هو وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. وَالْقَتْلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُحْكَمٌ، يُقَالُ: هُوَ تَعْزِيرٌ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ. وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَرْبَعِينَ، وَضَرَبَ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ ثَمَانِينَ» ، وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَضْرِبُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ، وَمَرَّةً ثَمَانِينَ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ ضَرْبُ الثَّمَانِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ أَرْبَعُونَ، وَالزِّيَادَةُ يَفْعَلُهَا الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، إذَا أَدْمَنَ النَّاسُ الْخَمْرَ. أَوْ كَانَ الشَّارِبُ مِمَّنْ لَا يَرْتَدِعُ بِدُونِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الشَّارِبِينَ وَقُرْبِ أَمْرِ الشَّارِبِ فَتَكْفِي الْأَرْبَعُونَ. وَهَذَا أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا كَثُرَ الشُّرْبُ- زَادَ فِيهِ النَّفْيَ وَحَلْقَ الرَّأْسِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ، فلو غرب الشارب مع الأربعين لينقطع خبره، أو عزله عن ولايته كان حسناً، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بلغه
(1/85)
عن بعض نوابه أنه تمثل بأبيات في الخمر فعزله. والخمر الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم بجلد شاريها، كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ مِنْ أَيِّ أَصْلٍ كَانَ، سواء كان مِنْ الثِّمَارِ كَالْعِنَبِ، وَالرُّطَبِ، وَالتِّينِ. أَوْ الْحُبُوبِ، كَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. أَوْ الطُّلُولِ كَالْعَسَلِ. أَوْ الْحَيَوَانِ، كَلَبَنِ الْخَيْلِ، بَلْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ شَجَرُ عِنَبٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُجْلَبُ مِنْ الشَّامِ، وَكَانَ عَامَّةُ شَرَابِهِمْ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وخلفائه الراشدين وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَمْرٌ. وَكَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ الْحُلْوَ، وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ تَمْرٌ وزبيب أي يطرح فيه، والنبذ: الطرح ليحلو الماء لا سيما كثير مِنْ مِيَاهِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ فِيهِ مُلُوحَةً، فَهَذَا النَّبِيذُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْكِرُ، كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ عَصِيرِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا هَذَا النَّبِيذَ في أوعية الخشب، أو الجري، وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ التُّرَابِ. أَوْ الْقُرَعِ، أَوْ الظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا فِي الظُّرُوفِ الَّتِي تُرْبَطُ أَفْوَاهُهَا بِالْأَوْكِيَةِ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَدِبُّ فِي النَّبِيذِ دَبِيبًا خَفِيفًا، وَلَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ الْإِنْسَانُ مَا قَدْ دَبَّتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِذَا كان السقاء موكى، انشق الظرف، إذا غلى فِيهِ النَّبِيذُ، فَلَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي مَحْذُورٍ، وَتِلْكَ الْأَوْعِيَةُ لَا تَنْشَقُّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ بَعْدَ هَذَا فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ، وَقَالَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا، وَلَا تَشْرَبُوا المسكر»
(1/86)
فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ أَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ، فَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ. وَمِنْهُمْ مِنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ فَرَخَّصَ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ. فَسَمِعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الْمُسْكِرُ، فَتَرَخَّصُوا فِي شُرْبِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَتَرَخَّصُوا فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا لَمْ يُسْكِرْ الشَّارِبَ. وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، يُجْلَدُ شَارِبُهُ، وَلَوْ شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً، لِتَدَاوٍ أَوْ غَيْرِ تَدَاوٍ، «فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُتَدَاوَى بِهَا، فَقَالَ: " إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» . وَالْحَدُّ وَاجِبٌ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ اعْتَرَفَ الشَّارِبُ، فَإِنْ وجدت منه رائحة الخمر، أو رؤي وهو يتقيؤها ونحو ذلك. فقد ميل: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَ مَا لَيْسَ بِخَمْرٍ، أَوْ شَرِبَهَا جَاهِلًا بِهَا، أو مكرهاً ونحو ذلك. وقيل: بل يُجْلَدُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يصلح عَلَيْهِ النَّاسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَحْمَدَ فِي غَالِبِ نُصُوصِهِ، وَغَيْرِهِمَا. وَالْحَشِيشَةُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ وَرَقِ الْعِنَبِ حَرَامٌ أَيْضًا، يُجْلَدُ صَاحِبُهَا كَمَا يُجْلَدُ ضارب الْخَمْرِ، وَهِيَ أَخْبَثُ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ، حَتَّى يَصِيرَ فِي الرَّجُلِ تَخَنُّثٌ وَدِيَاثَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَكِلَاهُمَا يَصُدُّ
(1/87)
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الصَّلَاةِ. وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَدِّهَا، وَرَأَى أَنَّ آكِلَهَا يُعَزَّرُ بِمَا دُونَ الْحَدِّ؛ حَيْثُ ظَنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ طَرَبٍ. بِمَنْزِلَةِ البنج، ولم نجد لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ آكِلُوهَا يَنْشَوْنَ عَنْهَا، وَيَشْتَهُونَهَا، كَشَرَابِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرَ. وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، إذَا أَكْثَرُوا مِنْهَا، مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْأُخْرَى: مِنْ الدِّيَاثَةِ وَالتَّخَنُّثِ، وَفَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَامِدَةً مَطْعُومَةً لَيْسَتْ شَرَابًا، تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَقِيلَ: هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: لَا؛ لِجُمُودِهَا. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ جَامِدِهَا وَمَائِعِهَا. وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ لَفْظًا ومعنى. «قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يا رسول الله! أفتنا في شرابين كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ، وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِي جوامع الكلم وخواتيمه. فَقَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا. وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا، وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
(1/88)
عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مسكر حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ منه حرام» . قال الترمذي حديث حَسَنٌ. وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» . وصححه الحفاظ. وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: الْمِزْرُ، فَقَالَ: " أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كل مسكر حرا، إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ، أن بسقيه مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أو عصارة أَهْلِ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ ابن عباس -رضي الله عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل مخمر خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، جَمَعَ رسول الله بِمَا أُوتِيهِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، كُلَّ مَا غطى العقل وأسكر، ولم يفرق بين نرع وَنَوْعٍ، وَلَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا، على أن الْخَمْرِ قَدْ يُصْطَبَغُ بِهَا، وَالْحَشِيشَةُ قَدْ تُذَابُ فِي الْمَاءِ وَتُشْرَبُ؛ فَكُلُّ خَمْرٍ يُشْرَبُ وَيُؤْكَلُ، وَالْحَشِيشَةُ تُؤْكَلُ وَتُشْرَبُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي خُصُوصِهَا: لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ أَكْلُهَا مِنْ قَرِيبٍ، فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ أُحْدِثَتْ أَشْرِبَةٌ مُسْكِرَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْكَلِمِ الجوامع، من الكتاب والسنة.
(1/89)
فصل وَمِنْ الْحُدُودِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا قَذَفَ الرجل محصنا بالزنا أو اللواط، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَالْمُحْصَنُ هُنَا: هُوَ الْحُرُّ الْعَفِيفُ، وَفِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا هو الذي وطن وطئاً كاملا في نكاح تام.
(1/90)
[المعاصي التي ليست لها حدود أو كفارة]
فصل وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ، أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ، كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ، أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا، أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، ولو شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ، كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بيت المال أو الوقوف، وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إذَا خَانُوا فِيهَا، وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو من يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ، كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، أو يشهد بالزور، أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ، أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ، أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ، أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ: فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا، بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي، عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ. فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا. وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ؛ بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ؛ فَيُعَاقَبُ مَنْ يتعرض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يعاقب مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ؛ بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامُ الْإِنْسَانِ، مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَتَرْكِ قَوْلٍ، وَتَرْكِ فِعْلٍ، فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا "، وَقَدْ يُعَزَّرُ
(1/91)
بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ من الزحف من الكبائر، وقطع أجره نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ ما يستعظم فعزله عن إمارته تَعْزِيرٌ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ، وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ، وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه أمر بمثل ذلك فِي شَاهِدِ الزُّورِ، فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الوجهَ، فسُود وجهُه، وقلَبَ الْحَدِيثَ، فقُلِب رُكُوبُهُ. وَأَمَّا أَعْلَاهُ؛ فَقَدْ قِيلَ: " لَا يُزَادُ عَلَى عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ ". وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يُبْلَغُ بِهِ الْحَدُّ. ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: " لَا يُبْلَغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ ": لَا يُبْلَغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ، وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ، أَوْ الثَّمَانُونَ، وَلَا يُبْلَغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حدود العبد، وهي الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: بَلْ لَا يُبْلَغُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا حَدُّ الْعَبْدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يُبْلَغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدُّ جِنْسِهِ وَإِنْ زاد على حد جِنْسٍ آخَرَ، فَلَا يُبْلَغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعُ الْيَدِ، وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مِنْ حَدِّ الْقَاذِفِ. وَلَا يُبْلَغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دون الزنا حد الزاني، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضربة، ثم ضربه فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةَ ضَرْبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ: " يُضْرَبَانِ مِائَةً ". «وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امرأته: " إن كانت أحلتها له جلد مائة وإن لم تكن أحلتها لَهُ: رُجِمَ» . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ.
(1/92)
وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، فَحُكِيَ عَنْهُ: أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يُبْلَغُ بِهِ الْقَتْلُ. وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ، إذَا تجسس للعدو على المسلمين، فإن أحمد توقف في قتله، وجوز مالك وبعض الحنابلة - كابن عقيل - قتله، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا: قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «أَنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَتْلُهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَجْلِ الْكُفْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزِّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ، إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ، كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ، أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يستدل على أن المفسد متى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ: بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَرْفَجَةَ الْأَشْجَعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «سَتَكُونُ هَنَاتٌ، وَهَنَاتٌ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فاضربوه
(1/93)
بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» . وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ في أمره بقتل شَارِبُ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ -رَضِيَ الله عنه- قال: «سأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بِأَرْضٍ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شراباٌ مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا، وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا. فَقَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؛ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ. قُلْتُ إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ» . وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ، جَزَاءً بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ، كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ، وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ. و (الثاني) الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ، وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ، فَإِنْ تاب؛ وإلا قتل. وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا. فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ، أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» . قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: مِثْلُ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلِ الْحَرَامِ. فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] (سورة البقرة من الآية 229) .
(1/94)
وَيُقَالُ فِي الثَّانِي: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] (سورة البقرة من الآية 187) . وأما تسمية العقوبة المقدرة حَدًّا، فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ. وَمُرَادُ الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ ضَرَبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ، كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ، لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ. وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ: هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ ". وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمَقَارِعِ، وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ، بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ. أَمَّا الْحُدُودُ، فَلَا بد فيها من الجلد بالسوط، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يؤدب بالدرة: فإذا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ، وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كلها؛ بل ينزع عنه ما يمنع كم الضَّرْبِ، مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ، وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» . وَلَا يَضْرِبُ مَقَاتِلَهُ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ، وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ، كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك.
(1/95)
[الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى الله ورسوله نوعان]
فصل الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدور عَلَيْهِ، مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ، كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالٍ. فَاصِلٍ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، أعداء الله ورسوله، فكل من بلغته دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ (حَتَّى لَا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله) . ولأن الله لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه: لم يأذن له فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ، حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39 - 41] (سورة الحج: الآيات 39- 41) . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] (سورة البقرة: الآية 216) . وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ، فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ، وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ ومرض القلوب،
(1/96)
وقال تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] (سورة التوبة: الآية 15) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] (سورة الحجرات: الآية 15) . وقال تَعَالَى {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ - فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 20 - 22] (سورة محمد: من الآية 20 والآيتان 21، 22) . فهذا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ فِي " سُورَةِ الصَّفِّ " الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] (سورة الصف: الآيات 10-13) . وقوله تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22] (سورة التوبة: الآيات 19-22) . وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] (سورة المائدة: من الآية 54) .
(1/97)
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] (سورة التوبة: من الآيتين 120، 121) . فذكر ما يتولد من أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ. وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَكَانَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع، وصوم التَّطَوُّعِ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» . وَقَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وقال: «من اغبرت قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي السُّنَنِ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ
(1/98)
لَيْلُهَا، وَيُصَامُ نَهَارُهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ؛ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تَفْتُرَ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ ". وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سِيَاحَةً، وَسِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا مثل ما ورد فيه. وهو ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامٌّ لِفَاعِلِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جميع أنواع العبارات الباطنة والطاهرة، فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ، وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ؛ عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَلٌ آخَرُ. والقائم به من الشخص والأمن أن إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ دَائِمًا؛ إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَإِمَّا الشهادة والجنة. فإن الْخَلْقَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَحْيَا وَمَمَاتٍ، فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ فِي غَايَةِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِهِ ذَهَابُ السَّعَادَتَيْنِ أو نقصهما؛ وإن من الناس من يركب فِي الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهَا، فَالْجِهَادُ أَنْفَعُ فِيهِمَا مِنْ كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نَفْسِهِ حَتَّى يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ، فَمَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ مَيْتَةٍ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَيْتَاتِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ هُوَ الْجِهَادُ، وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ
(1/99)
الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرَّاهِبِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْأَعْمَى، وَالزَّمِنِ، وَنَحْوِهِمْ فَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْجَمِيعِ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ؛ إلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ؛ لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ هُوَ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا، إذَا أَرَدْنَا إظْهَارَ دِينِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (سورة البقرة: الآية 190) . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا النَّاسُ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» وَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» . وفيها أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طفلاً صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً» . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ مَا يُحتاج إلَيْهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] (سورة البقرة: من الآية 217) . أَيْ أَنَّ الْقَتْلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ وَفَسَادٌ فَفِي فِتْنَةِ الْكُفَّارِ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ دِينِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ مَضَرَّةُ كُفْرِهِ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الفقهاء: إن الداعية إلى البدع الخالفة لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يُعَاقَبُ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا؛ وَلَكِنْ إذَا ظهرت فلم شكر ضرت العامة» . ولهذا أوجبت الشريعة قتال الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ؛ بَلْ إذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ، مِثْلِ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ
(1/100)
إلَيْنَا، أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ مِنْ قَتْلِهِ، أَوْ اسْتِعْبَادِهِ، أَوْ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مُفَادَاتِهِ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَى الْمَنَّ عَلَيْهِ وَمُفَادَاتَهُ مَنْسُوخًا. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ فَيُقَاتَلُونَ، حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. إلَّا أَنَّ عَامَّتَهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا من العرب، وأيما طائفة انْتَسَبَتْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَامْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَانَ قَدْ تَوَقَّفَ فِي قِتَالِهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بكر -رضي الله عَنْهُمَا- كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعهم قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ
(1/101)
قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إلى صلاتهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ قِرَاءَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن الْعَمَلِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «يقتلون أهل الإسلام، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحَرُورِيَّةَ. بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِهِ، وأن أصحاب علي أولى الطائفتين بِالْحَقِّ، وَلَمْ يُحَرِّضْ إلَّا عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ، وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ. فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَنَّهُ يُقَاتَلُ مَنْ خَرَجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ، لَوْ تَرَكَتْ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ، كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، هَلْ يجوز قتالها؛ على قولين. فأما الواجبات والحرمات الظَّاهِرَةُ وَالْمُسْتَفِيضَةُ، فَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَوَاتِ
(1/102)
الْمَكْتُوبَاتِ، وَيُؤَدُّوا الزَّكَاةَ، وَيَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ، وَيَلْتَزِمُوا تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ: مِنْ نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ، وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إليهم بما يقاتلون عليه. فأما إذا بدأوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَكَّدُ قِتَالُهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ قُطَّاعِ الطُّرُقِ. وَأَبْلَغُ الْجِهَادِ الْوَاجِبُ لِلْكُفَّارِ، وَالْمُمْتَنِعِينَ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ، كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ: يَجِبُ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا. فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءً، فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ وَكَانَ الْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الآية (سورة النساء: الْآيَةَ 95) . فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ، وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ، لِإِعَانَتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] (سورة الأنفال: من الآية 72) . وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصر المسلم، وسواء كان الرَّجُلُ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ لِلْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الخندق لم يأذن الله في ترى لأحد، كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ، الَّذِي قَسَّمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ. بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] (سورة الأحزاب من الآية 13) . فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفُسِ، وَهُوَ قِتَالُ اضْطِرَارٍ، وَذَلِكَ قِتَالُ اخْتِيَارٍ، لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ، وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، كَغُزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا.
(1/103)
فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ، هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ وَغَيْرُهَا، مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بالعدد فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ كَانَ لَا يصلي من جميع الناس: من رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ يُوجِبُونَ قَتْلَهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ، فَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا؛ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ في مذهب أحمد وغيره. والمنقول عن أَكْثَرِ السَّلَفِ يَقْتَضِي كُفْرَهُ، وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ. فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ الْوُجُوبَ فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ: بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَأْمُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا، وَيَضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَكَذَلِكَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ تَعَاهُدُ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ. وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «صَلُّوا كما رأيتموني أن أُصَلِّي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. «وَصَلَّى مَرَّةً بِأَصْحَابِهِ عَلَى طَرَفِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: (إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . وَعَلَى إمَامِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ. فَلَا يَفُوتُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ كَمَالِ دِينِهِمْ: بَلْ على كل إمام للصلاة أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً كَامِلَةً وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْأَجْزَاءِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى إمَامِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَأَمِيرِهِمْ فِي الْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَلِيَّ
(1/104)
فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يِتصرف لِمُوَكِّلِهِ وَلِمُوَلِّيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ لَهُ فِي مَالِهِ؟ وَهُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ يَفُوتُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ. فَأَمْرُ الدِّينِ أَهَمُّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى. وَمَتَى اهْتَمَّتْ الْوُلَاةُ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ: صَلُحَ لِلطَّائِفَتَيْنِ دِينُهُمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الأمور عليهم. وملاك ذلك كله صلاح النِّيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ جِمَاعُ صَلَاحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] (سورة الفاتحة: الآية 5) فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمَا يَجْمَعَانِ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ: " يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فَجُعِلَتْ الرُّءُوسُ تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا» . وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] (سورة هود: من الآية 123) وقَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] (سورة هود: من الآية 88) . «وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ -يَقُولُ: " اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ» . وَأَعْظُمُ عَوْنٍ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ خَاصَّةً، وَلِغَيْرِهِ عَامَّةً، ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَصْلُ ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ، بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ. الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَغَيْرِهِ من النوائب. ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيراً، كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] (سورة البقرة: من الآية 45) . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 - 115] (سورة هود: الأيتان 114، 115) . وقَوْله تَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] (سورة طه: من الآية 130) .
(1/105)
وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ ق ": {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] (الآية 39) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 - 98] (سورة الحجر: الآيتان 97، 98) . وأما قرنه بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ فَكَثِيرٌ جِدًّا. فَبِالْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّبْرِ يَصْلُحُ حَالُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ. إذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هذه الأسماء الجامعة: يدخل في الصلاة ذكر الله تعالى، ودعاؤه، وَتِلَاوَةُ كِتَابِهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ إحْسَانٍ، وَلَوْ بِبَسْطِ الْوَجْهِ، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، فَيَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» . وَفِي السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إلَيْهِ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إناء المستقي» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَثْقَلَ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» . «وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: " يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
(1/106)
وَفِي الصَّبْرِ احْتِمَالُ الْأَذَى، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَتَرْكُ الْأَشِرِ وَالْبَطَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11] (سورة هود: الآيات 9- 11) . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (سورة الأعراف: الآية 199) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (سورة آل عمران: الآيتان 133، 134) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36] (سورة فصلت: الآيات 34-36) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (سورة الشورى: الآية 40) . قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ. فَلَيْسَ حَسَنُ النِّيَّةِ بِالرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ، أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوُونَهُ وَيَتْرُكَ مَا يَكْرَهُونَهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] [سورة المؤمنون: من الآية 71) . وَقَالَ تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] (سورة الحجرات: من الآية 7) . وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ فِعْلُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوْ كَرِهَهُ مَنْ
(1/107)
كَرِهَهُ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رضي الله عنه- يقول: والله إني لأريد أَنْ أُخْرِجَ لَهُمْ الْمُرَّةَ مِنْ الْحَقِّ، فَأَخَافُ أَنْ يَنْفِرُوا عَنْهَا، فَأَصْبِرُ حَتَّى تَجِيءَ الْحُلْوَةُ مِنْ الدُّنْيَا، فَأُخْرِجُهَا مَعَهَا، فَإِذَا نَفَرُوا لِهَذِهِ، سَكَنُوا لِهَذِهِ. وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقَوْلِ. «وَسَأَلَهُ مَرَّةً بَعْضُ أَقَارِبِهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَيَرْزُقَهُ مِنْهَا، فَقَالَ: " إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . فَمَنَعَهُمْ إيَّاهَا وَعَوَّضَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ. وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَلَمْ يَقْضِ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: وَلَكِنْ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا، ثُمَّ إنَّهُ طَيَّبَ قَلْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَسَنَةٍ، «فَقَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» . «وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» . «وَقَالَ لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» . فَهَكَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِي قَسْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ دَائِمًا يَسْأَلُونَ ولي الأمر مالا يصلح بنقله من الولايات، والأموال والمنافع والأجور، وَالشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيُعَوِّضُهُمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنْ أَمْكَنَ، أَوْ يَرُدُّهُمْ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقَوْلِ، مَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِغْلَاظِ؛ فَإِنَّ رَدَّ السَّائِلِ يُؤْلِمُهُ، خُصُوصًا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] (سورة الضحى: الآية 10) . وقال الله تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (سورة الإسراء: الآية 26) إلَى قَوْلِهِ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] (سورة الإسراء: الآية 28) .
(1/108)
وَإِذَا حَكَمَ عَلَى شَخْصٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى، فإذا طيب نفسه بما يَصْلُحُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَانَ ذَلِكَ تَمَامَ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ، من الطب الَّذِي يُسَوِّغُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى فِرْعَوْنَ -: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (سورة طه: الآية 44) . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ-: " يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . «وَبَالَ مَرَّةً أَعْرَابِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فَقَالَ: " لَا تَزْرِمُوهُ " أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ» . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا بِمَا تَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ حُظُوظِهَا الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ الْحُظُوظُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ مع النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ حَتَّى لَوْ اُضْطُرَّ إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم جمل حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِهَذَا، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها. فَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عِنْدِي دِينَارٌ فَقَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ تَصَدَّقْ
(1/109)
بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قال: أنت أصر بِهِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ صدقت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ. أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ أَنْ تبذل الفضل خير لك، دان تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ. وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ؛ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ (سورة البقرة: من الآية 219) . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ وَالْمَسَاكِينِ؛ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ مُتَعَيَّنًا إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِهِ؛ فَإِنَّ إطْعَامَ الْجَائِعِ وَاجِبٌ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ» . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ صِدْقُهُ وَجَبَ إطْعَامُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الطَّوِيلَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ -وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ-: " حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِأَصْحَابِهِ الذيِن يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُحَدِّثُونَهُ عَنْ ذَاتِ نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فسما يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ ". فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من اللذات المباحة الجميلة فإنها تدين عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ.
(1/110)
وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ؛ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نَفْسِي بِالشَّيْءِ مِنْ الْبَاطِلِ، لِأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. والله سبحانه إنما خلق اللغات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم، كما خليق الْغَضَبَ لِيَدْفَعُوا بِهِ مَا يَضُرُّهُمْ، وَحَرَّمَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يَضُرُّ تَنَاوُلُهُ، وَذَمَّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا. فَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ، فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ ويكون له فيها أجرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أما يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ؟» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْتَ بِهَا درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك» . والآثار فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَتْ لَهُ نية، أتت على عامة أفعاله، وكان المباحات من صَالِحِ أَعْمَالِهِ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ، وَالْمُنَافِقُ -لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ- يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُظْهِرُهُ مِنْ العبادات رياء، فإن في الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ شُرِعَتْ دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَدْ شُرِعَ أَيْضًا كُلُّ مَا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ. فَيَنْبَغِي تَيْسِيرُ طَرِيقِ الخير والطاعة،
(1/111)
وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَبْذُلَ لِوَلَدِهِ، وَأَهْلِهِ، أَوْ رَعِيَّتِهِ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ: مِنْ مَالٍ، أَوْ ثَنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلِهَذَا شُرِعَتْ الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْمُنَاضَلَةُ بِالسِّهَامِ، وَأَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي إعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الخيل لجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ، هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَيُخْرِجُونَ الْأَسْبَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ عَطَاءُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ: " أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرُ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ". وَكَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْمَعْصِيَةُ: يَنْبَغِي: حَسْمُ مَادَّتِهِ، وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ، وَدَفْعُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ. مِثَالُ ذَلِكَ، مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لا يخلون رجل بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» . وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ» . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخلوة بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالسَّفَرِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الشَّرِّ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ «وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، فَأَجْلَسَهُ خلف ظَهْرَهُ. وَقَالَ: " إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد النَّظَرَ» . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ تَقُولُ فِيهَا:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
فدعا به، فوجده شَابًّا حَسَنًا، فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَازْدَادَ جَمَالًا، فَنَفَاهُ إلى البصرة، لئلا تفتق به النساء. وروي عنه: أنه بلغه أن رَجُلًا يَجْلِسُ إلَيْهِ الصِّبْيَانُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ.
(1/112)
فَإِذَا كَانَ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ تُخَافُ فِتْنَتُهُ على الرجال، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ، مَنَعَ وَلِيُّهُ مِنْ إظْهَارِهِ لغير حاجة، أو تحسينه؛ لا سيما بترييحه فِي الْحَمَّامَاتِ، وَإِحْضَارِهِ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْأَغَانِي؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّعْزِيرُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ ظهر منه الفجور يمنع من تملك الْغِلْمَانِ الْمُرْدَانِ الصِّبَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَكَانَ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ الْقَادِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْرَحَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. «فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً. فقال: أوجبت وَجَبَتْ ". ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شراً، فقال: " وجبت وَجَبَتْ ". فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ. أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِهِ امْرَأَةٌ تُعْلِنُ (1) الْفُجُورَ. فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ» . فَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا الْحَذَرُ مِنْ الرَّجُلِ فِي شَهَادَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمُعَايَنَةِ؛ بَلْ الِاسْتِفَاضَةُ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمَا هُوَ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَقْرَانِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ (2) ". فَهَذَا لِدَفْعِ شَرِّهِ، مِثْلُ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْعَدُوِّ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-: " احترسوا من النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ ". فَهَذَا أَمْرُ عُمَرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَةُ الْمُسْلِمِ بِسُوءِ الظَّنِّ.
_________
(1) في نسخة: تظن بالفجور.
(2) في نسخة: بأحبابهم.
(1/113)
[القسم الثاني الحدود والحقوق التي لأدمي معين]
[القصاص]
وَأَمَّا الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَمِنْهَا النُّفُوسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153] (سورة الأنعام: الآيات 151-153) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] (سورة النساء: من الآية 92) 0 إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] (سورة النساء: الآية 93) وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (سورة المائدة: من الآية 32) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» . فَالْقَتْلُ ثَلَاثَةُ أنواع: أحدها: الْعَمْدُ الْمَحْضُ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ مَعْصُومًا بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ يَقْتُلُ بِحَدِّهِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِثِقَلِهِ كَالسِّنْدَانِ وَكَوَذِينِ القصار؛ أو
(1/114)
بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَالْإِلْقَاءِ مِنْ مَكَان شَاهِقٍ، وَالْخَنْقِ، وَإِمْسَاكِ الْخُصْيَتَيْنِ حَتَّى تَخْرُجَ الرُّوحُ، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله وجب فِيهِ الْقَوَدُ، وَهُوَ أَنْ يُمَكَّنَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْ الْقَاتِلِ؛ فَإِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا عَفْوًا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ. وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا غَيْرَ قَاتِلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (سورة الإسراء: الآية 33) . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبَلٍ -الْخَبَلُ الْجِرَاحُ- فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ: أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ. فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَادَ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ الْعَفْوِ أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ حَدًّا، وَلَا يَكُونُ أَمْرُهُ لِأَوْلِيَاءِ المقتول. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178 - 179] (سورة البقرة: من الآية 178 والآية 179) . قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِالْغَيْظِ، حَتَّى يُؤْثِرُوا أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَرُبَمَا لَمْ يَرْضَوْا بِقَتْلِ الْقَاتِلِ، بَلْ يَقْتُلُونَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْقَاتِلِ كَسَيِّدِ الْقَبِيلَةِ وَمُقَدِّمِ الطَّائِفَةِ، فَيَكُونُ الْقَاتِلُ قَدْ اعْتَدَى فِي الِابْتِدَاءِ، وَتَعَدَّى هَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْخَارِجُونَ عَنْ
(1/115)
الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، مِنْ الْأَعْرَابِ وَالْحَاضِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ يَسْتَعْظِمُونَ قَتْلَ الْقَاتِلَ لِكَوْنِهِ عَظِيمًا أشرف من المقتول، فيفضي ذلك إلى أن أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَاتِلِ، وَرُبَمَا حَالَفَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمًا، فَيُفْضِي إلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ الْعَظِيمَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ خُرُوجُهُمْ عَنْ سُنَنِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِصَاصَ -وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُعَادَلَةُ فِي الْقَتْلَى- وَأَخْبَرَ أَنَّ فِيهِ حَيَاةً؛ فَإِنَّهُ يَحْقِنُ دَمَ غير القاتل من أولياء الرجلين. وأيضاً فإذا عِلْمُ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفٌّ عن القتل. وقد روي عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سُوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ -أَيْ تَتَسَاوَى وَتَتَعَادَلُ- فَلَا يُفَضَّلُ عَرَبِيٌّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا قُرَشِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا حُرٌّ أَصْلِيٌّ عَلَى مَوْلًى عَتِيقٍ، وَلَا عَالِمٌ أَوْ أَمِيرٌ، عَلَى أُمِّيٍّ أَوْ مَأْمُورٍ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَحُكَّامُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ كَانَ بِقُرْبِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِنْفَانِ مِنْ الْيَهُودِ: قُرَيْظَةَ والنضير، وكانت النضير تفضل عَلَى قُرَيْظَةَ فِي الدِّمَاءِ، فَتَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوهُ مِنْ الرجم إلى التحميم، وقالوا إن حكم بينكم بِذَلِكَ كَانَ لَكُمْ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] (سورة المائدة: من الآية 41) . إلى
(1/116)
قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] (سورة المائدة: من الآية 42) . إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 44 - 45] (سورة المائدة: من الآيتين 44، 45) . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ نُفُوسِهِمْ، وَلَمْ يُفَضِّلْ مِنْهُمْ نَفْسًا عَلَى أُخْرَى، كَمَا كانوا يفعلونه إلى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] (سورة المائدة من الآية 48) . إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] (سورة المائدة: الآية 50) . فَحَكَمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا كلها سواء، خلاف ما عليه أهل الْجَاهِلِيَّةُ. وَأَكْثَرُ سَبَبِ الْأَهْوَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ في البوادي والحواضر إنما هو البغي، وترك الْعَدْلِ، فَإِنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ يُصِيبُ بَعْضُهَا بعضاً من الأخرى دماً أو مالاً، أو تعلو عليها بِالْبَاطِلِ وَلَا تُنْصِفُهَا، وَلَا تَقْتَصِرُ الْأُخْرَى عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَالْوَاجِبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَمَحْوِ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِذَا أَصْلَحَ مُصْلِحٌ بَيْنَهُمَا فَلْيُصْلِحْ بِالْعَدْلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10]
(1/117)
(سورة الحجرات: الآية 9 ومن الآية 10) . وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْعَفْوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] (سورة المائدة: من الآية 45) . قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ فِيهِ قِصَاصٌ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» . وَهَذَا الذي ذكرناه من التكافؤ: هو الْمُسْلِمِ الْحُرِّ مَعَ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْمُسْلِمِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الَّذِي يَقْدَمُ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ رَسُولًا أَوْ تَاجِرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُ وِفَاقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ كُفْءٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْخَطَأُ الَّذِي يُشْبِهُ الْعَمْدَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا إنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ فِي السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» . سماه شبه الْعَمْدَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْعُدْوَانَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا. فَقَدْ تَعَمَّدَ الْعُدْوَانَ، وَلَمْ يتعمد ما يقتل. والثالث: الخطأ المحض وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ: مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا، أَوْ هَدَفًا: فَيُصِيبَ إنْسَانًا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَلَا قَصْدِهِ. فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ قَوَدٌ. وَإِنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَهُنَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كتب أهل العلم، وبينهم.
(1/118)
[القصاص في الجراح]
فصل وَالْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ أَيْضًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسَّنَةِ والإجماع بشرط الْمُسَاوَاةِ؛ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ كَذَلِكَ. وَإِذَا قَلَعَ سِنَّهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْلَعَ سِنَّهُ. وَإِذَا شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ، فَأَوْضَحَ الْعَظْمَ، فَلَهُ أَنْ يَشُجَّهُ كَذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ الْمُسَاوَاةُ: مِثْلَ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا بَاطِنًا، أَوْ يَشُجَّهُ دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَلَا يُشْرَعُ الْقِصَاصُ؛ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ الْمَحْدُودَةُ، أَوْ الْأَرْشُ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ بِيَدِهِ أَوْ بِعَصَاهُ أَوْ سَوْطِهِ، مِثْلَ أَنْ يَلْطِمَهُ، أَوْ يَلْكُمَهُ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ التعزير، لِأَنَّهُ لَا تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَبِذَلِكَ جَاءَتْ سَنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّوَابُ، قال أَبُو فِرَاسٍ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ الله عنه- فذكر حديثاً قال فيه: " لا إنِّي وَاَللَّهِ مَا أُرْسِلَ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالكُمْ، وَلَكِنْ أُرْسِلَهُمْ إلَيْكُمْ ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم. فَمَنْ فُعِلَ بِهِ سِوَى ذَلِكَ: فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إذًا لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إن كان رجل من المسلمين أمر على رعية فأدب رعيته، أئنك لتقصه منه؟ قال: إي وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إذًا لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ. أَلَا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
(1/119)
وَمَعْنَى هَذَا إذَا ضَرَبَ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ ضَرْبًا غَيْرَ جَائِزٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْمَشْرُوعُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، إذْ هُوَ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أو جائز.
(1/120)
[القصاص في الأعراض]
فصل وَالْقِصَاصُ فِي الْأَعْرَاضِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَعَنَ رَجُلًا أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا شتمه: بشتمة لَا كَذِبَ فِيهَا. وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 40 - 41] (سورة الشورى: الآيتان 40، 41) . وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْتَبَّانِ: مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» . وَيُسَمَّى هَذَا الِانْتِصَارَ. وَالشَّتِيمَةُ الَّتِي لَا كَذِبَ فِيهَا مِثْلُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ، أَوْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ أَوْ الْحِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ افْتَرَى عَلَيْهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَفَّرَهُ أَوْ فَسَّقَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ أَوْ يُفَسِّقَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ لَعَنَ أَبَاهُ أَوْ قَبِيلَتَهُ، أَوْ أَهْلَ بَلَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى على أولئك، فإنهم لم يظلموه. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: من الآية 8) . فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَحْمِلَهُمْ بُغْضُهُمْ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَلَّا يَعْدِلُوا. وَقَالَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة من الآية 8) .
فَإِنْ كَانَ الْعُدْوَانُ عَلَيْهِ فِي الْعِرْضِ مُحَرَّمًا لحقه؛ لما يلحقه من الأذى، جاز الاقتصاص منه بمثله، كالدعاء عليه بمثل مَا دَعَاهُ؛ وَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَذِبِ، لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ، وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إذَا قَتَلَهُ بِتَحْرِيقٍ، أَوْ تَغْرِيقٍ، أَوْ خَنْقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، مَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ كَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ وَاللِّوَاطِ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا قَوَدَ عليه إلا بالسيف. والأول أشبه بالكتاب والسنَّة والعدل.
(1/121)
فصل
وَإِذَا كَانَتْ الْفِرْيَةُ، وَنَحْوُهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا؛ فَفِيهَا الْعُقُوبَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَمِنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ الثَّابِتِ فِي الْكِتَابِ والسنَّة والإجماعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5] (سورة النور: الآيتان 4، 5) .
فإذا رمى الحر محصنا بالزنا واللواط فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَإِنْ رَمَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ عُوقِبَ تَعْزِيرًا.
وَهَذَا الْحَدُّ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْذُوفُ، فَلَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنْ عَفَا عَنْهُ سَقَطَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبِ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ، كَالْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ، تَغْلِيبًا لِحَقِّ اللَّهِ، لعدم المماثلة، كسائر الحدود. وإنما يجب حد الْقَذْفُ إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الْعَفِيفُ.
فَأَمَّا الْمَشْهُورُ بِالْفُجُورِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالرَّقِيقُ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَاذِفُ؛ إلَّا الزَّوْجَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْذِفَ امْرَأَتَهُ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تَحْبَلَ مِنْ الزِّنَا. فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْهُ وَوَلَدَتْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْذِفَهَا، وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا؛ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ. وَإِذَا قَذَفَهَا فَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ بِالزِّنَا، وإما أن تلاعنه، كما ذكره الله فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلَوْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ فِي جَلْدِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (سورة النساء: من الآية 25) . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الْقَتْلَ، أَوْ قَطْعَ اليد، فإنه لا يتنصف.
(1/122)
[الأبضاع]
فصل وَمِنْ الْحُقُوقِ الْأَبْضَاعُ، فَالْوَاجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ. فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ حُقُوقَهُ، بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ؛ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا فِي مَالِهِ، وَهُوَ الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَقًّا فِي بَدَنِهِ، وَهُوَ الْعِشْرَةُ وَالْمُتْعَةُ؛ بِحَيْثُ لَوْ آلَى مِنْهَا اسْتَحَقَّتْ الْفُرْقَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا لَا يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا فَلَهَا الْفُرْقَةُ؛ وَوَطْؤُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لا يجب اكتفاء بالباعث الطَّبِيعِيِّ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأُصُولُ. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا رَآهُ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ: " إنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» .
ثُمَّ قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا كُلَّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً. وَقِيلَ: يَجِبُ وَطْؤُهَا بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَحَاجَتِهَا. كَمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ كَذَلِكَ، وَهَذَا أشبه.
وللرجل عليها أن يستمتع منها مَتَى شَاءَ، مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا، أَوْ يَشْغَلَهَا عَنْ وَاجِبٍ. فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ كَذَلِكَ.
وَلَا تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِ الشَّارِعِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ عَلَيْهَا خِدْمَةُ الْمَنْزِلِ كَالْفَرْشِ وَالْكَنْسِ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ. وَقِيلَ: يجب الخفيف منه.
(1/123)
[فصل في الحكم بين الناس في الأموال بالعدل كما أمر الله ورسوله]
فصل وأما الأموال فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، مِثْلُ قَسْمِ الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَائِلَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوَكَالَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُقُودِ وَالْقُبُوضِ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِيهَا هُوَ قُوَامُ الْعَالَمِينَ، لَا تَصْلُحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إلَّا بِهِ.
فَمِنْ الْعَدْلِ فِيهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ، يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِعَقْلِهِ، كَوُجُوبِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَحْرِيمِ تَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَوُجُوبِ الصِّدْقِ وَالْبَيَانِ، وَتَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ، وَأَنَّ جَزَاءَ الْقَرْضِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ.
وَمِنْهُ مَا هُوَ خَفِيٌّ، جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ أَوْ شَرِيعَتُنَا- أَهْلَ الْإِسْلَامِ- فَإِنَّ عَامَّةَ مَا نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ والسنَّة مِنْ الْمُعَامَلَاتِ يَعُودُ إلَى تَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ: دِقِّهِ وَجُلِّهِ، مِثْلِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَجِنْسِهِ مِنْ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ، وَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلِ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةُ، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، وَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَبَيْعِ الْمُدَلِّسِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالنَّجْشِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَمَا نَهْي عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَالْمُخَابَرَةِ بِزَرْعِ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ الْأَرْضِ.
(1/124)
ومن ذلك ما قد تنازع فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لِخَفَائِهِ وَاشْتِبَاهِهِ. فَقَدْ يَرَى هَذَا الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ صَحِيحًا عَدْلًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَرَى فِيهِ جَوْرًا يُوجِبُ فَسَادَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (سورة النساء: من الآية 59) . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا لَا يُشَرَّعُ لَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ، إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى شَرْعِهِ؛ إذْ الدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ ذمهم الله، حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا به مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لَأَنْ نَجْعَلَ الْحَلَالَ مَا حَلَّلَتْهُ، والحرام ما حرمته، والدين ما شرعته.
(1/125)
[فصل في المشورة]
فصل لَا غِنَى لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَنْ الْمُشَاوَرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (سورة آل عمران: من الآية 159) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- قال: «لم يكن أحد أكثر مشاورة لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ، وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بعده، وليستخرج بها مِنْهُمْ الرَّأْيَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحَيٌّ: مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ، وَالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَغَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمَشُورَةِ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 36 - 38] (سورة الشورى: من الآية 36 والآيتان 37، 38) . وَإِذَا اسْتَشَارَهُمْ، فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بَعْضُهُمْ مَا يجب اتباعه من كتاب الله أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد فِي خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] (سورة النساء: من الآية 59) .
وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ رَأْيَهُ وَوَجَّهَ رَأْيَهُ، فَأَيُّ الْآرَاءِ كَانَ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَمِلَ بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
(1/126)
(سورة النساء: من الآية 59) .
وَأُولُو الْأَمْرِ صِنْفَانِ: الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أن يتحرى بما يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتِّبَاعَ كِتَابِ اللَّهِ. وَمَتَى أَمْكَنَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ مَعْرِفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ عَجْزِ الطَّالِبِ، أَوْ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَرْتَضِيَ عِلْمَهُ وَدِينَهُ. هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قيل: ليس له التقليد بكل حال، وقيل: لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ الشُّرُوطِ يَجِبُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الإمكان، بل وسائر الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ. فَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَلِهَذَا أَمْرَ اللَّهُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، فَإِنْ عَدِمَهُ، أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، تَيَمَّمَ صعيداً طيباً، فمسح بوجهه ويديه منه. «وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: " صَلِّ قَائِمًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ أَمْكَنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ - فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238 - 239] (سورة البقرة: الآيتان 238، 239) .
فَأَوْجَبَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْآمِنِ وَالْخَائِفِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَخَفَّفَهَا عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ والسنة.
(1/127)
وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهَا وَاجِبَاتٍ: مِنْ الطَّهَارَةِ، وَالسِّتَارَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَأَسْقَطَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَوْ انْكَسَرَتْ سَفِينَةُ قَوْمٍ، أَوْ سَلَبَهُمْ الْمُحَارِبُونَ ثِيَابَهُمْ، صَلَّوْا عُرَاةً بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَامَ إمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ؛ لِئَلَّا يَرَى الْبَاقُونَ عَوْرَتَهُ.
وَلَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ، اجْتَهَدُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا. فَلَوْ عَمِيَتْ الدَّلَائِلُ صَلَّوْا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ، كَمَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَكَذَا الْجِهَادُ وَالْوِلَايَاتُ وَسَائِرُ أُمُورِ الدِّينِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْمَطَاعِمَ الْخَبِيثَةَ قَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] (سورة البقرة: من الآية 173) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (سورة الحج: من الآية 78) . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] (سورة المائدة: من الآية 6) . فَلَمْ يُوجِبْ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ، إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ بِغَيْرِ معصية من العبد.
(1/128)
[فصل منزلة الولاية]
فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ بَلْ لَا قيام للدين ولا للدنيا إلَّا بِهَا. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . فَأَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةٍ وَإِمَارَةٍ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ. وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ: «أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» وَيُقَالُ " سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ واحدة بِلَا سُلْطَانٍ ". وَالتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ - كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا- يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِلسُّلْطَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة
(1/129)
الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مِنْ وَرَائِهِمْ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» .
فَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ الْإِمَارَةِ دِينًا وَقُرْبَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ. وَإِنَّمَا يَفْسُدُ فِيهَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ لِابْتِغَاءِ الرِّيَاسَةِ أَوْ الْمَالِ بِهَا. وَقَدْ رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى المال والشرف لِدِينِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ يُفْسِدُ دينه، مثل أو أكثر من إفساد الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعِينَ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى عن الذي يؤتى كتابه بشماله أن يَقُولُ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] (سورة الحاقة الآيتان 28، 29) .
وَغَايَةُ مُرِيدِ الرِّيَاسَةِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ، وَجَامِعِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ كَقَارُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَالَ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر: 21] (سورة غافر: الآية 21) .
وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] (سورة القصص: الآية 83) . فَإِنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يُرِيدُونَ العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو مَعْصِيَةُ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ الْمُفْسِدُونَ، كَفِرْعَوْنَ وحزبه. وهؤلاء هم شرار
(1/130)
الْخَلْقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] (سورة القصص: الآية 4) . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذَرَّةٌ مِنْ إيمَانٍ ". فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله: إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا، وَنَعْلِي حَسَنًا، أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ قَالَ: " لَا: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» فَبَطَرُ الْحَقِّ دَفْعُهُ وَجَحْدُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ، وَهَذَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْفَسَادَ، بلا علو، كالسراق والمجرمين من سفلة الناس.
والقسم الثالث: يريدون الْعُلُوَّ بِلَا فَسَادٍ، كَاَلَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلُوَا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ.
وأما الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] (سورة آل عمران: الآية 139) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] (سورة محمد: الآية 35) . وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] (سورة المنافقون: من الآية 8) .
فَكَمْ مِمَّنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ، وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا سُفُولًا، وَكَمْ مِمَّنْ جُعِلَ مِنْ الْأَعْلَيْنَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا الْفَسَادَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ
(1/131)
النَّاسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَإِرَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى وَنَظِيرُهُ تَحْتَهُ ظُلْمٌ. وَمَعَ أَنَّهُ ظْلم فَالنَّاسُ يُبْغِضُونَ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَيُعَادُونَهُ؛ لِأَنَّ الْعَادِلَ مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَقْهُورًا لِنَظِيرِهِ، وَغَيْرُ الْعَادِلِ مِنْهُمْ يُؤْثِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاهِرَ. ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هذا لا بد لهم -فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ- مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِرَأْسٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] (سورة الأنعام: من الآية 165) . وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] (سورة الزخرف: من الآية 32) . فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِصَرْفِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ هُوَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَإِنْفَاقَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِهِ، كَانَ ذَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ، أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قلوبكم وأعمالكم» .
وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الدِّينَ وَأَعْرَض عَمَّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ، فَأَخَذَهُ مُعْرِضًا عَنْ الدِّينِ: لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ، وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ. لَا فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ وَالْعِزِّ. وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أهل الدينين (السابقين) العجز عن
(1/132)
تَكْمِيلِ الدِّينِ، وَالْجَزَعُ لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ فِي إقَامَتِهِ مِنْ الْبَلَاءِ: اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُمْ وَاسْتَذَلَّهَا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا.
وَهَاتَانِ السَّبِيلَانِ الْفَاسِدَتَانِ -سَبِيلُ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الدِّينِ وَلَمْ يُكْمِلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ، وَسَبِيلِ مِنْ أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ- هُمَا سَبِيلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. الأولى للضالين النصارى، الثانية لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ. وَإِنَّمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، هِيَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلُ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سلك سبيلهم. وهم الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] (سورة التوبة من الآية 100) .
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ؛ فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ، وَإِقَامَةَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ دِينِهِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الواجبات واجتنب ما يمكنه من الْمُحَرَّمَاتِ: لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ: فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأَمَةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ. وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الدِّينِ بِالسُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ، فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، مِنْ النَّصِيحَةِ بِقَلْبِهِ، وَالدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ: لَمْ يُكَلَّفْ مَا يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد النَّاصِرُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَعَلَى كُلِّ أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ؛ ثُمَّ الدُّنْيَا تَخْدُمُ الدِّينَ، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بن جبل
(1/133)
-رضي الله عنه-: يا ابن آدَمَ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى نَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِكَ مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ، فَإِنْ بَدَأْتَ بِنَصِيبِكَ مِنْ الْآخِرَةِ مُرَّ بِنَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا، فَانْتَظِمْهَا انْتِظَامًا، وَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا فَاتَكَ نَصِيبُكَ مِنْ الْآخِرَةِ، وَأَنْتَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى خَطَرٍ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جمع الله لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ» . وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] (سورة الذاريات: الآيات 56-58) .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا، وجميع المسلمين لما يحبه لنا وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دائماً إلى يوم الدين.
(1/134)
السياسة الشرعية تعريف وتأصيل
محمد بن شاكر الشريف
حاجاتنا إلى السياسة الشرعية
السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال: 'وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه'
وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، الله من وراء القصد.
ـ السياسة في اللغة:
لفظ 'السياسة' في لغة العرب محمل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو الرئاسة. وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في مادة سوس: 'سست الرعية سياسة' أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه'، وفي لسان العرب في المادة نفسها: 'السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.
والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعتيه'.
والإصلاح في 'السياسة' ليس مجرد هدف أو غاية تسعى السياسة في حركتها لتحقيقه، بل هو السياسة نفسها وحقيقتها، إذا فقدته فقد فقدت نفسها.
ـ السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ 'السياسة' ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ 'السياسة'. وأما السنة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: 'كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ...'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'تسوسهم الأنبياء'؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية'.
ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استخدمت بمعناها اللغوي. وهي تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية.
وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما يراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يتحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: 'لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم'.
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: 'والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها'، ومما ورد في ذلك أيضًا ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون'، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه'، قال ابن حجر: 'ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرمًا'.
والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو محجوزة عن شيء؛ إذ هي 'القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول، ـ بما يصلحه'، فيعمل بنا كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.
ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من استخلافه لعمر رضي الله عنه، وما قام به عمر من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف، وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها مضيعًا لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما افتتنت بعض النساء بجماله ـ من غير ذنب أتاه ـ لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوغ يدعو لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار، والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير مخالفة للشريعة.
ـ السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول:
ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: 'السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن نجيم يحتمل أن يصيب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضًا مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره من أمثلة السياسة.
والاتجاه الثاني:
وهو اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.
وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب: أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره .. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت وقاعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.
وقال بعض علماء الحنفية: 'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'.
وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛ 'إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة، وقال: 'لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه'، وترك تأديب أو تعنيف الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرًا لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع الأيدي أو إقامة الحد في الغزو تأخيرًا للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين'.
وأيضًا فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة من الصحابة، وعمل عمر الديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه ليس من العقوبة في شيء.
ـ السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها على قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة عقلية، وقد بين ذلك ابن خًُلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال: 'فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية'.
وانطلاقًا من تقسيم ابن خُلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة عليه، فيقول: 'الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها'.
وابن خلدون رحمه الله في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب الكلي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال يقترب من الحديث عن 'الأحكام السلطانية'.
ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كلي 'تأصيلي'، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع في الجانبي، تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.
والذي يظهر لي أن عبارة 'السياسة الشرعية' لم تكن مقيدة أولاً بقيد 'الشرعية'؛ انطلاقًا من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيًا إلا بالشرع، فكان إطلاق لفظ 'السياسة' بدون قيد كافيًا في إفادة المطلوب من عبارة 'السياسة الشرعية'، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت 'السياسة' تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة من حد القبول، وتسمى السياسة الشرعية أحيانًا بالسياسة العادلة. وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبَيَّن سببه، فقال: 'لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة ... والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة'.
ويقول ابن القيم رحمه الله: 'ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها'، إلى أن يقول: 'فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله'.
ـ الفقه في السياسة الشرعية:
تواجه السياسة الشرعية نوعين من المسائل:
أحدهما: جاءت فيه نصوص شرعية.
والثاني: لم تأت فيه نصوص بخصوصه.
والفقه في النوع الأول يكون عن طريق:
1ـ فهم النصوص الشرعية فهمًا جيدًا، ومعرفة ما دلت عليه، والتنبه للشروط الواجب توافرها في تطبيق الحكم والموانع التي تمنع من تنفيذه، ثم يلي ذلك تطبيق الحكم وتنفيذه.
2ـ التمييز بين النصوص التي جاءت تشريعًا عامًا يشمل الزمان كله، والمكان كله ـ وهذا هو الأصل في مجيء النصوص ـ، وبين النصوص التي جاءت الأحكام فيها معللة بعلة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفًا موجودًا زمن التشريع، أو نحو ذلك.
والأول يسميه ابن القيم: 'الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة'، بينما يسمي الثاني: 'السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زمانًا ومكانًا'.
ومن مسائل هذه السياسات 'النوع الثاني' منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم عن قوم كان يعطيهم إياه، وذلك لزوال تلك الصفة عنهم، فإنما كانوا يعطون لاتصافهم بهذه الصفة لا لأعيانهم، فلما زالت الصفة منع السهم عنهم، وليس في هذا تغيير للحكم وإنما هو إعمال له، وهو من باب السياسة الشرعية، وكذلك أمر عثمان رضي الله عنه بإمساك ضوال الإبل مع أن المنع من إمساكها مستفاد من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إمساك الإبل فقال: 'ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها ـ ترد الماء وتأكل من الشجر ـ حتى يلقاها ربها'، ومع النظرة الثاقبة في الحديث يتبين دقة فهم عثمان رضي الله عنه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر من كلامه أنه يفتي عن حالة آمنة تأكل فيها الإبل من الشجر وتشرب من الماء، من غير أن يلحقها ضرر حتى يجدها صاحبها، فأما إذا تغير حال الناس ووجد منهم من يأخذ الضالة، صار هذا الحال غير متحقق، فإنها إذا تركت في هذه الحالة لن يجدها صاحبها، ومن هنا أمر بإمساكها وكذلك نقول: لو أن حالة الناس من حيث الأمانة لم تتغير، وإنما كان الناس يعيشون بجوار أرض مسبعة، وكان في تركها هلاك لها حتى يأكلها السبع؛ لكان الأمر بإمساكها هو المتعين حفظًا لأموال المسلمين، وهذا من السياسة الشرعية، والأمثلة في ذلك كثيرة.
والنوع الثاني من المسائل: وهو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن الفقه فيه يكون عن طريق الاجتهاد الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد، والاجتهاد هنا ليس لمجرد تحصيل ما يتوهم أنه مصلحة أو درء ما يتوهم أنه مفسدة، بل هو اجتهاد منضبط بضوابط الاجتهاد الصحيح، وذلك من خلال:
1ـ أن يجري ذلك الاجتهاد في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء مقاصد الشريعة تحقيقًا لها وإبقاء عليها، والاجتهاد الذي يعود على المقاصد الشرعية أو بعضها بالإبطال هو اجتهاد فاسد مردود، وإن ظهر أنه يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة.
2ـ عدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع التفصيلية، إذ لا مصلحة حقيقية ـ وإن ظهرت ببادي الرأي ـ في مخالفة الأدلة الشرعية.
والنوعان الأول والثاني من المسائل قد تحتاج كل منهما ـ وخاصة في هذا العصر ـ لضمان حسن تطبيقه وتنفيذه إلى إنشاء هيئات أو مؤسسات تكون مسؤولة عن التطبيق والتنفيذ، وإنشاء هذه الهيئات أو المؤسسات في ظل موافقة مقاصد الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.
والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى 'استنباط أحكام اجتهادية جديدة تبعًا لتغيير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة أكثر تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد.
ـ السياسة الشرعية والنظم السياسية:
مما تقدم يتبين أن موضوعات السياسة الشرعية كثيرة، وأن أحد موضوعاتها هو التشريعات السياسية التي تسير بمقتضاها الدولة أو بالتعبير القديم 'الأحكام السلطانية'، أو بالتعبير المعاصر 'النظام السياسي'، فإن البحث في النظام السياسي الإسلامي وتطبيقه في الواقع والاجتهاد في تكوين مؤسساته، ووضع النظم واللوائح المنظمة لذلك؛ هو مما يدخل في السياسة الشرعية، ولمكانة هذا الموضوع من السياسة الشرعية؛ فإن بعض أهل العلم المعاصرين قد عرف السياسة الشرعية به فقال: 'فالسياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار؛ مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، والمراد بالشؤون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت 'دستورية' أم مالية أم 'تشريعية' أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية، فتدبير هذه الشؤون، ووضع قواعدها بما يتفق وأصول الشرع هو السياسة الشرعية'، وعلم السياسة الشرعية على ذلك هو 'علم يبحث فيه عما تدبر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص'. ولا شك أن هذا من السياسة الشرعية لكنه جزء من أجزائها كما تقدم، ويدخل في ذلك الرد على الشبه التي تثار حول السياسة الشرعية، وعليه فإن التعرض للنظم المناقضة للنظم الإسلامية وبيان فسادها وبطلانها يدخل في علم السياسة الشرعية.
ـ متطلبات النظر في السياسة الشرعية:
نظرًا لطبيعة السياسة الشرعية على الوجه المتقدم بيانه، فإنه يلزم الناظر فيها والمتفقه أمور منها:
ـ المعرفة التامة بأن الشريعة تضمن غاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها كاملة في هذا الباب صورة ومعنى؛ بحيث لا تحتاج إلى غيرها؛ فإن الله تعالى قد أكمل الدين وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ومنها الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة الإلهية أو النبوية، ومنها المعرفة الواسعة الدقيقة بمقاصد الشريعة، وأن مبناها على تحصيل المصالح الأخروية والدنيوية ودرء المفاسد، ومنها التفرقة بين الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية التابعة للمصالح التي تتقيد بها زمانًا ومكانًا، ومنها المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه، والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية، ومنها دراسة السياسة الشرعية للخلفاء الراشدين والفقه فيها،ومنها معرفة أن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية ليس بمجرد ما يتصور أنه مصلحة وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة شرعًا، ومنها رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضًا عند الاختلاف في مواطن الاجتهاد
النظام السياسي في الإسلام
تعتبر تجربة الخليفة عمر بن عبدالعزيز أول نموذج للإصلاح السياسي بعد عقود من التشويه الذي طال النظام السياسي في الإسلام والمتأمل في تلك المرحلة يرى أن عمر بن عبدالعزيز قد نجح سياسيا بعد توفيق الله له بسبب فهمه الصحيح للنظام السياسي للإسلام وفهمه للواقع الذي يعايشه وبالتالي فهمه للواجب في الأول والممكن في الثاني ولذا كان أول قرار اتخذه هو عزل نفسه من الملك وإرجاع الأمر للشعب الذي بايعه بعد ذلك عن قناعة فهذه الخطوة أعادت الروح للنظام الأصلي ( الشورى ) الذي تم الالتفاف عليه بالوراثة وهذا ينم عن علم بالسنة وتجرد لله ثم اتجه بعد ذلك للتدرج في الإصلاح بنفس طويل مراعاة للناس ونفوذ أمراء بني أمية ولا أجد أفضل من هذا الحوار بينه وبين ابنه عبد الملك لشرح سياسته تلك ( قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تُمْضِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَنْ تَغْلِيَ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ ، فَقَالَ لَهُ : ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرُوضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ ، أُخْرِجُ الْبَابَ مِنَ السُّنَّةِ فأَضَعُ الْبَابَ مِنَ الطَّمَعِ ، فَإِنْ نَفَروَا لِلسُّنَّةِ سَكَنُوا لِلطَّمَعِ ، وَلوْ عُمِّرْتُ خَمْسِينَ سَنَةً لَظَنَنْتُ أَنِّي لا أَبْلُغُ فِيهِمْ كُلَّ الَّذِي أُرِيدُ ، فَإِنْ أَعِشْ أَبْلُغْ حَاجَتِي وَإِنْ مِتُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِي ” ) والملاحظ هنا أن عمر بن عبد العزيز لم يقبل بالوضع المتوارث بشأن نظام الحكم مع أن كثير من أهل العلم قد أجازه بل أصر على إعادة الأمر شورى كما كان في الخلافة الراشدة ولم يغتر بوجودة على رأس السلطة للإندفاع في تطبيق الشريعة بل تدرج بخطوات مدروسة تتماشى مع واقعه وهذا ما جعل نموذج عمر بن عبد العزيز علامة بارزة في التاريخ الإسلامي بالرغم من أن حكمه استمر سنتين ونصف فقط ومع أن الفساد السياسي والإداري قد عاد للدولة بعد وفاته إلا أن تجربته أعطت الأمة ( كتيب إرشادات ) في طريقة الإصلاح السياسي في كل مرحلة تندرس فيها معالم النظام السياسي في الإسلام ويتخبط في فهم واقعه .
الحقيقة أن باب السياسة الشرعية من الأبواب التي لم يعهدها التيار الجهادي وهذا سبب جموده أمام مسائل العصر وهو نفس الموقف الذي مرت به التيارات الأخرى في بداية المد الجهادي إبان الجهاد الأفغاني ضد السوفيت ففتاوى المجدد عبدالله عزام رحمه الله التي أحيت ثقافة الجهاد في الأمة كانت محل استغراب لدى كثير من قيادات العمل الإسلامي آنذاك بل إن الشيخ كان ينقل لبعض العلماء أقوال أئمة مذهبه في فرضية الجهاد والعالم يجهل أن هذا القول هو قول مذهبه ! ونفس الاستغراب يتكرر مع بعض الجماعات الجهادية التي تسعى لأن تكون جزء من مشروع سياسي إسلامي دون وجود ثقافة وإدراك للسياسة الشرعية اللازمة لذلك فلا يكفي فقط التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنتلمس أساليبة السياسية بل يجب جمع ذلك مع نصوص الكتاب والسنة لتتكون لدينا رؤية واضحة لحقيقة وركائز وروح هذا النظام السياسي وما الواجب والمحظور والمقبول فيه وقد وجدت في كتاب الله والكتب الستة أكثر من ٥٠٠ باب وفصل في السياسة وهذا يدحض دعاوى المستشرقين والمتغربين بافتقار الإسلام لنصوص تنظم الحياة السياسية ولست هنا بصدد عرض تلك المواد لأني سأنشرها إن يسر الله لاحقا في كتاب أسميته ( ديوان الوالي ) وإنما القصد من هذا المقال هو الذهاب مباشرة إلى لُب النظام السياسي في الإسلام للتعرف على مفاتيح العمل التي يمكن أن تكون أرضية لمشروع سياسي يؤثر ويتفاعل مع الواقع المعاصر .
تميز العهد النبوي السياسي في المدينة بترسيخ نظام الشورى لأن بساطة أوضاع الجزيرة آنذاك لم تتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم سوى أن يستخلف أو يقر من يرضاه على المدن وأن يأخذ الزكاة ويقسم بين الناس الفيء وأن يرسل لرعاياه من يقضي بينهم ويعلمهم أمور دينهم فلما جاءت خلافة أبي بكر ظهرت أهمية طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين ومن خلال اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة جاء ترشيح خليفة رسول الله ثم دخلت الدولة في مرحلة استثنائية “انتقالية” بسبب حروب الردة ولذا لم تتطور آليات الحكم حتى جاء عهد عمر وجاء الاستقرار فبدأت آليات الحكم تتطور شيئا فشيئا فظهر الديوان وأقر عمر حق الرعية في خلع من لا يرضونه من الولاة وأقر حقوقهم المالية فجعل خراج سواد العراق وقفا للدولة بعد موافقة عامة أهل الشورى وقدم قائمة مرشحين في نهاية عهده ثم جاء عهد عثمان عبر عملية شورى شملت رجال ونساء المدينة في أول اختيار مباشر لرئيس الدولة الإسلامية واستمرت حركة تطوير آليات نظم الحكم في عهد الملك العضوض واندثار الشورى حتى دونت كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب الماوردي وغيره والتي جاء فيها مصطلحات وآليات ونظم حكم لم تكن موجودة من قبل بسبب تطور التجارب البشرية وأساليب سياسة الناس ومصالح الدولة ، ومن هنا يتضح أن المرحلة النبوية جاءت لترسيخ مبدأ الشورى كنظام سياسي ولذا لم نجد فيها الآليات التي ظهرت في مرحلة الخلفاء الراشدين فهي شبيهة بالمرحلة المكية التي ركزت على العقيدة فلما رسخت نزلت الشعائر في المرحلة المدنية، فالضابط في النظام السياسي في الإسلام هو أن الشورى أساسه أما الآليات فهي قابلة للتغيير والتطوير بما يخدم ويسهل عملية الشورى على الناس فنتيجة الشورى التي تتم باجتماع مجلس أهل الحل والعقد في غرفة واحدة هي نفس النتيجة باجتماعهم عبر دائرة اتصال ألكتروني حديثة ولو كانوا متباعدين لأن المعنى هو تبادل الرأي وتقليبه للوصول إلى قرار محدد في مسألة معينة وترشيح عمر بن الخطاب لقائمة مرشحين ثم قيام عبدالرحمن بن عوف بأخذ آراء أهل المدينة في اختيار الخليفة هي نفس النتيجة التي يقدمها ترشيح أهل الحل والعقد لقائمة مرشحين لينتخب الناس منهم رئيسا بالتصويت المباشر.
وللتوضيح أقول أن ما جرى في سقيفة بني ساعدة هو “ترشيح أولي” لأبي بكر من قبل أهل الحل والعقد إلا أنه لم يصبح خليفة إلا بعد مبايعة أهل المدينة في المسجد النبوي وكذا الحال في بيعة عمر التي أتت عبر”ترشيح أولي”من أبي بكر وهو رأس أهل الحل والعقد ثم أصبح خليفة بعد مبايعة العامة والخاصة بعد ذلك ونفس الأمر في ترشيح عمر للستة فعثمان كان مرشحا ضمن عدة أسماء مختارة من رأس أهل الحل والعقد عمر ثم بايعته الأمة بعد ذلك ولولا أن أبا بكر وعمر وعثمان بويعوا بيعة عامة بعد الترشيح الخاص لما صحت بيعتهم وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه .
وهذا النظام هو المتبع أيضا في كثير من الدول في العالم فأي مرشح للرئاسة في الغرب يجب أولا أن يعرض أوراقه على لجنة الانتخابات وهي لجنة من كبار قضاة الدولة تقرر قبول ترشيح الشخص أو رفضه بناء على شروط الترشيح – في إيران تسمى هيئة تشخيص مصلحة النظام والتي مكن المرشد الأعلى من إزاحة الإصلاحيين – والقصد أن هذه “القنطرة” تمكن من ضبط مسار الانتخابات بحيث لا تنتج عنها شخصيات تعارض مبادئ الدولة وهذا الأمر منضبط في نظامنا الإسلامي عبر أهل الحل والعقد الذين يقومون بترشيح أهل الأمانة الموثوق بهم حتى تقوم الأمة بانتخاب من تشاء دون أن تتعرض لعملية اختراق خارجي عبر دعم المرشحين الموالين للخارج كما يحدث في الأنظمة الديمقراطية فحقيقة اهتمام الغرب بنشر الديمقراطية في العالم تنبع من كونها النظام المثالي لاختراق أي بلد عبر دعم بعض الأحزاب وتوجيه الإعلام معهم لإنجاحهم في الانتخابات حتى ينفذوا سياسات الغرب صاحب الفضل في إيصالهم وحماية شرعيتهم بعد ذلك والمطلوب لإعادة هذا النظام الآن هو إعطاء مجلس الحل والعقد حق القيام بالخطوة الأولى وهي ترشيح قائمة أسماء لمنصب الرئاسة ممن يتفق على عدالتهم وكفائتهم ثم تنظم انتخابات مباشرة تمكن الشعب من اختيار حاكمه وهذه وكما أنها الطريقة الأقرب للشرع ففيها أيضا قطع لدعايات شبح الدكتاتورية الذي يرتبط دائما في أذهان الناس بحاكم لم يشاركوا في اختياره كما أن هذه الطريقة تسد الباب أمام الغرب في تحريك العملية الانتخابية لصالحه أو حتى الطعن فيها لأن الجميع يشاهد الناس وهم واقفين طوابير لممارسة حقهم الانتخابي .
والذي أريد قوله هنا هو أن الدور الذي يجب أن تقوم به الحركات الجهادية والقوى المماثلة لها بوصفهم أركان الثورة هو نفس الدور الذي قامت به طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين كانوا قاعدة المشروع الإسلامي فأولئك الرهط الذين كانوا نواة الحكم الإسلامي في المدينة وبعد فتح جزيرة العرب وفارس والروم ومصر وإفريقيا مهمتهم لم تكن الانخراط في الحكم بل المحافظة عليه بحيث لا ينحرف عن خطه الإسلامي ولذا كانوا هم من يشرف على ترشيح الخليفة وهم من تتم مشورتهم في الأمور التي تمس وجود الدولة كحروب الردة وفتح فارس والروم وهم القوة التي تستطيع تقويم الحاكم وعزله إن انحرف دون أن تدخل الدولة في اقتتال داخلي فالمشكلة التي كانت وما زالت تعاني منها الأمة هي طريقة التعامل مع انحرافات الحاكم بدءا من عدم كفائته مرورا بظلمه وانتهاء بكفره فهذه الدوامة هي التي أنتجت الفقة المشوه الذي تأثر بأحداث التاريخ المأساوية فأنتج لنا فكرا شبه جامد لا يقدم آلية واقعية للتعامل مع الحاكم وإنما يجعل الناس تتوه معه حيث تاه أو تجعل الناس مع الحكام كالميت بين يدي مغسله فهذا الفقه الذي ظهر بعد فتنة ابن الأشعث دفع كثير من الفقهاء لتغليب منع الخروج على الحكام الظلمة ثم تطور بمن بعدهم لمنع ما دون الخروج كالإنكار والنصح والمسائلة مع أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون وينصحون ويسائلون الخلفاء الراشدين في شؤون الحكم المتنوعة وحتى أقرب صورة المسألة أقول لو أن الشعب السوري مباشرة أو عبر ممثليه اختار رئيسا للبلاد ثم بعد سنين وبعد أن دانت له البلاد واستقرت له الأمور تغير فضيع البلد وكثر ظلمه أو كفر وخرج من الإسلام بموالاة إسرائيل مثلا فإن كانت الأولى فالناس لن تصبر حتى تثور مرة أخرى وإن كانت الثانية فأهل الدين لن يصبروا حتى يجاهدوه فنعود لنقطه الصفر خاصة إن استعان بالأنظمة الحليفة ضد معارضيه وشعبه كما هو السائد في المنطقة، أما في عهد الخلافة الراشدة فقد كانت هناك آلية مرنة وواقعية تتيح تقويم انحرافات الحاكم إن ظلم وعزله إن تعدى ظلمه أو كفر وذلك عبر وجود طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كقوة مستقلة لها خصوصية وفضل ومرهوبة الجانب ومسموعة الكلمة لدى الحاكم والشعب على حد السواء فهذه الطبقة التي أتت بفعل الأحداث لا بفعل الحاكم كما في تعيينه للولاة لا يمكن له تجاوزهم او فرض رأيه عليهم فيما يخالف الخطوط الحمراء من الدين أو الصالح العام فهذه الطبقة كانت بحق صمام أمان للدولة ولم يتغير ذلك إلا بعد ذهاب عهد الخلافة وبداية عهد الملك العضوض الذي تفرد فيه الحاكم بالسلطة فأصبح الخروج عليه مهلكة من المهالك سواء كان سفاح ظالم أو زنديق كافر ! ولذا يجب أن يعود دور تلك الطبقة في ضبط مسار الدولة كي يأمن الناس غائلة انحراف الحكام ولكيلا يفتنوا بالأنظمة الغربية التي تتيح عزل الحكام ومحاسبتهم عند أدنى خطأ بينما هم يضطروا لخوض برك من الدماء لعزل حكامهم بجانب الدمار والأعراض المنتهكة وفي حالة الثورة السورية مثلا نجد أن الطبقة المشابهة لطبقة السابقين من المهاجرين والأنصار “عمليا” هم قادة الفصائل الإسلامية أصحاب المشروع الإسلامي الذي يرتكز على إقامة شرع الله بمفهومه الشامل فهؤلاء هم “القوة العقدية” التي يجب أن تحافظ على مسار الدولة لا أن تنخرط في مسؤولياتها الإدارية وهو نفس الدور الذي مارسه { السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الذين مدحهم الله في كتابه ومنع عمر بن الخطاب خروجهم من عاصمة الخلافة لأهمية دورهم، فدولة الخلافة لم تعتريها الفتن إلا بعد أن سمح عثمان بن عفان لكبار الصحابة بالخروج من المدينة والانسياح في بقية مناطق الدولة فهنا وجد أهل الفتن مناخ يتيح لهم زعزعة مركز الدولة بعد أن خلت العاصمة من قوة دينية متماسكة مستقلة مرهوبة الجانب تحسم أي نزاع بخصوص نزع شرعية الخليفة.
والحقيقة أن هذه الطبقة موجودة أيضا في كثير من البلدان المعاصرة فشعوب العالم وبعد مراحل من التجربة البشرية في أنظمة الحكم توصلوا لضرورة وجود “قوة عقدية” تحمي مبادئ الشعب التي ثار من أجلها على الملوك والطغاة وهذه القوة تسمى بعرف الثورات مجلس قيادة الثورة أو اللجان الثورية أو الحرس الثوري وما شابه فهذه القوة المستقلة عن أجهزة الدولة مهمتها مراقبة مسار الدولة ومدى ثباتها على مبادئ الثورة التي يعتبر الانحراف عنها سببا شرعيا لاعتقال وعزل ومحاكمة أعضاء السلطة وهو دور مقارب لما كان يفعله الجيش التركي في مراقبته لالتزام الرؤساء بعلمانية الدولة والتجارب البشرية تختلف أيضا في تطور هذه القوة بداخلها فبعضها نجح بعد عدة حروب وتجارب لتحويل هذه القوة العقدية لقوانين ثابتة يحترمها الشعب ويحرسها نظام الدولة بمؤسسات رقابية مستقلة ومنتخبة كما حدث لدى شعوب الغرب وبعضها تحولت هذه القوة بداخله لمستبد آخر كما حدث في كوبا أو لمستبد مأجور لقوى خارجية كما حدث في ثورة الجزائر أما الثورة الإيرانية فقد ركز الخميني القوة العقدية في يده عبر فكرة “ولاية الفقيه” التي مكنته من المحافظة على الخط الشيعي للدولة دون أن تتأثر بسياسات الرؤساء المنتخبين من الشعب .
ولهذه الاعتبارات يجب أن يهتم قادة المشروع الإسلامي بتشكيل مجلس قيادة للثورة بميثاق واضح ومحدد ليكون بمثابة القوة العقدية التي تحمي وجود النظام الإسلامي وتحسم مسائل الانحراف ونزع الشرعية عن الحاكم عبر أي آلية تتيح لها ذلك كالمحكمة العليا التي تسري أحكامها على الرئيس في الدول الحديثة فوجود مثل هذه المحكمة في الأنظمة القمعية لا قيمة له بسبب سطوة الحاكم أما وجودها في ظل حماية قوة شرعية مستقلة يعطيها الحق في النظر في تلك الدعاوى ويعطي مجلس قيادة الثورة الشرعية في تنفيذ الحكم فهذا الوضع سيمنح قادة المشروع الإسلامي وضع إشرافي “دائم” على توجيه دفة البلد دون التعرض لانتقادات الاستئثار بالسلطة وسيمنحهم مرونة في ترتيب وهضم العملية السياسية دون الوقوع في فخ السخط الشعبي جراء الفشل أو أي حصار اقتصادي يفرضه الغرب لاجهاض الحكم الإسلامي فوجود حكومة منتخبة من الشعب يجعله يتحمل خياره ويسحب الفرصة من الغرب في تأليب الناس على النظام الإسلامي ويجعله بعيدا عن أن يمس بمثل هذه التكتيكات التي يمارسها الغرب كثيرا مع الإسلاميين .
الثابت والمتغير في النظام السياسي للإسلام
رفض النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء عامر بن الطفيل الخلافة من بعده مقابل النصرة وقبوله إسلام النجاشي بالرغم من عدم دعوته لقومه للإسلام وعدم الحكم به وشطبه لعبارة بسم الله الرحمن الرحيم ولعبارة محمد رسول الله من أجل تمرير اتفاقية الحديبية وقوله أنه لو دعي لحلف كحلف الفضول قبل الإسلام لنصرة المظلوم لقبل به وقوله لقريش .( أما والله لا يدعوني اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمة ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتهم إليها ) هذه المواقف وغيرها كثير توضح أن هناك ركائز وخطوط حمراء ومساحات مرونة للنظام السياسي في الإسلام يجب فهمها لنعرف أين نقف ونتحرك سياسيا مهما اختلف الزمان والمكان فالإسلام الدين الوحيد الذي جعله الله صالح لكل زمان ومكان والإرتباك الذي يقع في أي مرحلة تجاه التطور الحضاري للبشرية يرجع للخلل في فهم الدين وليس في عجز الدين عن التعامل مع الواقع ومن أوائل من وضع يده على هذا الجرح هو الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين حيث قال ( هذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك في معترك صعب ، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل ، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها ، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل ، وفساد عريض ، وتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله ، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض ، فإذا ظهرت أمارات الحق ، وقامت أدلة العقل ، وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره ، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها . والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها ، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ؟ )
الحقيقة أن من يفهم الفقرة الذهبية السابقة لابن القيم سيدرك تلقائيا أبعاد العمل السياسي في الإسلام ويخرج من المغالطة الفكرية التي تقول بأن أي عمل سياسي يجب أن يكون له نموذج في السنة ! فالإسلام لم يأت بنظام محدد للحكم وإنما بمبادىء ثابتة لا تتغير مع تغير العصور فالأساس الذي لا يتغير هو قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) أما كيف تتم هذه الشورى فهذا يتغير من عصر لآخر لأنه مرتبط بتطور ثقافة وطرق حياة البشر فكما أن الإسلام دين لا يتصادم مع الفطرة البشرية فهو أيضا لا يعارض نتائج التجربة البشرية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تعليمية بشرط ألا تخالف الشرع وهذا المعنى هو ما أكد عليه ابن عقيل في مناظرته المذكورة في كتاب الطرق الحكمية ( ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإذا أردت بقولك : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، أي : لم يخالف ما نطق به الشرع ؛ فصحيح . وإن أردت ما نطق به الشرع ، فغلط ، وتغليط للصحابة ) فركائز النظام السياسي في الإسلام والتي أتت بها النصوص الشرعية تدور حول أن الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع وأن الأمة هي صاحبة السلطة وأن الإمام وكيل عنها وأن لها حق الرقابة عليه وأن الشورى هي العملية السياسية التي يتم من خلالها إخراج قرارات الدولة وفق ما سبق وهذه الآلية التي أتى بها الإسلام هي ما توصل إليه الغرب بعد تجارب سياسية طويلة عبر عهود حكم الكنيسة والإقطاعيين والملوك ثم ظهور الثورات والدول القومية الحديثة، فالقرار في الأنظمة الغربية يخرج وفق النظام الديمقراطي الذي ينظم العلاقة بين الدستور والبرلمان والحكومة إلا أن الفرق بين الشورى والديمقراطية هو أن الأولى يكون مصدر التشريع فيها الشريعة الإسلامية حصرا أما الديمقراطية فالشعب هو مصدر التشريع ولذا فالشورى والديمقراطية تتفق في بعض الآليات كالتصويت والرقابة وتختلف في مصدر التشريع في كل منها بمعنى أنه لو أخذنا الديمقراطية ونزعنا منها حق التشريع للبشر وأثبتناه للشريعة لأصبح نظام أشبه بالشورى ولا يضر أن يسميه البعض حينئذ ديمقراطية لأن العبرة بالجوهر كما قال عمر بن الخطاب عندما رضي بطلب نصارى تغلب بتغيير اسم الجزية إلى صدقة حتى لا يشعروا بالمهانة فقال ( سموها ما شئتم ) وفي رواية قال ( القوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الإسم ) وحتى على مستوى مبادئ النظام نجد أن قوانين الحكم والتعايش الإنساني في الإسلام هي أساس بعض ما توصلت إليه شعوب الغرب بعد قرون من الصراعات الفكرية كمثل ( العدالة الإجتماعية – حق الاختيار – المحاسبة – فصل السلطات – استقلال القضاء – حرية التعبير – تداول السلطة ) وغيرها فأساس هذه الأفكار موجود في شريعتنا بل إن هناك دراسة نشرت مؤخرا في أمريكا تشير إلى أن بعض أفكار وثيقة الإستقلال التي شارك في صياغتها المؤسس جونسون كانت مستمدة من نسخة ترجمة القرآن الخاصة به .
متى تكون الدولة إسلامية ؟
قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ تضمنت هذا الآية أهم البنود التي تذكر عادة في الدساتير المعاصرة والتي تعلن بها عقيدة الدولة ( والذين استجابوا لربهم ) ونظامها السياسي ( وأمرهم شورى بينهم ) والاقتصادي ( ومما رزقناهم ينفقون ) فأي دستور لأي دولة يجب أن يحدد أولا عقيدة الدولة سواء علمانية أو مسيحية أو إسلامية ثم نظامها السياسي هل هو ديمقراطي أو ملكي وغيره ثم نظامها الاقتصادي هل هو رأسمالي أو اشتراكي أو يجمع بينهما وهذا الأمر لم تحتج إليه البشرية سابقا لأن أنظمة الحكم لم تكن متطورة إداريا كما هو الآن في الدول الحديثة التي يرتبط كل شيء فيها بنظامها المعلن في الدستور وحتى بالنسبة للمسلمين الأكثر تطورا بين الأمم آنذاك لم تكن هناك حاجة للتعريف بالدولة إلا ما جاء في الفقه من أحكام الديار دار إسلام ودار كفر والتي زاد عليها ابن تيمية دار مركبة في مسألة ( ماردين ) أما مع التطور الحضاري في العصر الحديث فقد ظهرت أهمية تحديد عقيدة الدولة وأنظمتها لأنها العناوين الرئيسية التي تشكل شخصية الدولة وبالتالي تشكل شخصية الشعب دينيا وثقافيا واقتصاديا وهذا سبب محاربة الغرب لمحاولات الإسلاميين صياغة دستور إسلامي لأن وجود دستور إسلامي تحت حكم العسكر كما في باكستان لا ينتج عنه شيء ووجود إسلاميين في السلطة دون وجود دستور إسلامي كما في تركيا أمكن سابقا تداركه بالانقلابات ولكن وجود دستور إسلامي وحكومة إسلامية هو الذي يشكل خطر على الغرب لأنه يمهد لعودة الشخصية الإسلامية لمجالات الحياة المختلفة تلك الشخصية التي يخشى الغرب أن تجدد عصر النهضة الإسلامية فالمسلمين على مر العصور مروا بمراحل صعود وبمراحل انحطاط ولكن كان هناك دوما شخصية تدفعهم للأمام وهي ما يحرص الغرب على طمسها فينا خاصة بعد مرحلة الإستشراق التي تمكن من خلالها من فهم العالم الإسلامي .
ولذا نستطيع القول بأن العلامة التي جعلها الفقهاء قديما مقياسا للحكم على الديار بأنها دار إسلام وهي ( عُلو أحكام الإسلام فيها ) تنطبق في العصر الحديث على الدولة التي تنص على ذلك في دستورها بشكل واضح ولا يلغي هذا الوصف ما تتلبس به من مخالفات من عهد لآخر والحديث هنا عن وصف الدولة وليس وصف الحاكم الذي يكفي فيه حديث ( إلا أن تروا كفرا بواحا ) فالبلدان الإسلامية منذ الخلافة الأولى في عهد أبي بكر إلى الدولة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية وما تخللها وعاش في ظلها من دويلات كانت تدين بالإسلام كنظام حياة وحكم وهذا المبدأ لم يتغير رغم كم المخالفات الشرعية الجسيمة كالفساد المالي الذي ورثه الخليفة عمر بن عبد العزيز أو الفساد الفكري كقضية خلق القرآن التي تم تبنيها في عهد المأمون أو الفساد الأخلاقي الذي عشش في قصور حكام الأندلس وحتى على مستوى التغيرات التي طرأت على النظام السياسي في الإسلام ( الشورى ) مع بداية نظام التوريث في عهد بني أمية ثم شعار الرضا من آل محمد الذي مهد لحكم العباسيين ثم بروز القوة العسكرية والسياسية التي تحكم من خلف الستارة بعد تراجع مركز الخليفة وتحوله لمنصب شكلي كبني بويه والسلاجقة والأيوبيين والمماليك وغيرهم ثم بداية عهد نظم الحكم الحديثة وكتابة الدستور وتنظيم القوانين ومجلس ممثلي الشعب في أواخر العهد العثماني فمع كل هذه التطورات التي طرأت على النظام السياسي ظلت البلدان الإسلامية تدين بالإسلام كنظام حكم وحياة وهذا الأمر لم يتغير إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وفرض بريطانيا لبند إلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية في معاهدة ( لوزان ) ١٩٢٣ فمنذ ذلك بدأت الدولة القومية العلمانية بالظهور وبدأ واقع جديد لم يعهده المسلمون وتكرس وجوده بعد الحرب العالمية الثانية التي أنتجت النظام الدولي المعاصر ولذا أي حرب أو صراع ينتج عنه إعادة وضع الإسلام كنظام للحكم والحياة والتسليم بذلك بنص واضح في دستور الدولة يعيد نفس السقف الشرعي الذي تعايش تحته المسلمون لأكثر من ألف عام منذ العهد الأموي إلى نهاية العهد العثماني مهما اندرج تحته من فساد فكري أو مالي أو أخلاقي ومهما ابتعد عن منهج الشورى فما دام نظام الدولة يقر بأن الشريعة مصدر التشريع الوحيد ويبطل كل قانون يخالفها فالمناخ السياسي هنا هو إسلامي مهما تلطخ بقرارات أو مظالم قد يتواطأ عليها مسؤولي الدولة بالتحايل أو الاستبداد إلا أن نظام الدولة الإسلامي لا يقرها لأنها مخالفة للشريعة الإسلامية مصدر التشريع فتظل بذلك فرصة نقض هذه القرارات متاحة مهما طال الزمن أو حماها المستبد ولعل في حديث بريرة الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بأن تؤدي ثمن إعتاق بريرة لأهلها وتقبل باشتراط الولاء لهم مع تأكيده بأن الولاء لمن أعتق وأن أي شرط ليس في كتاب الله فهو باطل دليل على أن المخالفة الشرعية قد يلجأ للتعايش معها لظرف ما إلا أن وجود قانون أعلى ( كتاب الله ) يجعلها تحت تهديد النقض متى ما تبدلت الظروف التي ولدتها وهذا يمكن اعتباره في مجلس الشورى الذي قد يصدر عنه مخالفات شرعية ولكن وجود قانون أعلى وهو الدستور الإسلامي يتيح إزالة هذه المخالفات لأن نظام الدولة هنا يستوعب واقعية ضغط الواقع ويصحح نفسه تلقائيا بعكس الدساتير التي لا تهيمن عليها الشريعة لأن المخالفات حينئذ تأخذ صفة قانونية دائمة وهذا هو الفرق بين النظام الذي أتاح للخليفة عمر بن عبد العزيز التعايش مع المخالفات التي ورثها والتدرج في إصلاحها وبين النظام الذي لا يعترف بحق الشريعة في ذلك فالأول إسلامي والثاني علماني
السياسة الشرعية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أرسل رسله بالبينات والهدى، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ؛ وَخَتَمَهُمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي أَرْسَلَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ، لِيَظْهَرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ؛ وَأَيَّدَهُ بِالسُّلْطَانِ النَّصِيرِ، الْجَامِعِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْقَلَمِ لِلْهِدَايَةِ وَالْحُجَّةِ؛ وَمَعْنَى الْقُدْرَةِ وَالسَّيْفِ لِلنُّصْرَةِ وَالتَّعْزِيرِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، شهادة خالصة أخلص من الذَّهَبِ الْإِبْرِيزِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيرا، شهادة يَكُونُ صَاحِبُهَا فِي حِرْزٍ حَرِيزٍ. (أَمَّا بَعْدُ) فَهَذِهِ رِسَالَةٌ مُخْتَصَرَةٌ (1) فِيهَا جَوَامِعُ مِنْ السِّيَاسَةِ الإلهية والآيات النَّبَوِيَّةِ، لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةُ، اقْتَضَاهَا مَنْ أَوْجَبَ اللَّهُ نُصْحَهُ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما ثبت عنه من غير وجه في صحيح مسلم وغيره: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تناصحوا من ولاه الله أمركم» . وهذه الرسالة مبنية على آيتين في كتاب الله: وهما قوله تعالى:
_________
(1) تسمى " السياسة الشرعية " كتبها في ليلة لما سأله الإمام أن يعلق له شيئا من أحكام الرعايا، وما ينبغي للمتولي - هذا التعليق في الفتاوى (28 / 244) .
(1/5)
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 58 - 59] (سورة النساء: الآيتان 58، 59) . قَالَ الْعُلَمَاءُ: نَزَلَتْ الْآيَةُ الْأُولَى فِي وُلَاةِ الْأُمُورِ؛ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَإِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ أَنْ يَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، وَنَزَلَتْ الثَّانِيَةُ فِي الرَّعِيَّةِ مِنْ الْجُيُوشِ وَغَيْرِهِمْ، عَلَيْهِمْ أَنْ يُطِيعُوا أُولِي الْأَمْرِ الْفَاعِلِينَ لِذَلِكَ فِي قَسْمِهِمْ وَحُكْمِهِمْ وَمَغَازِيهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إلَّا أن يأمروا بمعصية الله، فإذا أمروا بمعصية الله فَلَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ فَإِنْ تَنَازَعُوا فِي شَيْءٍ رَدُّوهُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ وُلَاةُ الْأَمْرِ ذَلِكَ، أُطِيعُوا فِيمَا يأمرون به من طاعة الله ورسوله، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَأُدِّيَتْ حقوقهم إليهم كما أمر الله ورسوله، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] (سورة المائدة: من الآية 2) . وَإِذَا كَانَتْ الْآيَةُ قَدْ أَوْجَبَتْ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا، وَالْحُكْمَ بِالْعَدْلِ: فَهَذَانِ جِمَاعُ السِّيَاسَةِ العادلة، والولاية الصالحة.
(1/6)
[فصل أنواع أداء الأمانات]
[القسم الأول الولايات]
فصل أما أداء الأمانات ففيه نوعان: أحدهما الولايات: وهو كان سبب نزول الآية. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ وَتَسَلَّمَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ بَنِي شَيْبَةَ، طَلَبَهَا مِنْهُ الْعَبَّاسُ، لِيَجْمَعَ لَهُ بَيْنَ سِقَايَةِ الْحَاجِّ، وَسَدَانَةِ الْبَيْتِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآية، فدفع مَفَاتِيحِ الْكَعْبَةِ إلَى بَنِي شَيْبَةَ. فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُوَلِّيَ عَلَى كُلِّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ، أَصْلَحَ مَنْ يَجِدُهُ لِذَلِكَ الْعَمَلِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَوَلَّى رَجُلًا وَهُوَ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «من ولى رجلاً عَلَى عِصَابَةٍ، وَهُوَ يَجِدُ فِي تِلْكَ الْعِصَابَةِ من هو أرضى لله منه، فقد خان الله ورسوله وَخَانَ الْمُؤْمِنِينَ» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ. وَرَوَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ: لِابْنِ عُمَرَ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا فَوَلَّى رَجُلًا لِمَوَدَّةٍ أَوْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ ". وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ. فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْبَحْثُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلْوِلَايَاتِ مِنْ نُوَّابِهِ عَلَى الْأَمْصَارِ؛ مِنْ الْأُمَرَاءِ الذين هم نواب ذي السلطان، والقضاة، ونحوهم، ومن أمراء الأجناد ومقدمي العساكر الصغار وَالْكِبَارِ، وَوُلَاةِ الْأَمْوَالِ: مِنْ الْوُزَرَاءِ، وَالْكُتَّابِ، وَالشَّادِّينَ، وَالسُّعَاةِ عَلَى الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الَّتِي لِلْمُسْلِمِينَ. وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ، أَنْ يَسْتَنِيبَ وَيَسْتَعْمِلَ أَصْلَحَ مَنْ
(1/7)
يَجِدُهُ؛ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ إلَى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ وَالْمُؤَذِّنِينَ، والمقرئين، والمعلمين، وأمراء الْحَاجِّ، وَالْبُرُدِ، وَالْعُيُونِ الَّذِينَ هُمْ الْقُصَّادُ، وَخُزَّانِ الْأَمْوَالِ، وَحُرَّاسِ الْحُصُونِ، وَالْحَدَّادِينَ الَّذِينَ هُمْ الْبَوَّابُونَ عَلَى الْحُصُونِ وَالْمَدَائِنِ، وَنُقَبَاءِ الْعَسَاكِرِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ، وَعُرَفَاءِ الْقَبَائِلِ وَالْأَسْوَاقِ، وَرُؤَسَاءِ الْقُرَى الَّذِينَ هُمْ " الدهاقين ". فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ، أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِيمَا تَحْتَ يَدِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ أَصْلَحَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَدِّمُ الرَّجُلَ لِكَوْنِهِ طلب الولاية، أو سبق في الطلب؛ بل يكون ذلك سبباً للمنع؛ فإن في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن قوماً دخلوا عليه فسألوه ولاية؛ فَقَالَ: إنَّا لَا نُوَلِّي أَمْرَنَا هَذَا مَنْ طَلَبَهُ» . «وَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ: " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ! لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ، فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا؛ وَإِنْ أعطيتها عن مسألة وكلت إليها» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ؛ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عليه؛ أنزل الله عليه مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ الْأَحَقِّ الْأَصْلَحِ إلَى غَيْرِهِ، لِأَجْلِ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ وَلَاءِ عَتَاقَةٍ أَوْ صَدَاقَةٍ، أَوْ مرافقة فِي بَلَدٍ أَوْ مَذْهَبٍ؛ أَوْ طَرِيقَةٍ، أَوْ جنب: كَالْعَرَبِيَّةِ، وَالْفَارِسِيَّةِ، وَالتُّرْكِيَّةِ، وَالرُّومِيَّةِ، أَوْ لِرِشْوَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ مِنْ مَالٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ، أَوْ لِضِغْنٍ فِي قَلْبِهِ عَلَى الْأَحَقِّ، أَوْ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا: فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، وَدَخَلَ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] (سورة الأنفال: الآية 27) . ثُمَّ قَالَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28] (سورة الأنفال: الآية 28) .
(1/8)
فَإِنَّ الرَّجُلَ لِحُبِّهِ لِوَلَدِهِ، أَوْ لِعَتِيقِهِ، قَدْ يُؤْثِرُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ، أَوْ يُعْطِيهِ مَا لا يستحقه؛ فيكون قد خان أمانته؛ وكذلك قَدْ يُؤْثِرُهُ زِيَادَةً فِي مَالِهِ أَوْ حِفْظِهِ؛ بِأَخْذِ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ، أَوْ مُحَابَاةَ مَنْ يُدَاهِنُهُ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ، فَيَكُونُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَخَانَ أَمَانَتَهُ. ثُمَّ إنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَمَانَةِ مَعَ مُخَالَفَةِ هَوَاهُ، يُثَبِّتُهُ اللَّهُ فَيَحْفَظُهُ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ بَعْدَهُ، وَالْمُطِيعُ لِهَوَاهُ يُعَاقِبُهُ اللَّهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ فَيُذِلُّ أَهْلَهُ، وَيُذْهِبُ مَالَهُ. وَفِي ذَلِكَ الْحِكَايَةُ الْمَشْهُورَةُ: أَنَّ بَعْضَ خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ، سَأَلَ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُحَدِّثَهُ عَمَّا أَدْرَكَ، فَقَالَ: أَدْرَكْت عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العزيز، قيل لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْفَرْت أَفْوَاهَ بَنِيك مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَتَرَكْتَهُمْ فُقَرَاءَ لَا شَيْءَ لَهُمْ -وَكَانَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ- فَقَالَ: أَدْخِلُوهُمْ علي، فأدخلوهم: وهم بِضْعَةَ عَشَرَ ذَكَرًا، لَيْسَ فِيهِمْ بَالِغٌ، فَلَمَّا رآهم ذرفت عيناه، ثم قال لهم: يَا بَنِيَّ وَاَللَّهِ مَا مَنَعْتُكُمْ حَقًّا هُوَ لَكُمْ، وَلَمْ أَكُنْ بِاَلَّذِي آخُذُ أَمْوَالَ النَّاسِ فَأَدْفَعُهَا إلَيْكُمْ؛ وَإِنَّمَا أَنْتُمْ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إمَّا صَالِحٌ، فَاَللَّهُ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ؛ وَإِمَّا غَيْرُ صَالِحٍ، فلا أخلف لَهُ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ، قوموا عني. قال: فلقد رأيت بعض بنيه، حَمَلَ عَلَى مِائَةِ فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، يَعْنِي أَعْطَاهَا لِمَنْ يَغْزُو عَلَيْهَا. قُلْت: هَذَا وَقَدْ كَانَ خَلِيفَةُ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ: بِلَادِ التُّرْكِ، إلَى أَقْصَى الْمَغْرِبِ: بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ وَغَيْرِهَا، وَمِنْ جَزَائِرِ قُبْرُصَ وَثُغُورِ الشَّامِ وَالْعَوَاصِمِ كَطَرَسُوسَ وَنَحْوِهَا، إلَى أَقْصَى الْيَمَنِ. وَإِنَّمَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ، مِنْ تَرِكَتِهِ شَيْئًا يَسِيرًا، يُقَالُ: أَقَلُّ مِنْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا- قَالَ وَحَضَرْتُ بَعْضَ الْخُلَفَاءِ وَقَدْ اقْتَسَمَ تَرِكَتَهُ بَنُوهُ، فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتَّمِائَةِ أَلْفِ
(1/9)
دِينَارٍ: وَلَقَدْ رَأَيْت بَعْضَهُمْ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ -أَيْ يَسْأَلُهُمْ بِكَفِّهِ- وَفِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْحِكَايَاتِ وَالْوَقَائِعِ الْمُشَاهَدَةِ فِي الزَّمَانِ، وَالْمَسْمُوعَةِ عَمَّا قَبْلَهُ؛ مَا فِيهِ عِبْرَةٌ لِكُلِّ ذِي لُبٍّ. وَقَدْ دَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ الْوِلَايَةَ أَمَانَةٌ يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي مَوَاضِعَ: مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِ لِأَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الْإِمَارَةِ: «إنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إلَّا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فيهما» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ضيعت الأمانة، فانتظر الساعة. قيل يا رسول الله: وما إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر السَّاعَةَ» . وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى مَعْنَى هَذَا؛ فَإِنَّ وَصِيَّ الْيَتِيمِ، وَنَاظِرَ الْوَقْفِ، وَوَكِيلَ الرَّجُلِ فِي مَالِهِ؛ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَرَّفَ لَهُ بِالْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] (سورة الإسراء: من الآية 34) . وَلَمْ يَقُلْ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ حَسَنَةٌ. وَذَلِكَ لِأَنَّ الْوَالِيَ رَاعٍ عَلَى النَّاسِ بِمَنْزِلَةِ رَاعِي الْغَنَمِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْوَلَدُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ وَالْعَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ أَلَا فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رعيته» . أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ رَاعٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لَهَا، إلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَدَخَلَ أَبُو مُسْلِمٍ الْخَوْلَانِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أبي سفيان، فقال: السلام
(1/10)
عليكم أَيُّهَا الْأَجِيرُ؛ فَقَالُوا: قُلْ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الأمير. فقال السلام عليك أيهما الْأَجِيرُ. فَقَالُوا: قُلْ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالُوا قُلْ السلام عليك أَيُّهَا الْأَمِيرُ. فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا الْأَجِيرُ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ. دَعُوا أَبَا مُسْلِمٍ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ، فَقَالَ إنَّمَا أَنْتَ أَجِيرٌ اسْتَأْجَرَك رَبُّ هَذِهِ الْغَنَمِ لِرِعَايَتِهَا؛ فَإِنْ أَنْتَ هَنَّأَتْ جَرْبَاهَا، وَدَاوَيْت مَرْضَاهَا، وَحَبَسْت أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا: وَفَّاك سَيِّدُهَا أَجْرَك، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَهْنَأْ جَرْبَاهَا وَلَمْ تُدَاوِ مَرْضَاهَا؛ وَلَمْ تَحْبِسْ أُولَاهَا على أخراها عاقبك سيدها. وهذا ظاهر في الاعتبار: فإن الخلق عباد الله، والولاة نُوَّابُ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهُمْ وُكَلَاءُ الْعِبَادِ على نفوسهم؛ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مَعَ الْآخَرِ؛ فَفِيهِمْ مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالْوَكَالَةِ؛ ثُمَّ الْوَلِيُّ وَالْوَكِيلُ مَتَى اسْتَنَابَ فِي أُمُورِهِ رَجُلًا، وَتَرَكَ مَنْ هُوَ أَصْلَحُ للتجارة أو العقار مِنْهُ، وَبَاعَ السِّلْعَةَ بِثَمَنٍ، وَهُوَ يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِيهَا بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ؛ فَقَدْ خَانَ صَاحِبَهُ، لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ بَيْنَ مَنْ حاباه وبينه مودة أو قرابة، فإن صاحبه يبغضه ويذمه، ويرى أنه قد خانه وداهن قريبه أو صديقه.
(1/11)
[الأصلح هو الأولى]
إذا عرف هذا، فليس عليه أَنْ يَسْتَعْمِلَ إلَّا أَصْلَحَ الْمَوْجُودَ، وَقَدْ لَا يكون في موجوده من هو أصلح لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ، فَيَخْتَارُ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ فِي كُلِّ منصب بحسبه، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ، وَأَخْذِهِ لِلْوِلَايَةِ بِحَقِّهَا، فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ، وَقَامَ بِالْوَاجِبِ فِي هَذَا، وَصَارَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ أئمة العدل المقسطين عِنْدَ اللَّهِ؛ وَإِنْ اخْتَلَّ بَعْضُ الْأُمُورِ بِسَبَبٍ مِنْ غَيْرِهِ، إذَا لَمْ يُمْكِنْ إلَّا ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) . وَيَقُولُ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] (سورة البقرة: من الآية 286) وقال في الجهاد في سبيل الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 84] (سورة النساء: من الآية 84) . وَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) . فَمَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ الْمَقْدُورَ عَلَيْهِ فَقَدْ اهْتَدَى: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . أَخْرَجَاهُ في الصحيحين؛ لكن إن كان منه عجز بلا حَاجَةَ إلَيْهِ، أَوْ خِيَانَةٌ عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ الْأَصْلَحَ فِي كُلِّ مَنْصِبٍ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ لَهَا رُكْنَانِ: الْقُوَّةُ وَالْأَمَانَةُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] (سورة القصص: من الآية 26) . وَقَالَ صَاحِبُ مِصْرَ لِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] (سورة يوسف: من الآية 54) . وَقَالَ تَعَالَى فِي صِفَةِ جِبْرِيلَ: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ - ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ - مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 19 - 21] (سورة التكوير: الآيات 19-21) .
(1/12)
وَالْقُوَّةُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ بِحَسَبِهَا؛ فَالْقُوَّةُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ تَرْجِعُ إلَى شَجَاعَةِ الْقَلْبِ، وَإِلَى الخبرة بالحروب، والخادعة فِيهَا، فَإِنَّ الْحَرْبَ خُدْعَةٌ، وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى أَنْوَاعِ الْقِتَالِ: مِنْ رَمْيٍ وَطَعْنٍ وَضَرْبٍ وَرُكُوبٍ، وكر، وفر، ونحو ذلك؛ كما قال الله تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] (سورة الأنفال: من الآية 60) . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ارْمُوا وَارْكَبُوا، وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا، وَمَنْ تَعَلَّمَ الرَّمْيَ ثُمَّ نَسِيَهُ فَلَيْسَ مِنَّا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَهِيَ نِعْمَةٌ جَحَدَهَا» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَالْقُوَّةُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ تَرْجِعُ إلى العلم بالعدل الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِلَى الْقُدْرَةِ عَلَى تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ. وَالْأَمَانَةُ تَرْجِعُ إلَى خَشْيَةِ اللَّهِ، وَأَلَّا يَشْتَرِيَ بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا، وَتَرْكِ خشية الناس؛ وهذه الخصال الثلاث التي أخذها الله على كل من حَكَمٍ عَلَى النَّاسِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] (سورة المائدة: من الآية 44) . وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: قَاضِيَانِ فِي النَّارِ، وَقَاضٍ فِي الْجَنَّةِ. فَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِخِلَافِهِ، فَهُوَ في النار. لرجل قَضَى بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ وَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَالْقَاضِي اسْمٌ كل مَنْ قَضَى بَيْنَ اثْنَيْنِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، سَوَاءٌ كان
(1/13)
خَلِيفَةً، أَوْ سُلْطَانًا، أَوْ نَائِبًا، أَوْ وَالِيًا؛ أَوْ كَانَ مَنْصُوبًا لِيَقْضِيَ بِالشَّرْعِ، أَوْ نَائِبًا له، حتى من يَحْكُمَ بَيْنَ الصِّبْيَانِ فِي الْخُطُوطِ، إذَا تَخَايَرُوا. هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وهو ظاهر.
(1/14)
[فصل القوة والأمانة هما المطلوب في الشرع]
فصل اجْتِمَاعُ الْقُوَّةِ وَالْأَمَانَةِ فِي النَّاسِ قَلِيلٌ، وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَشْكُو إلَيْكَ جَلَدَ الْفَاجِرِ، وَعَجْزَ الثِّقَةِ. فَالْوَاجِبُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ الْأَصْلَحُ بِحَسَبِهَا. فَإِذَا تَعَيَّنَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ أَمَانَةً وَالْآخَرُ أَعْظَمُ قُوَّةً: قُدِّمَ أَنْفَعُهُمَا لِتِلْكَ الْوِلَايَةِ: وَأَقَلُّهُمَا ضرراً فيها: فيقدم في إمارة الحروب الرَّجُلُ الْقَوِيُّ الشُّجَاعُ -وَإِنْ كَانَ فِيهِ فُجُورٌ- عَلَى الرَّجُلِ الضَّعِيفِ الْعَاجِزِ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا؛ كَمَا سُئِلَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ الرَّجُلَيْنِ يَكُونَانِ أَمِيرَيْنِ فِي الْغَزْوِ، وَأَحَدُهُمَا قَوِيٌّ فَاجِرٌ وَالْآخَرُ صالح ضعيف، مع أيهما يغزى؛ فَقَالَ: أَمَّا الْفَاجِرُ الْقَوِيُّ، فَقُوَّتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ وَأَمَّا الصَّالِحُ الضَّعِيفُ فَصَلَاحُهُ لِنَفْسِهِ وَضَعْفُهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَيُغْزِي مَعَ الْقَوِيِّ الْفَاجِرِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ» . وروي «بأقوام لا خلاق لهم» . وإن لَمْ يَكُنْ فَاجِرًا، كَانَ أَوْلَى بِإِمَارَةِ الْحَرْبِ ممن هُوَ أَصْلَحُ مِنْهُ فِي الدِّينِ إذَا لَمْ يَسُدَّ مَسَدَّهُ. وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَعْمِلُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الحرب، منذ أسلم، وقال: «إن خالداً سيف سد الله على المشركين» . مع أنه أحيانا قد كان يَعْمَلُ مَا يُنْكِرُهُ النَّبِيُّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، حتى إنه -مرة- قام ثم رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا فَعَلَ خَالِدٌ " لَمَّا أَرْسَلَهُ إلى بني جذيمة فَقَتَلَهُمْ، وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ بِنَوْعِ شُبْهَةٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَجُوزُ ذَلِكَ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ مَعَهُ مِنْ الصَّحَابَةِ، حَتَّى وَدَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَضَمِنَ أَمْوَالَهُمْ؛ وَمَعَ هَذَا فَمَا زَالَ يُقَدِّمُهُ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ،
(1/15)
وَفَعَلَ مَا فَعَلَ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ. وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَصْلَحَ مِنْهُ فِي الأمانة والصدق؛ ومع هذا قال لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ إنِّي أَرَاك ضَعِيفًا، وَإِنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي: لَا تَأَمَّرَنَّ عَلَى اثْنَيْنِ، وَلَا تَوَلَّيَنَّ مَالَ يَتِيمٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. نَهَى أَبَا ذَرٍّ عَنْ الْإِمَارَةِ وَالْوِلَايَةِ، لِأَنَّهُ رَآهُ ضَعِيفًا مَعَ أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ: «مَا أَظَلَّتْ الْخَضْرَاءُ وَلَا أَقَلَّتْ الْغَبْرَاءُ أَصْدَقَ لَهْجَةً مِنْ أَبِي ذَرٍّ» . وَأَمَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّةً عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ -اسْتِعْطَافًا لِأَقَارِبِهِ الَّذِينَ بَعَثَهُ إلَيْهِمْ- عَلَى مَنْ هُمْ أَفْضَلُ مِنْهُ. وَأَمَّرَ أسامة بن زيد؛ لأجل طلب ثأر أبيه. وكذلك كان يستعمل الرجل لمصلحة راجحة، مَعَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ يَكُونُ مَعَ الْأَمِيرِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ. وَهَكَذَا أَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا زَالَ يَسْتَعْمِلُ خَالِدًا فِي حَرْبِ أَهْلِ الرِّدَّةِ، وَفِي فَتُوحَ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَبَدَتْ مِنْهُ هَفَوَاتٌ كَانَ لَهُ فِيهَا تَأْوِيلٌ، وَقَدْ ذُكِرَ لَهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فِيهَا هَوًى، فَلَمْ يعزله من أجلها؛ بل عاتبه عَلَيْهَا: لِرُجْحَانِ الْمَصْلَحَةِ عَلَى الْمَفْسَدَةِ فِي بَقَائِهِ، وَأَنَّ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ يَقُومُ مَقَامَهُ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ الْكَبِيرَ، إذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ؛ وَإِذَا كَانَ خُلُقُهُ يَمِيلُ إلَى الشِّدَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ خُلُقُ نَائِبِهِ يَمِيلُ إلَى اللِّينِ؛ لِيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ. وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُؤْثِرُ اسْتِنَابَةَ خَالِدٍ؛ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُؤْثِرُ عَزْلَ خَالِدٍ، وَاسْتِنَابَةَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لِأَنَّ خَالِدًا كان شديد، كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأَبَا
(1/16)
عُبَيْدَةَ كَانَ لَيِّنًا كَأَبِي بَكْرٍ؛ وَكَانَ الْأَصْلَحُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يُوَلِّيَ مَنْ وَلَّاهُ؛ لِيَكُونَ أَمْرُهُ مُعْتَدِلًا، وَيَكُونَ بِذَلِكَ مِنْ خُلَفَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي هُوَ مُعْتَدِلٌ؛ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، أَنَا نَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ» . وَقَالَ: «أَنَا الضَّحُوكُ الْقَتَّالُ» . وَأُمَّتُهُ وَسَطٌ قَالَ الله تَعَالَى فِيهِمْ: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] (سورة الفتح: من الآية 29) . وَقَالَ تَعَالَى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] (سورة المائدة: من الآية 54) . وَلِهَذَا لَمَّا تَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- صَارَا كَامِلَيْنِ فِي الْوِلَايَةِ، وَاعْتَدَلَ مِنْهُمَا مَا كَانَ يُنْسَبَانِ فِيهِ إلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ لِينِ أَحَدِهِمَا وَشِدَّةِ الْآخَرِ، حَتَّى قَالَ فِيهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقتدوا باللذين مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَظَهَرَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ مِنْ شَجَاعَةِ الْقَلْبِ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَغَيْرِهِمْ: مَا بَرَزَ بِهِ عَلِيٌّ عمر وسائر الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين. وإذا كَانَتْ الْحَاجَةُ فِي الْوِلَايَةِ إلَى الْأَمَانَةِ أَشَدَّ، قُدِّمَ الْأَمِينُ؛ مِثْلُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَنَحْوِهَا؛ فَأَمَّا اسْتِخْرَاجُهَا وَحِفْظُهَا، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ قُوَّةٍ وَأَمَانَةٍ، فَيُوَلَّى عَلَيْهَا شَادٌّ قَوِيٌّ يَسْتَخْرِجُهَا بِقُوَّتِهِ، وَكَاتِبٌ أَمِينٌ يَحْفَظُهَا بِخِبْرَتِهِ وَأَمَانَتِهِ. وَكَذَلِكَ فِي إمارة الحرب، إذا أمر الأمير بمشاورة أهل الْعِلْمِ وَالدِّينِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْوِلَايَاتِ إذَا لَمْ تَتِمَّ الْمَصْلَحَةُ بِرَجُلٍ وَاحِدٍ جَمَعَ بَيْنَ عَدَدٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَرْجِيحِ الْأَصْلَحِ، أَوْ تَعَدُّدِ الْمُوَلَّى، إذَا لَمْ تَقَعْ الْكِفَايَةُ بِوَاحِدٍ تَامٍّ. وَيُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْقَضَاءِ: الْأَعْلَمُ الْأَوْرَعُ الْأَكْفَأُ؛ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أعلم،
(1/17)
وَالْآخَرُ أَوْرَعَ؛ قُدِّمَ -فِيمَا قَدْ يَظْهَرُ حُكْمُهُ، وَيُخَافُ فِيهِ الْهَوَى- الْأَوْرَعُ؛ وَفِيمَا يَدُقُّ حُكْمُهُ، وَيُخَافُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ: الْأَعْلَمُ. فَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إن الله يحب البصر النافذ عند وررد الشبهات، ويحب العقل الكامل عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ» . وَيُقَدَّمَانِ عَلَى الْأَكْفَأِ، إنْ كَانَ الْقَاضِي مُؤَيَّدًا تَأْيِيدًا تَامًّا، مِنْ جِهَةِ وَالِي الْحَرْبِ، أَوْ الْعَامَّةِ. وَيُقَدَّمُ الْأَكْفَأُ إنْ كان القضاء يحتاج إِلى قوة وإعانة للقاضي، أكثر من حاجته إلى مزيد العلم والورع؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ الْمُطْلَقَ يَحْتَاجُ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا عَادِلًا قَادِرًا. بَلْ وَكَذَلِكَ كُلُّ وَالٍ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَيُّ صِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ نَقَصَتْ، ظَهَرَ الْخَلَلُ بِسَبَبِهِ، وَالْكَفَاءَةُ: إمَّا بِقَهْرٍ وَرَهْبَةٍ؛ وَإِمَّا بِإِحْسَانٍ وَرَغْبَةٍ؛ وَفِي الْحَقِيقَةِ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا. وَسُئِلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُوَلَّى الْقَضَاءَ؛ إلَّا عَالِمٌ فَاسِقٌ، أَوْ جَاهِلُ دِينٍ؛ فَأَيُّهُمَا يُقَدَّمُ؟ فَقَالَ: إنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى الدِّينِ أَكْثَرَ لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، قُدِّمَ الدِّينُ. وإن كانت الحاجة إلى العلم أَكْثَرَ لِخَفَاءِ الْحُكُومَاتِ قُدِّمَ الْعَالِمُ. وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ يُقَدِّمُونَ ذَا الدِّينِ، فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي الْمُتَوَلِّي، مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ: هَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا، أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُقَلِّدًا، أَوْ الْوَاجِبُ تَوْلِيَةُ الْأَمْثَلِ فَالْأَمْثَلِ، كَيْفَمَا تَيَسَّرَ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. وَبُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الموضع. ومع أنه يجوز تولية كير الْأَهْلِ لِلضَّرُورَةِ، إذَا كَانَ أَصْلَحَ الْمَوْجُودِ فَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ السَّعْيُ فِي إصْلَاحِ الْأَحْوَالِ، حَتَّى يَكْمُلَ فِي النَّاسِ مَا لَا بُدَّ لَهُمْ منه،
(1/18)
مِنْ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ والإِمارات وَنَحْوِهَا: كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُعْسِرِ السَّعْيُ فِي وَفَاءِ دَيْنِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَالِ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ إلَّا مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَكَمَا يَجِبُ الِاسْتِعْدَادُ لِلْجِهَادِ، بِإِعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الْخَيْلِ فِي وَقْتِ سُقُوطِهِ لِلْعَجْزِ، فَإِنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، بِخِلَافِ الِاسْتِطَاعَةِ فِي الْحَجِّ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهَا، لِأَنَّ الْوُجُوبَ هنا لا يتم إلا بها.
(1/19)
[كيفية معرفة الأصلح في الولاية]
وأهم ما فِي هَذَا الْبَابِ مَعْرِفَةُ الْأَصْلَحِ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتِمُّ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِ الْوِلَايَةِ، وَمَعْرِفَةِ طَرِيقِ الْمَقْصُودِ؛ فَإِذَا عَرَفْت الْمَقَاصِدَ وَالْوَسَائِلَ تَمَّ الْأَمْرُ. فَلِهَذَا لَمَّا غَلَبَ عَلَى أَكْثَرِ الْمُلُوكِ قَصْدُ الدُّنْيَا، دُونَ الدِّينِ؛ قَدَّمُوا فِي وِلَايَتِهِمْ مَنْ يُعِينُهُمْ عَلَى تِلْكَ الْمَقَاصِدِ، وَكَانَ مَنْ يَطْلُبُ رِئَاسَةَ نَفْسِهِ، يُؤْثِرُ تَقْدِيمَ مَنْ يُقِيمُ رِئَاسَتَهُ؛ وَقَدْ كَانَتْ السُّنَّةُ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَةَ وَيَخْطُبُ بِهِمْ: هُمْ أُمَرَاءُ الْحَرْبِ، الَّذِينَ هم نواب ذي السلطان على الأجناد؛ وَلِهَذَا لَمَّا قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ، قَدَّمَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي إمَارَةِ الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى حَرْبٍ، كَانَ هُوَ الَّذِي يُؤَمِّرُهُ لِلصَّلَاةِ بِأَصْحَابِهِ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا نَائِبًا عَلَى مَدِينَةٍ، كما استعمل عتاب ابن أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ، وَعَلِيًّا وَمُعَاذًا وَأَبَا مُوسَى عَلَى الْيَمَنِ، وعمرَو بْنَ حَزْمٍ عَلَى نَجْرَانَ: كَانَ نَائِبُهُ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ، وَيُقِيمُ فِيهِمْ الْحُدُودَ وَغَيْرَهَا مِمَّا يَفْعَلُهُ أَمِيرُ الْحَرْبِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ بَعْدَهُ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْمُلُوكِ الْأُمَوِيِّينَ وَبَعْضِ الْعَبَّاسِيِّينَ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهَمَّ أَمْرِ الدِّينِ الصَّلَاةُ وَالْجِهَادُ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ أَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ، «وَكَانَ إذَا عَادَ مَرِيضًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْفِ عَبْدَك، يَشْهَدُ لَك صَلَاةً، وَيَنْكَأُ لَك عَدُوًّا» . «وَلَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ، قَالَ: يَا مُعَاذُ إنَّ أَهَمَّ أَمْرِك
(1/20)
عِنْدِي الصَّلَاةُ» . وَكَذَلِكَ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يكتبَ إلَى عُمَّالِهِ: إنَّ أَهَمَّ أُمُورِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ؛ فَمَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا وَحَفِظَهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدُّ إضَاعَةً. وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصَّلَاةُ عِمَادُ الدِّينِ» . فَإِذَا أَقَامَ الْمُتَوَلِّي عِمَادَ الدِّينِ: فَالصَّلَاةُ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكِرِ، وَهِيَ الَّتِي تُعِينُ النَّاسَ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الطَّاعَاتِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45] (سورة البقرة: الآية 45) . وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153] (سورة البقرة: الآية 153) . وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] (سورة طه: الآية 132) . وَقَالَ تَعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] (سورة الذاريات: الآيات 56-58) . فَالْمَقْصُودُ الْوَاجِبُ بِالْوِلَايَاتِ: إصْلَاحُ دِينِ الْخَلْقِ الذيِ مَتَى فَاتَهُمْ خَسِرُوا خُسْرَانًا مُبِينًا، وَلَمْ يَنْفَعْهُمْ مَا نَعِمُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا؛ وَإِصْلَاحُ مَا لَا يَقُومُ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ. وَهُوَ نَوْعَانِ: قَسْمُ الْمَالِ بَيْنَ مُسْتَحِقِّيهِ؛ وعقوبات المعتدين، فَمَنْ لَمْ يَعْتَدِ أَصْلَحَ لَهُ دِينَهُ وَدُنْيَاهُ: وَلِهَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقُولُ: [إنَّمَا بَعَثْت عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيُعَلِّمُوكُمْ كِتَابَ رَبِّكُمْ، وَسُنَّةَ نبيكم، ويقسموا بينكم فيئكم ". فَلَمَّا تَغَيَّرَتْ الرَّعِيَّةُ مِنْ وَجْهٍ، وَالرُّعَاةُ مِنْ وجه؛ تناقصت الْأُمُورُ. فَإِذَا اجْتَهَدَ الرَّاعِي فِي إصْلَاحِ دِينِهِمْ ودنياهم بحسب
(1/21)
الْإِمْكَانِ كَانَ مِنْ أَفْضَلِ أَهْلِ زَمَانِهِ، وَكَانَ مِنْ أَفْضَلِ الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ: «يَوْمٌ مِنْ إمَامٍ عَادِلٍ أَفْضَلُ مِنْ عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةٍ» وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَحَبُّ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ إمَامٌ عَادِلٌ، وَأَبْغَضُهُمْ إلَيْهِ إمَامٌ جَائِرٌ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَبْعَةٌ يظلهم الله في ظله لِوم لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: إمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نشأ في طاعة اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْجِدِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابًّا فِي أدنه، اجْتَمَعَا عَلَى ذَلِكَ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذات منصب وجمال فَقَالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا، حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تنفق يمينه» . وفي صحح مسلم عن عياض بن حمار -رضي الله عنه- قال: قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذو سلطان مقسط، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، لرجل غَنِيٌّ عَفِيفٌ مُتَصَدِّقٌ» . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الصَّدَقَةِ بِالْحَقِّ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْجِهَادِ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة: 193] (سورة الأنفال: من الآية 39) ، «وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، فَأَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: " مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَالْمَقْصُودُ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وأن تكون كلمة الله الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ اللَّهِ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكَلِمَاتِهِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا كِتَابُهُ، وَهَكَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
(1/22)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] (سورة الحديد: من الآية 25) . فَالْمَقْصُودُ مِنْ إرْسَالِ الرُّسُلِ، وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ، أَنْ يَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ فِي حُقُوقِ اللَّهِ، وَحُقُوقِ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] (سورة الحديد: من الآية 25) . فَمَنْ عَدَلَ عَنْ الْكِتَابِ قُوِّمَ بِالْحَدِيدِ؛ وَلِهَذَا كَانَ قِوَامُ الدِّينِ بِالْمُصْحَفِ وَالسَّيْفِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ نَضْرِبَ بِهَذَا -يَعْنِي السَّيْفَ- مَنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا -يَعْنِي الْمُصْحَفَ-» فَإِذَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ، فَإِنَّهُ يَتَوَسَّلُ إلَيْهِ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ، وَيَنْظُرُ إلَى الرَّجُلَيْنِ، أَيُّهُمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى الْمَقْصُودِ وُلِّيَ؛ فَإِذَا كَانَتْ الْوِلَايَةُ مَثَلًا: إمَامَةَ صَلَاةٍ فَقَطْ؛ قُدِّمَ مَنْ قَدَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلَا يُؤَمَّنَّ الرجل الرجلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فَإِذَا تكافأ رجلان: وخفي أَصْلَحُهُمَا، أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا، كَمَا أَقْرَعَ سَعْدُ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ، لَمَّا تَشَاجَرُوا عَلَى الْأَذَانِ، مُتَابَعَةً لِقَوْلِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ، ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا» . فَإِذَا كَانَ التَّقْدِيمُ بِأَمْرِ اللَّهِ إذَا ظَهَرَ، وَبِفِعْلِهِ -وَهُوَ مَا يُرَجِّحُهُ بِالْقُرْعَةِ إذَا خَفِيَ الْأَمْرُ- كَانَ الْمُتَوَلِّي قَدْ أَدَّى الْأَمَانَاتِ فِي الْوِلَايَاتِ إلَى أَهْلِهَا.
(1/23)
[القسم الثاني الأموال]
[الأعيان والديون الخاصة والعامة]
فصل القسم الثاني من الأمانات: الأموال، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الدُّيُونِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] (سورة البقرة: من الآية 283) . وَيَدْخُلُ فِي هَذَا الْقِسْمِ: الْأَعْيَانُ، وَالدُّيُونُ الْخَاصَّةُ، وَالْعَامَّةُ: مِثْلُ رَدِّ الْوَدَائِعِ، وَمَالِ الشَّرِيكِ، وَالْمُوَكِّلِ، والمضارب، ومال المولى عليه، مِنْ الْيَتِيمِ وَأَهْلِ الْوَقْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ وَفَاءُ الدُّيُونِ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَبَدَلِ الْقَرْضِ، وَصَدَقَاتِ النِّسَاءِ وَأُجُورِ الْمَنَافِعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ قال الله تَعَالَى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا - إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا - إِلَّا الْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ - وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ - لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 19 - 25] (سورة المعارج: الآيات 19-25) . إلى قوله: {هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج: 32] (سورة المعارج: الآية 32) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء: 105]-أَيْ لَا تُخَاصِمْ عنهم- (سورة النساء: الآية 105) . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُؤْمِنُ مَنْ أَمِنَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَالْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي ذَاتِ اللَّهِ» . وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بَعْضُهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَبَعْضُهُ في سنن الترمذي، وقال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّاهَا اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَهَا يُرِيدُ إتْلَافَهَا
(1/24)
أتلفه الله» . رواه البخاري. وإن كَانَ اللَّهُ قَدْ أَوْجَبَ أَدَاءَ الْأَمَانَاتِ الَّتِي قُبِضَتْ بِحَقٍّ؛ فَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى وُجُوبِ أَدَاءِ الغضب وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمَظَالِمِ، وَكَذَلِكَ أَدَاءُ الْعَارِيَّةِ، وَقَدْ خَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَقَالَ فِي خطبته: «العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ، إنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . وَهَذَا الْقِسْمُ يَتَنَاوَلُ الْوُلَاةَ وَالرَّعِيَّةَ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا: أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ مَا يَجِبُ أداؤه إليه، فعلى ذي السلطان، ونوابه في العطاء، أَنْ يُؤْتُوا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَعَلَى جُبَاةِ الْأَمْوَالِ كَأَهْلِ الدِّيوَانِ أَنْ يُؤَدُّوا إلَى ذِي السُّلْطَانِ مَا يَجِبُ إيتَاؤُهُ إلَيْهِ؛ وَكَذَلِكَ على الرعية الذين تجب عليهم الْحُقُوقِ؛ وَلَيْسَ لِلرَّعِيَّةِ أَنْ يَطْلُبُوا مِنْ وُلَاةِ الأموال ما لا يستحقونه، فيكونون مِنْ جِنْسِ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ - وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} [التوبة: 58 - 59] (سورة التوبة: الآيتان 58، 59) . ثم بين سبحانه لمن تكون بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] (سورة التوبة: الآية 60) . وَلَا لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا السُّلْطَانَ مَا يَجِبُ دفعه إليه مِنْ الْحُقُوقِ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا؛ كَمَا «أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرَ جور الولاة، قال: أَدُّوا إلَيْهِمْ الَّذِي لَهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ» . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
(1/25)
عَنْهُ -عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هلك نبي، خلفه نبي، فإنه لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ وَيَكْثُرُونَ. قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَقَالَ: أَوْفُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ، ثُمَّ أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا استرعاهم» . وفيهما عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم سترون بعدي أثرة وأمورا تنكرونها، قالوا: فما تأمرنا به يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَدُّوا إلَيْهِمْ حَقَّهُمْ؛ واسألوا الله حقكم» . وليس لولاة الأمور أَنْ يُقَسِّمُوهَا بِحَسَبِ أَهْوَائِهِمْ، كَمَا يُقَسِّمُ الْمَالِكُ مِلْكَهُ، فَإِنَّمَا هُمْ أُمَنَاءُ وَنُوَّابٌ وَوُكَلَاءُ، لَيْسُوا مُلَّاكًا؛ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إني -والله- لا أعطي أحدا، وَلَا أَمْنَعُ أَحَدًا؛ وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حيث أمرت» . رواه البخاري وعن أبي هريرة -رضي الله عَنْهُ- نَحْوُهُ. فَهَذَا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَنْعُ وَالْعَطَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَالِكُ الَّذِي أُبِيحَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ، وَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْمُلُوكُ الذين يعطون من أحبوا ويمنعون من أبغضوا، وَإِنَّمَا هُوَ عَبْدُ اللَّهِ، يَقْسِمُ الْمَالَ بِأَمْرِهِ، فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَهَكَذَا قَالَ رَجُلٌ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ وَسَّعْت عَلَى نَفْسِك فِي النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَتَدْرِي مَا مَثَلِي وَمَثَلِ هَؤُلَاءِ؟ كَمِثْلِ قَوْمٍ كَانُوا فِي سَفَرٍ، فَجَمَعُوا مِنْهُمْ مَالًا، وَسَلَّمُوهُ إلَى وَاحِدٍ يُنْفِقُهُ عَلَيْهِمْ، فَهَلْ يَحِلُّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَسْتَأْثِرَ عَنْهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ؟ وَحُمِلَ مَرَّةً إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَالٌ عَظِيمٌ مِنْ الْخُمُسِ: فَقَالَ: إنَّ قَوْمًا أَدُّوا الْأَمَانَةَ فِي هَذَا لِأُمَنَاءَ. فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْحَاضِرِينَ: إنَّك أَدَّيْت
(1/26)
الْأَمَانَةَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَأَدُّوا إلَيْك الْأَمَانَةَ، ولو رتعت لرتعوا.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ كَالسُّوقِ، مَا نَفَقَ فِيهِ جُلِبَ إلَيْهِ، هَكَذَا قَالَ عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه- فَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الصِّدْقَ وَالْبِرَّ وَالْعَدْلَ وَالْأَمَانَةَ، جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ نَفَقَ فِيهِ الْكَذِبَ وَالْفُجُورَ وَالْجَوْرَ وَالْخِيَانَةَ، جُلِبَ إلَيْهِ ذَلِكَ. وَاَلَّذِي عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ، أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مِنْ حِلِّهِ، وَيَضَعَهُ فِي حَقِّهِ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ مُسْتَحِقِّهِ، وَكَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إذَا بَلَغَهُ أَنَّ بَعْضَ نُوَّابِهِ ظَلَمَ، يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ آمُرُهُمْ أَنْ يظلموا خلقك، ولا أن يتركوا حقك.
(1/27)
[فصل الأموال السلطانية]
[الغنيمة]
فصل الْأَمْوَالُ السُّلْطَانِيَّةُ الَّتِي أَصْلُهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْغَنِيمَةُ، وَالصَّدَقَةُ، وَالْفَيْءُ.
فَأَمَّا " الْغَنِيمَةُ " فَهِيَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ الْكُفَّارِ بِالْقِتَالِ، ذَكَرَهَا اللَّهُ فِي " سُورَةِ الْأَنْفَالِ " الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي غزوة بدر، وسماها أنفالاً، لأنها زِيَادَةٌ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] (سورة الأنفال: من الآية1) . إلَى قَوْلِهِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] الآية (سورة الأنفال: الْآيَةَ 41) ؛ وَقَالَ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 69] (سورة الأنفال: الآية 69) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيت خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي: نُصِرْت بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ؛ وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيت الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْت إلَى النَّاسِ عَامَّةً» . وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ، حَتَّى يُعْبَدَ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي، وَجُعِلَ الذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ.
(1/28)
فَالْوَاجِبُ فِي الْمَغْنَمِ تَخْمِيسُهُ، وَصَرْفُ الْخُمُسِ إلَى من ذكره الله تعالى؛ وقسمة الأخماس الباقية بَيْنَ الْغَانِمِينَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ. وَهُمْ الذين شهدوها للقتال، قَاتَلُوا أَوْ لَمْ يُقَاتِلُوا. وَيَجِبُ قَسْمُهَا بَيْنَهُمْ بالعدل، فلا يحابى أحد، لَا لِرِيَاسَتِهِ، وَلَا لِنَسَبِهِ، وَلَا لِفَضْلِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يَقْسِمُونَهَا. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- رَأَى لَهُ فَضْلًا عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟» . وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ «عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ! الرَّجُلُ يَكُونُ حَامِيَةَ الْقَوْمِ، يَكُونُ سَهْمُهُ وَسَهْمُ غَيْرِهِ سَوَاءً؟ قَالَ: " ثَكِلَتْك أُمُّك ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ؛ وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ إلَّا بِضُعَفَائِكُمْ؟» . وَمَا زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية، ودولة بني الْعَبَّاسِ، لَمَّا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَغْزُونَ الرُّومَ وَالتُّرْكَ وَالْبَرْبَرَ؛ لَكِنْ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ مَنْ ظَهَرَ مِنْهُ زِيَادَةُ نِكَايَةٍ: كَسَرِيَّةٍ تَسَرَّتْ مِنْ الْجَيْشِ، أَوْ رَجُلٍ صَعِدَ حِصْنًا عَالِيًا فَفَتَحَهُ، أَوْ حَمَلَ عَلَى مُقَدَّمِ الْعَدُوِّ فَقَتَلَهُ، فَهُزِمَ الْعَدُوُّ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاءَهُ كَانُوا يُنَفِّلُونَ لِذَلِكَ. وَكَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ فِي الْبِدَايَةِ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. وهذا النفل؛ قال العلماء: إنه يكون من الْخُمُسِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ يَكُونُ مِنْ خُمُسِ الخمس؛ لئلا يفضل بعض الغانمين عَلَى بَعْضٍ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ مِنْ أَرْبَعَةِ الْأَخْمَاسِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَفْضِيلُ بَعْضِهِمْ عَلَى بعض لمصلحة دينية؛ لا لهوى النفس، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَهَذَا قَوْلُ فُقَهَاءِ الشَّامِ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ
(1/29)
قِيلَ: إنَّهُ يُنَفِّلُ الرُّبُعَ وَالثُّلُثَ بِشَرْطٍ وَغَيْرِ شرط، وينفل الزيادة على ذلك بالشرط، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: مَنْ دَلَّنِي عَلَى قَلْعَةٍ فله كذا، أو من جاءني بِرَأْسٍ فَلَهُ كَذَا وَنَحْوَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: لَا يُنَفِّلُ زِيَادَةً عَلَى الثُّلُثِ، وَلَا يُنَفِّلُهُ إلَّا بالشرط، وهذان قولان لأحمد وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ -عَلَى الْقَوْلِ الصَّحِيحِ- لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُولَ: مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ؛ كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ قَالَ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. إذَا رَأَى ذَلِكَ مَصْلَحَةً رَاجِحَةً عَلَى الْمَفْسَدَةِ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَجْمَعُ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُهَا لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يَغُلَّ مِنْهَا شَيْئًا {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] (سورة آل عمران من الآية 161) فَإِنَّ الْغُلُولَ خِيَانَةٌ. وَلَا تَجُوزُ النُّهْبَةُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهَا. فَإِذَا تَرَكَ الْإِمَامُ الْجَمْعَ وَالْقِسْمَةَ، وَأَذِنَ فِي الْأَخْذِ إذْنًا جَائِزًا: فَمَنْ أَخَذَ شَيْئًا بِلَا عُدْوَانٍ، حَلَّ لَهُ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ، وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فَهُوَ إذْنٌ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْذَنْ أَوْ أَذِنَ إذْنًا غَيْرَ جَائِزٍ: جَازَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ مَا يُصِيبُهُ بِالْقِسْمَةِ، مُتَحَرِّيًا لِلْعَدْلِ فِي ذَلِكَ. وَمَنْ حَرَّمَ على المسلمين جمع الغنائم، والحال هذه، وأباح للإمام أَنْ يَفْعَلَ فِيهَا مَا يَشَاءُ: فَقَدْ تَقَابَلَ الْقَوْلَانِ تَقَابُلَ الطَّرَفَيْنِ، وَدِينُ اللَّهِ وَسَطٌ. وَالْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ: أَنْ يُقْسَمَ لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ، وَلِلْفَارِسِ ذي الفرس العربي ثلاثة أسهم: سهم لَهُ، وَسَهْمَانِ لِفَرَسِهِ، هَكَذَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ من يقول: للفارس سهمان، والأول هو الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ، وَلِأَنَّ الْفَرَسَ يحتاج إلى مئونة نفسه وسائسه -منفعة الْفَارِسِ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ رَاجِلِينَ- وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُسَوِّي بَيْنَ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ وَالْهَجِينِ فِي هَذَا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ الْهَجِينُ يُسْهَمُ لَهُ سَهْمٌ وَاحِدٌ، كَمَا رُوِيَ عَنْ
(1/30)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. وَالْفَرَسُ الْهَجِينُ: الَّذِي تَكُونُ أُمُّهُ نَبَطِيَّةً -وَيُسَمَّى الْبِرْذَوْنَ -وَبَعْضُهُمْ يُسَمِّيهِ التتري، سَوَاءٌ كَانَ حِصَانًا، أَوْ خَصِيًّا، وَيُسَمَّى الْإِكْدِيشَ أَوْ رَمَكَةَ، وَهِيَ الْحَجَرُ: كان السلف يعدون للقتال الحصان، لِقُوَّتِهِ وَحِدَّتِهِ، وَلِلْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ الْحَجَرَ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا صَهِيلٌ يُنْذِرُ الْعَدُوَّ فَيَحْتَرِزُونَ، وَلِلسَّيْرِ الْخَصِيَّ، لِأَنَّهُ أَصْبَرُ عَلَى السَّيْرِ. وَإِذَا كَانَ الْمَغْنُومُ مَالًا -قَدْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ قَبْلَ ذَلِكَ. مِنْ عَقَارٍ أَوْ مَنْقُولٍ، وَعُرِفَ صَاحِبُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ- فَإِنَّهُ يُرَدُّ إلَيْهِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَتَفَارِيعُ الْمَغَانِمِ وَأَحْكَامُهَا: فِيهَا آثَارٌ وَأَقْوَالٌ اتَّفَقَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى بعضها، وتنازعوا في بعض ذلك، وليس هَذَا مَوْضِعُهَا؛ وَإِنَّمَا الْغَرَضُ ذِكْرُ الْجُمَلِ الْجَامِعَةِ.
(1/31)
[الصدقات]
فصل وَأَمَّا الصَّدَقَاتُ، فَهِيَ لِمَنْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ؛ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ: " إنَّ اللَّهَ لَمْ يَرْضَ فِي الصَّدَقَةِ بِقَسْمِ نَبِيٍّ وَلَا غَيْرِهِ؛ وَلَكِنْ جَزَّأَهَا ثَمَانِيَةَ أَجْزَاءٍ، فَإِنْ كُنْت مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ أعطيتك» . (فالفقراء والمساكين) يجمعهما مَعْنَى الْحَاجَةِ إلَى الْكِفَايَةِ؛ فَلَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ. (وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا) هُمْ الَّذِينَ يَجْبُونَهَا، وَيَحْفَظُونَهَا، وَيَكْتُبُونَهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. (وَالْمُؤَلَّفَةِ قلوبهم) فنذكرهم -إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى- فِي مَالِ الْفَيْءِ. (وَفِي الرِّقَابِ) يَدْخُلُ فِيهِ إعَانَةُ الْمُكَاتَبِينَ، وَافْتِدَاءُ الْأَسْرَى، وَعِتْقُ الرِّقَابِ. هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ فِيهَا. (وَالْغَارِمِينَ) هُمْ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ دُيُونٌ لَا يَجِدُونَ وَفَاءَهَا. فَيُعْطُونَ وَفَاءَ دُيُونِهِمْ، وَلَوْ كَانَ كَثِيرًا، إلَّا أَنْ يَكُونُوا غَرِمُوهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَا يُعْطُونَ حَتَّى يَتُوبُوا. (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وَهُمْ الْغُزَاةُ الَّذِينَ لَا يُعْطُونَ مِنْ مَالِ اللَّهِ مَا يَكْفِيهِمْ لِغَزْوِهِمْ، فَيُعْطُونَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، أَوْ تَمَامَ مَا يَغْزُونَ بِهِ، مِنْ خَيْلٍ وَسِلَاحٍ وَنَفَقَةٍ وَأُجْرَةٍ؛ وَالْحَجُّ مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (وَابْنُ السَّبِيلِ) هُوَ الْمُجْتَازُ مِنْ بلد إلى بلد.
(1/32)
[الفيء]
فصل وَأَمَّا الْفَيْءُ، فَأَصْلُهُ مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَشْرِ، الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، بَعْدَ بَدْرٍ، مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 6 - 10] (سورة الحشر: الآيات 6-10) . فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى مَا وَصَفَ، فَدَخَلَ فِي الصِّنْفِ الثَّالِثِ كُلُّ مَنْ جَاءَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ كَمَا دَخَلُوا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ} [الأنفال: 75] (سورة الأنفال: من الآية 75) . وفي قوله: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] (سورة التوبة: من الآية 100) . وَفِي قَوْلِهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3] (سورة الجمعة: الآية 3) .
(1/33)
وَمَعْنَى قَوْلِهِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] (سورة الحشر: من الآية 6) 0 أَيْ مَا حَرَّكْتُمْ وَلَا سُقْتُمْ خَيْلًا وَلَا إبِلًا. وَلِهَذَا قَالَ الْفُقَهَاءُ: إنَّ الْفَيْءَ هُوَ مَا أُخِذَ مِنْ الْكُفَّارِ بِغَيْرِ قِتَالٍ؛ لِأَنَّ إيجَافَ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ هُوَ مَعْنَى الْقِتَالِ. وَسُمِّيَ فَيْئًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَفَاءَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، أَيْ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْكُفَّارِ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا خَلَقَ الْأَمْوَالَ إعَانَةً عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ. فَالْكَافِرُونَ بِهِ أَبَاحَ أَنْفُسَهُمْ الَّتِي لَمْ يَعْبُدُوهُ بِهَا، وَأَمْوَالَهُمْ الَّتِي لَمْ يَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى عِبَادَتِهِ؛ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْبُدُونَهُ، وَأَفَاءَ إلَيْهِمْ مَا يَسْتَحِقُّونَهُ، كَمَا يُعَادُ عَلَى الرَّجُلِ مَا غُصِبَ مِنْ مِيرَاثِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؛ وَهَذَا مِثْلُ الْجِزْيَةِ الَّتِي عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَالْمَالُ الَّذِي يُصَالِحُ عَلَيْهِ الْعَدُوَّ، أَوْ يُهْدُونَهُ إلَى سُلْطَانِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْحِمْلِ الَّذِي يُحْمَلُ مِنْ بِلَادِ النَّصَارَى وَنَحْوِهِمْ؛ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَهُوَ الْعُشْرُ، وَمِنْ تُجَّارِ أهل الذمة إذا اتجروا في غَيْرِ بِلَادِهِمْ، وَهُوَ نِصْفُ الْعُشْرِ. هَكَذَا كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَأْخُذُ. وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَنْقُضُ الْعَهْدَ مِنْهُمْ، وَالْخَرَاجُ الَّذِي كَانَ مَضْرُوبًا فِي الْأَصْلِ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَارَ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ. ثُمَّ إنَّهُ يَجْتَمِعُ مِنْ الْفَيْءِ جَمِيعُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ الَّتِي لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ: كَالْأَمْوَالِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَالِكٌ مُعَيَّنٌ، مِثْلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ وَارِثٌ معين؛ وكالغصوب، والعواري، والودائع التي تعذر مَعْرِفَةُ أَصْحَابِهَا؛ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، الْعَقَارُ وَالْمَنْقُولُ، فَهَذَا وَنَحْوُهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْفَيْءَ فَقَطْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَمُوتُ عَلَى عَهْدِهِ مَيِّتٌ، إلَّا وَلَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ لِظُهُورِ الْأَنْسَابِ فِي أَصْحَابِهِ، وَقَدْ
(1/34)
مَاتَ مَرَّةً رَجُلٌ مِنْ قَبِيلَةٍ فَدُفِعَ مِيرَاثَهُ إلَى أَكْبَرِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ، أَيْ أَقْرَبِهِمْ نَسَبًا إلَى جَدِّهِمْ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ، كَأَحْمَدَ فِي قَوْلٍ مَنْصُوصٍ وَغَيْرِهِ، وَمَاتَ رَجُلٌ لَمْ يُخَلِّفْ إلَّا عَتِيقًا لَهُ، فَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إلَى عَتِيقِهِ، وَقَالَ بِذَلِكَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمْ، وَدُفِعَ مِيرَاثُ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ قَرْيَتِهِ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ يَتَوَسَّعُونَ فِي دَفْعِ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ، إلَى مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمْ يَكُنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَّا الصَّدَقَاتِ، وَكَانَ يَأْمُرُهُمْ أَنْ يُجَاهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي كِتَابِهِ. وَلَمْ يَكُنْ لِلْأَمْوَالِ الْمَقْبُوضَةِ وَالْمَقْسُومَةِ، دِيوَانٌ جَامِعٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ في وَأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، بَلْ كَانَ يَقْسِمُ الْمَالَ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَثُرَ الْمَالُ، وَاتَّسَعَتْ الْبِلَادُ، وَكَثُرَ النَّاسُ، فَجَعَلَ ديوان العطاء للمقاتلة وغيرهم؛ وديوان الجير -فِي هَذَا الزَّمَانِ- مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِهِ؛ وَذَلِكَ الدِّيوَانُ هُوَ أَهَمُّ دَوَاوِينِ الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ لِلْأَمْصَارِ دَوَاوِينُ الْخَرَاجِ وَالْفَيْءِ وَمَا يُقْبَضُ مِنْ الْأَمْوَالِ؛ وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ يُحَاسِبُونَ الْعُمَّالَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَالْفَيْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَصَارَتْ الْأَمْوَالُ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَمَا قَبْلَهُ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ: نَوْعٌ يَسْتَحِقُّ الإِمام قَبْضَهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَنَوْعٌ يَحْرُمُ أَخْذُهُ بالإجماع، كالجبايات الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ؛ لأجل قتيل قتل بينهم، لان كان له وارث، أو على حد ارتكبه، وَتَسْقُطُ عَنْهُ الْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ، وَكَالْمُكُوسِ الَّتِي لَا يَسُوغُ وَضْعُهَا اتِّفَاقًا. وَنَوْعٌ فِيهِ اجْتِهَادٌ وَتَنَازُعٌ كَمَالِ مَنْ لَهُ
(1/35)
ذُو رَحِمٍ، وَلَيْسَ بِذِي فَرْضٍ وَلَا عَصَبَةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ الظُّلْمُ مِنْ الْوُلَاةِ وَالرَّعِيَّةِ: هؤلاء يأخذون ما لا يحل، وهؤلاء يمنعون ما جب، كَمَا قَدْ يَتَظَالَمُ الْجُنْدُ وَالْفَلَّاحُونَ. وَكَمَا قَدْ يَتْرُكُ بَعْضُ النَّاسِ مِنْ الْجِهَادِ مَا يَجِبُ، ويكنز الولاة من مال الله ما لَا يَحِلُّ كَنْزُهُ. وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ عَلَى أَدَاءِ الْأَمْوَالِ؛ فَإِنَّهُ قَدْ يَتْرُكُ مِنْهَا مَا يُبَاحُ أَوْ يَجِبُ؛ وَقَدْ يَفْعَلُ مَا لَا يَحِلُّ. وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ: أَنَّ كُلَّ مَنْ عَلَيْهِ مَالٌ، يَجِبُ أَدَاؤُهُ، كَرَجُلٍ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ، أَوْ مضاربة، أَوْ شَرِكَةٌ، أَوْ مَالٌ لِمُوَكِّلِهِ، أَوْ مَالُ يَتِيمٍ، أَوْ مَالُ وَقْفٍ، أَوْ مَالٌ لِبَيْتٍ المال؛ أو عنده دين وهو قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ، فَإِنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ أداء الحق الواجب: من عاين، أَوْ دَيْنٍ، وَعَرَفَ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَدَائِهِ؛ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ، حَتَّى يُظْهِرَ الْمَالَ، أَوْ يَدُلَّ عَلَى مَوْضِعِهِ. فَإِذَا عَرَّفَ الْمَالَ، وصُير فِي الْحَبْسِ، فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي الْحَقَّ مِنْ الْمَالِ، ولا حاجة إلى ضربه، وإن امتنع من الدلالة على ماله وَمِنْ الْإِيفَاءِ، ضُرِبَ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَقَّ أَوْ يُمَكِّنَ مِنْ أَدَائِهِ. وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ النَّفَقَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا، لما روى عمرو ابن الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال: «لَيّ الواجد جل عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» ، رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَقَالَ صَلَّى الله عليه وسلم: «مطل الفني ظلم» أخرجاه في الصحيحين، و " الليّ "، هُوَ الْمَطْلُ: وَالظَّالِمُ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ وَالتَّعْزِيرَ. وَهَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ: أَنَّ كُلَّ مَنْ فَعَلَ مُحَرَّمًا، أَوْ تَرَكَ وَاجِبًا، اسْتَحَقَّ الْعُقُوبَةَ، فَإِنْ لم تكن مقدرة بالشرع كان تعزيراً يجتهد فِيهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ فَيُعَاقِبُ الْغَنِيَّ الْمُمَاطِلَ بِالْحَبْسِ، فَإِنْ أَصَرَّ عُوقِبَ بِالضَّرْبِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ: مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَغَيْرِهِمْ
(1/36)
-رضي الله عَنْهُمْ- وَلَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى الصَّفْرَاءِ وَالْبَيْضَاءِ وَالسِّلَاحِ، سَأَلَ بَعْضُ الْيَهُودِ -وَهُوَ سَعْيَةُ عَمُّ حُيي بْنِ أَخْطَبَ - عَنْ كَنْزِ مَالِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ. فَقَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ. فَقَالَ: " الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ " فَدَفَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْيَةَ إلى الزبير، فمسه بِعَذَابٍ، فَقَالَ: قَدْ رَأَيْتُ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خربة ههنا، فَذَهَبُوا فَطَافُوا، فَوَجَدُوا الْمِسْكَ فِي الْخِرْبَةِ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ ذِمِّيًّا، وَالذِّمِّيُّ لَا تَحِلُّ عُقُوبَتُهُ إلَّا بِحَقٍّ؛ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مَا يَجِبُ إظْهَارُهُ مِنْ دَلَالَةٍ وَاجِبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، يعاقب على ترك الواجب. وما أخذه العمال وَغَيْرُهُمْ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلِوَلِيِّ الْأَمْرِ الْعَادِلِ اسْتِخْرَاجُهُ مِنْهُمْ؛ كَالْهَدَايَا الَّتِي يَأْخُذُونَهَا بِسَبَبِ الْعَمَلِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ. وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ -فِي كِتَابِ الْهَدَايَا -عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا مِنْ الْأَزْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، عَلَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إلَيَّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا بَالُ الرَّجُلِ نَسْتَعْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ مِمَّا وَلَّانَا اللَّهُ؛ فَيَقُولُ: هَذَا لكم، وهذا أهدي إلي؟ فهلا جلست فِي بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ بَيْتِ أُمِّهِ. فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا، إلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ؛ إنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رأينا عفرتي إبطيه؛ ثم قال: اللهم هل
(1/37)
بلغت؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلَاثًا» . وَكَذَلِكَ مُحَابَاةُ الْوُلَاةِ فِي الْمُعَامَلَةِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ، والمؤاجرة والمضاربة، والمساقاة والمزارعة ونحو ذلك، هو من نوع الهدية؛ وَلِهَذَا شَاطَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مِنْ عُمَّالِهِ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَدِينٌ، لَا يُتَّهَمُ بِخِيَانَةٍ، وَإِنَّمَا شَاطَرَهُمْ لَمَّا كَانُوا خُصُّوا بِهِ لِأَجْلِ الْوِلَايَةِ مِنْ مُحَابَاةٍ وَغَيْرِهَا، وَكَانَ الْأَمْرُ يَقْتَضِي ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ إمَامَ عَدْلٍ، يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ. فَلَمَّا تَغَيَّرَ الْإِمَامُ وَالرَّعِيَّةُ، كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ إنْسَانٍ أَنْ يَفْعَلَ مِنْ الْوَاجِبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَيَتْرُكَ مَا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا أَبَاحَ اللَّهُ لَهُ. وَقَدْ يُبْتَلَى النَّاسُ مِنْ الولاة بمن يمتنع من الهدية وَنَحْوِهَا؛ لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَظَالِمِ مِنْهُمْ، وَيَتْرُكَ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ فَيَكُونَ مَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ عِوَضًا عَلَى كَفِّ ظُلْمٍ وَقَضَاءِ حَاجَةٍ مُبَاحَةٍ أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنْ هَذَا؛ فَإِنَّ الْأَوَّلَ قَدْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ، وَأَخْسَرُ النَّاسِ صَفْقَةً مَنْ بَاعَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ؛ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ كَفُّ الظُّلْمِ عَنْهُمْ بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ، وَقَضَاءُ حَوَائِجِهِمْ الَّتِي لَا تَتِمُّ مَصْلَحَةُ النَّاسِ إلَّا بِهَا: مِنْ تَبْلِيغِ ذِي السُّلْطَانِ حَاجَاتِهِمْ، وَتَعْرِيفِهِ بِأُمُورِهِمْ، وَدَلَالَتِهِ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، وَصَرْفِهِ عَنْ مَفَاسِدِهِمْ؛ بِأَنْوَاعِ الطُّرُقِ اللَّطِيفَةِ وَغَيْرِ اللَّطِيفَةِ، كَمَا يَفْعَلُ ذَوُو الْأَغْرَاضِ مِنْ الْكُتَّابِ وَنَحْوِهِمْ فِي أَغْرَاضِهِمْ. فَفِي حَدِيثِ هِنْدَ بْنِ أَبِي هَالَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَبْلِغُونِي حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا؛ فَإِنَّهُ مَنْ أَبْلَغَ ذَا سُلْطَانٍ حَاجَةَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ إبْلَاغَهَا: ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يوم تزل
(1/38)
الْأَقْدَامُ» . وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ شَفَعَ لِأَخِيهِ شَفَاعَةً، فَأَهْدَى لَهُ عَلَيْهَا هَدِيَّةً فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى باباً غيماً مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا» . وَرَوَى إبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ عَنْ عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: السحت أن يطلب الحاجة للرجل، فتقضى له، فيهدي إليه هدية، فَيَقْبَلَهَا. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَسْرُوقٍ: أَنَّهُ كَلَّمَ ابْنَ زِيَادٍ فِي مَظْلِمَةٍ فَرَدَّهَا، فَأَهْدَى لَهُ صَاحِبُهَا وَصَيْفًا، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: مَنْ رَدَّ عَنْ مُسْلِمٍ مَظْلِمَةً، فَرَزَأَهُ عَلَيْهَا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، فَهُوَ سُحْتٌ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا كُنَّا نَرَى السُّحْتَ إلَّا الرِّشْوَةَ فِي الْحُكْمِ، قَالَ: ذَاكَ كُفْرٌ. فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلِيُّ الْأَمْرِ يَسْتَخْرِجُ مِنْ الْعُمَّالِ مَا يُرِيدُ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ هُوَ وَذَوُوه، فَلَا يَنْبَغِي إعَانَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ، كَلِصٍّ سَرَقَ مِنْ لِصٍّ، وَكَالطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَرِئَاسَةٍ؛ وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ؛ فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ: الْأَوَّلُ: تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى: مِنْ الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، وَإِعْطَاءِ الْمُسْتَحَقِّينَ؛ فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَمَنْ أَمْسَكَ عَنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَعْوَانِ الظَّلَمَةِ فَقَدْ تَرَكَ فَرْضًا عَلَى الْأَعْيَانِ، أَوْ عَلَى الْكِفَايَةِ مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ مُتَوَرِّعٌ. وَمَا أَكْثَرَ مَا يَشْتَبِهُ الْجُبْنُ وَالْفَشَلُ بِالْوَرَعِ؛ إذْ كُلٌّ مِنْهُمَا كَفٌّ وَإِمْسَاكٌ. وَالثَّانِي: تَعَاوُنٌ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ، كَالْإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ، أَوْ أَخْذِ مَالِ مَعْصُومٍ، أَوْ ضَرْبِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَهَذَا الذي
(1/39)
حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. نَعَمْ إذَا كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا إلَى أَصْحَابِهَا، كَكَثِيرٍ مِنْ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ؛ فَالْإِعَانَةُ عَلَى صَرْفِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَسَدَادِ الثُّغُورِ، وَنَفَقَةِ الْمُقَاتِلَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى؛ إذْ الْوَاجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ -إذَا لَمْ يُمْكِنْ معرفة أصحابها وردها عَلَيْهِمْ، وَلَا عَلَى وَرَثَتِهِمْ -أَنْ يَصْرِفَهَا- مَعَ التَّوْبَةِ إنْ كَانَ هُوَ الظَّالِمَ- إلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ. هَذَا هُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، كَمَالِكٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدَ، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ، كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ. وإن كان غيره قد أخذها، فَعَلَيْهِ هُوَ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ لَوْ امْتَنَعَ السُّلْطَانُ مِنْ رَدِّهَا: كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَى إنْفَاقِهَا فِي مَصَالِحِ أَصْحَابِهَا أَوْلَى مِنْ تَرْكِهَا بِيَدِ مَنْ يُضَيِّعُهَا عَلَى أَصْحَابِهَا، وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَإِنَّ مَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى:! {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) المفسر لِقَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] (سورة آل عمران: من الآية 102) ؛ وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ المصالح وتكميلها؛ وتعطيل الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلِهَا، فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا وَدَفْعُ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احتمال أدناهما: هُوَ الْمَشْرُوعَ. وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثم وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ
(1/40)
الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ الظُّلْمِ عَنْهُ، أَوْ عَلَى أداء الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ؛ لَا وَكِيلُ الظَّالِمِ؛ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، أَوْ الَّذِي يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ. مِثَالُ ذَلِكَ وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ، إذَا طَلَبَ ظَالِمٌ مِنْهُ مَالًا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالٍ أَقَلَّ مِنْهُ إلَيْهِ، أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الِاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ؛ فَهُوَ مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَالِكِ مِنْ المنادين والكتاب وغيرهم، الذي يتوكل لَهُمْ فِي الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ، وَدَفَعَ مَا يَطْلُبُ منهم؛ لا يتوكل للظالمين في الأخذ. وكذلك لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ منهم مُحْسِنٌ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِمكان وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِمْ، مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لنفسه ولا لغيره، ولا ارتشاء، بل تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ، وَالْإِعْطَاءِ: كَانَ مُحْسِنًا؛ لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلَ الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مُخْفِرًا لِمَنْ يُرِيدُ، وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ. وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ، الَّذِينَ يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نار، هم وأعوانهم وأشباههم، ثم يقذفون في النار.
(1/41)
[مصارف الفيء]
فصل وأما المصارف: فالواجب أن يبدأ فِي الْقِسْمَةِ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنْ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ العامة: كَعَطَاءِ مَنْ يُحَصِّلُ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً. فَمِنْهُمْ الْمُقَاتِلَةُ: الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ النُّصْرَةِ وَالْجِهَادِ، وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالْفَيْءِ، فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمْ؛ حَتَّى اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مَالِ الْفَيْءِ: هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ بِهِمْ، أَوْ مُشْتَرَكٌ فِي جَمِيعِ الْمَصَالِحِ؟ وَأَمَّا سَائِرُ الْأَمْوَالِ السُّلْطَانِيَّةِ فَلِجَمِيعِ الْمَصَالِحِ وِفَاقًا، إلَّا مَا خَصَّ بِهِ نوع، كَالصَّدَقَاتِ وَالْمَغْنَمِ. وَمِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ ذَوُو الْوِلَايَاتِ عَلَيْهِمْ: كَالْوُلَاةِ، وَالْقُضَاةِ، وَالْعُلَمَاءِ، وَالسُّعَاةِ عَلَى الْمَالِ: جَمْعًا، وَحِفْظًا، وَقِسْمَةً، وَنَحْوَ ذَلِكَ؛ حَتَّى أَئِمَّةِ الصَّلَاةِ والمؤذنين ونحو ذلك. وكذا صرفه فِي الْأَثْمَانِ وَالْأُجُورِ، لِمَا يَعُمُّ نَفْعُهُ: مِنْ سَدَادِ الثُّغُورِ بِالْكُرَاعِ، وَالسِّلَاحِ، وَعِمَارَةُ مَا يُحْتَاجُ إلَى عِمَارَتِهِ مِنْ طُرُقَاتِ النَّاسِ: كَالْجُسُورِ وَالْقَنَاطِرِ، وَطُرُقَاتِ الْمِيَاهِ كَالْأَنْهَارِ. وَمِنْ الْمُسْتَحِقِّينَ: ذَوُو الْحَاجَاتِ؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا هَلْ يُقَدَّمُونَ فِي غَيْرِ الصَّدَقَاتِ، مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ؛ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُقَدَّمُونَ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمَالُ اُسْتُحِقَّ بالإِسلام، فَيَشْتَرِكُونَ فِيهِ، كَمَا يَشْتَرِكُ الْوَرَثَةُ فِي الْمِيرَاثِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يُقَدَّمُونَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَدِّمُ ذَوِي الْحَاجَاتِ، كَمَا قَدَّمَهُمْ فِي مَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ؛ إنما
(1/42)
هُوَ الرَّجُلُ وَسَابِقَتُهُ، وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ فَجَعَلَهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: ذَوُو السَّوَابِقِ الَّذِينَ بِسَابِقَتِهِمْ حَصَلَ الْمَالُ. الثَّانِي: مَنْ يُغْنِي عَنْ الْمُسْلِمِينَ في جلب المنافع لهم، كولاة الأمور والعلماء الذين يجتلبون لَهُمْ مَنَافِعَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. الثَّالِثُ: مَنْ يُبْلِي بلاء حسناً في دفع الضرر عنهم، كالجاهدين فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ الْأَجْنَادِ وَالْعُيُونِ مِنْ القصاد والناسحين وَنَحْوِهِمْ. الرَّابِعُ: ذَوُو الْحَاجَاتِ. وَإِذَا حَصَلَ مِنْ هَؤُلَاءِ مُتَبَرِّعٌ، فَقَدْ أَغْنَى اللَّهُ بِهِ؛ وَإِلَّا أُعْطِيَ مَا يَكْفِيهِ، أَوْ قَدْرَ عَمَلِهِ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعَطَاءَ يَكُونُ بِحَسَبِ مَنْفَعَةِ الرَّجُلِ، وَبِحَسَبِ حَاجَتِهِ فِي مَالِ الْمَصَالِحِ وَفِي الصَّدَقَاتِ أيضا، فما زاد على ذلك لا يستحقه الرَّجُلُ، إلَّا كَمَا يَسْتَحِقُّهُ نُظَرَاؤُهُ: مِثْلَ أَنْ يَكُونَ شَرِيكًا فِي غَنِيمَةٍ، أَوْ مِيرَاثٍ. وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا مَا لَا يَسْتَحِقَّهُ لِهَوَى نَفْسِهِ: مِنْ قَرَابَةٍ بَيْنَهُمَا، أَوْ مَوَدَّةٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُعْطِيَهُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْهُ، كَعَطِيَّةِ الْمُخَنَّثِينَ مِنْ الصبيان المردان: الأحرار والمماليك ونحوهم، والبغايا والمغني، وَالْمَسَاخِرِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ إعْطَاءِ الْعَرَّافِينَ مِنْ الْكُهَّانِ وَالْمُنَجِّمِينَ وَنَحْوِهِمْ. لَكِنْ يَجُوزُ -بَلْ يَجِبُ- الْإِعْطَاءُ لِتَأْلِيفِ مِنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِ قَلْبِهِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ ذَلِكَ، كَمَا أَبَاحَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ العطاء للمؤلفة
(1/43)
قلوبهم من الصدقات، وكما كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْفَيْءِ وَنَحْوِهِ، وَهُمْ السَّادَةُ الْمُطَاعُونَ فِي عَشَائِرِهِمْ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَيِّدَ بَنِي تَمِيمٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ سَيِّدَ بَنِي فَزَارَةَ، وَزَيْدَ الْخَيْرِ الطَّائِيَّ سَيِّدَ بَنِي نَبْهَانَ، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيَّ سَيِّدَ بَنِي كِلَابٍ، وَمِثْلَ سَادَاتِ قُرَيْشٍ مِنْ الطُّلَقَاءِ: كَصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَعِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ، وَأَبِي سفيان بن حرب، وسهيل بن عمرو، وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، وَعَدَدٍ كَثِيرٍ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «بَعَثَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْيَمَنِ بِذُهَيْبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بين أربعة: الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ، وعيينِة بْنِ حِصْنٍ الفزاري، وَعَلْقَمَةَ بْنَ عُلَاثَةَ الْعَامِرِيَّ، سَيِّدَ بَنِي كِلَابٍ، وزيد الخير الطائي، سيد بَنِي نَبْهَانَ. قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالْأَنْصَارُ، فَقَالُوا: يعطي صناديد نجد ويدعنا: فقال رسول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنِّي إنَّمَا فَعَلْتُ ذلك لتأليفهم ". فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، غَائِرُ العينين، ناتئ الجبين، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فمن يتق الله إن عصيته؟ أيأمنني على أَهْلُ الْأَرْضِ وَلَا تَأْمَنُونِي؟ ! " قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» . وَعَنْ رافع بن خديج -رضي الله عَنْهُ- قَالَ: «أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ
(1/44)
حَابِسٍ، كُلَّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنْ الإِبل، وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك، فقال عباس بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعَبِيدِ ... بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يفوقان مرداس فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ يُخْفَضْ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعُ
قَالَ: فَأَتَمَّ له رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً.» رواه مسلم و " العبيد " اسْمُ فَرَسٍ لَهُ. وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ نَوْعَانِ: كَافِرٌ ومسلم؛ فالكافر: إما أن يرجى بعطيته منفعة: كإسلامه؛ أر دَفْعُ مَضَرَّتِهِ، إذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِذَلِكَ. وَالْمُسْلِمُ الْمُطَاعُ يُرْجَى بِعَطِيَّتِهِ الْمَنْفَعَةُ أَيْضًا، كَحُسْنِ إسْلَامِهِ. أَوْ إسْلَامِ نَظِيرِهِ، أَوْ جِبَايَةِ الْمَالِ ممن لا يعطيه إلا لخوف، أو النكايةَ فِي الْعَدُوِّ، أَوْ كَفِّ ضَرَرِهِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، إذَا لَمْ يَنْكَفَّ إلَّا بِذَلِكَ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَطَاءِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إعْطَاءَ الرُّؤَسَاءِ وَتَرْكَ الضُّعَفَاءِ، كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ؛ فَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ؛ فَإِذَا كَانَ الْقَصْدُ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الدِّينِ وَأَهْلِهِ، كان من جنى عطاء النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه، وإن كان المقصود العلو في الأرض والفساد، كَانَ مِنْ جِنْسِ عَطَاءِ فِرْعَوْنَ؛ وَإِنَّمَا يُنْكِرُهُ ذَوُو الدِّينِ الْفَاسِدِ كَذِي الْخُوَيْصِرَةِ الَّذِي أَنْكَرَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى قال فيه ما قال، وكذلك حِزْبُهُ الْخَوَارِجُ أَنْكَرُوا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَا قَصَدَ بِهِ الْمَصْلَحَةَ مِنْ التَّحْكِيمِ، وَمَحْوِ اسْمِهِ، وَمَا تَرَكَهُ مِنْ سَبْيِ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَصِبْيَانِهِمْ. وَهَؤُلَاءِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ، لِأَنَّ مَعَهُمْ دِينًا فَاسِدًا لَا يَصْلُحُ بِهِ دُنْيَا وَلَا
(1/45)
آخِرَةٌ، وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ الْوَرَعُ الْفَاسِدُ بِالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ: فَإِنَّ كِلَيْهِمَا فِيهِ تَرْكٌ؛ فَيَشْتَبِهُ تَرْكُ الْفَسَادِ؛ لِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَرْكِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ الْجِهَادِ وَالنَّفَقَةِ: جُبْنًا وَبُخْلًا، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَرُّ مَا فِي الْمَرْءِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَكَذَلِكَ قَدْ يَتْرُكُ الْإِنْسَانُ الْعَمَلَ ظَنًّا أَوْ إظْهَارًا أَنَّهُ وَرَعٌ؛ وَإِنَّمَا هُوَ كِبْرٌ وَإِرَادَةٌ لِلْعُلُوِّ: وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ كَامِلَةٌ، فَإِنَّ النِّيَّةَ لِلْعَمَلِ، كَالرُّوحِ لِلْجَسَدِ، وَإِلَّا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّاجِدِ لِلَّهِ، وَالسَّاجِدِ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، قَدْ وَضَعَ جَبْهَتَهُ عَلَى الْأَرْضِ، فَصُورَتُهُمَا وَاحِدَةٌ؛ ثُمَّ هَذَا أَقْرَبُ الْخَلْقِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا أَبْعَدُ الْخَلْقِ عَنْ اللَّهِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] (سورة البلد: من الآية 17) . وَفِي الْأَثَرِ: أَفْضَلُ الْإِيمَانِ: السَّمَاحَةُ وَالصَّبْرُ. فَلَا تتم رِعَايَةُ الْخَلْقِ وَسِيَاسَتُهُمْ إلَّا بِالْجُودِ، الَّذِي هُوَ الْعَطَاءُ؛ وَالنَّجْدَةِ، الَّتِي هِيَ الشَّجَاعَةُ؛ بَلْ لَا يصلح الدين والدنيا إلا بذلك. ولهذا كان مَنْ لَا يَقُومُ بِهِمَا سَلَبَهُ الْأَمْرُ، وَنَقَلَهُ إلَى غَيْرِهِ؛ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ - إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة: 38 - 39] (سورة التوبة: الآيتان 38، 39) . وَقَالَ تَعَالَى: {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] (سورة محمد: الآية 38) . وقد
(1/46)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] (سورة الحديد: من الآية 10) . فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْإِنْفَاقِ الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ، وَالْقِتَالِ الَّذِي هُوَ الشَّجَاعَةُ؛ وَكَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] (سورة التوبة: من الآية 41) . وَبَيَّنَ أَنَّ الْبُخْلَ مِنْ الْكَبَائِرِ، فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 180] (سورة آل عمران: من الآية 180) . وَفِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] (سورة التوبة: من الْآيَةَ 34) . وَكَذَلِكَ الْجُبْنُ فِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال: 16] (سورة الأنفال: الآية 16) . وَفِي قَوْله تَعَالَى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة: 56] (سورة التوبة: الآية 56) . وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُوَ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ، حَتَّى إنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي الْأَمْثَالِ الْعَامِّيَّةِ: " لَا طَعْنَةَ وَلَا جَفْنَةَ " وَيَقُولُونَ: " لَا فَارِسَ الْخَيْلِ، وَلَا وَجْهَ الْعَرَبِ ". وَلَكِنْ افْتَرَقَ النَّاسُ هُنَا ثَلَاثَ فِرَقٍ: فَرِيقٌ غَلَبَ عَلَيْهِمْ حُبُّ الْعُلُوِّ فِي الْأَرْضِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ يَنْظُرُوا فِي عَاقِبَةِ الْمَعَادِ، وَرَأَوْا أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَقُومُ إلَّا بِعَطَاءٍ، وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى الْعَطَاءُ إلَّا بِاسْتِخْرَاجِ أَمْوَالٍ مِنْ غَيْرِ حلها؛ فصاروا فهابين وَهَّابِينَ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَوَلَّى على الناس إلا من يأكل وطعم، فإنه إذا تولى العفيف الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَطْعَمُ سَخِطَ عَلَيْهِ الرؤساء
(1/47)
وَعَزَلُوهُ؛ إنْ لَمْ يَضُرُّوهُ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. وَهَؤُلَاءِ نَظَرُوا فِي، عَاجِلِ دُنْيَاهُمْ، وَأَهْمَلُوا الْآجِلَ مِنْ دُنْيَاهُمْ وَآخِرَتِهِمْ، فَعَاقِبَتُهُمْ عَاقِبَةٌ رَدِيئَةٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، إنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُمْ مَا يُصْلِحُ عَاقِبَتَهُمْ مِنْ تَوْبَةٍ وَنَحْوِهَا. وَفَرِيقٌ عِنْدَهُمْ خَوْفٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَدِينٌ يَمْنَعُهُمْ عَمَّا يَعْتَقِدُونَهُ قَبِيحًا مِنْ ظُلْمِ الْخَلْقِ، وَفِعْلِ الْمَحَارِمِ، فَهَذَا حَسَنٌ وَاجِبٌ؛ وَلَكِنْ قَدْ يَعْتَقِدُونَ مَعَ ذَلِكَ: أَنَّ السِّيَاسَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمَا يفعله أولئك من الحرام، فيمتنعون عَنْهَا مُطْلَقًا، وَرُبَّمَا كَانَ فِي نُفُوسِهِمْ جُبْنٌ أَوْ بُخْلٌ، أَوْ ضِيقُ خُلُقٍ يَنْضَمُّ إلَى مَا مَعَهُمْ مِنْ الدِّينِ، فَيَقَعُونَ أَحْيَانًا فِي تَرْكِ وَاجِبٍ، يَكُونُ تَرْكُهُ أَضَرَّ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ، أَوْ يَقَعُونَ فِي النَّهْيِ عَنْ وَاجِبٍ، يَكُونُ النَّهْيُ عَنْهُ مِنْ الصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدْ يَكُونُونَ مُتَأَوِّلِينَ. وَرُبَّمَا اعْتَقَدُوا أَنَّ إنْكَارَ ذَلِكَ وَاجِبٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقِتَالِ، فَيُقَاتِلُونَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَتْ الْخَوَارِجُ، وَهَؤُلَاءِ لَا تَصْلُحُ بِهِمْ الدُّنْيَا وَلَا الدِّينُ الْكَامِلُ؛ لَكِنْ قَدْ يَصْلُحُ بِهِمْ كَثِيرٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدِّينِ وَبَعْضُ أُمُورِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يُعْفَى عَنْهُمْ فيما اجتهدوا فيه فأخطأوا، وَيُغْفَرُ لَهُمْ قُصُورُهُمْ، وَقَدْ يَكُونُونَ مِنْ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ مَنْ لَا يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ، ولا يرى أنه يتألف الناس من الكفار وَالْفُجَّارِ؛ لَا بِمَالٍ وَلَا بِنَفْعٍ، وَيَرَى أَنَّ إعْطَاءَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ نَوْعِ الْجَوْرِ وَالْعَطَاءِ الْمُحَرَّمِ. الْفَرِيقُ الثَّالِثُ: الْأَمَةُ الْوَسَطُ، وَهُمْ أَهْلُ دِينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُلَفَاؤُهُ عَلَى عَامَّةِ النَّاسِ وَخَاصَّتِهِمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ وَالْمَنَافِعِ لِلنَّاسِ -وَإِنْ كَانُوا رُؤَسَاءَ- بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، إلَى صَلَاحِ الْأَحْوَالِ، وَلِإِقَامَةِ الدِّينِ، وَالدُّنْيَا الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا الدِّينُ، وَعِفَّتُهُ فِي نَفْسِهِ، فَلَا يَأْخُذُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ
(1/48)
فَيَجْمَعُونَ بَيْنَ التَّقْوَى والإِحسان {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل: 128] (سورة النحل: الآية 128) . وَلَا تَتِمُّ السِّيَاسَةُ الدِّينِيَّةُ إلَّا بِهَذَا، وَلَا يَصْلُحُ الدِّينُ وَالدُّنْيَا إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ. وَهَذَا هو الذي يطعم الناس ما يحتاجون إلى طَعَامِهِ، وَلَا يَأْكُلُ هُوَ إلَّا الْحَلَالَ الطَّيِّبَ، ثم هذا يكفيه من الإنفاق أقل مما يحتاج إليه الأول، فَإِنَّ الَّذِي يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ، تَطْمَعُ فِيهِ النُّفُوسُ، ما لا تطمع في العفيف، ويصلح به الناس في ديتهم مَا لَا يَصْلُحُونَ بِالثَّانِي؛ فَإِنَّ الْعِفَّةَ مَعَ الْقُدْرَةِ تُقَوِّي حُرْمَةَ الدِّينِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ: «أَنَّ هِرَقْلَ مِلْكَ الروم سأله عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِمَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالصِّلَةِ» . وَفِي الْأَثَرِ: " أَنَّ اللَّه أَوْحَى إلَى إبْرَاهِيمَ الخليل عليه السلام: يَا إبْرَاهِيمُ: أَتَدْرِي لِمَ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا؟ لِأَنِّي رأيت العطاء أحب إليك من الأخذة. وهذا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الرِّزْقِ، وَالْعَطَاءِ، الَّذِي هُوَ السَّخَاءُ، وَبَذْلُ الْمَنَافِعِ، نَظِيرُهُ فِي الصَّبْرِ وَالْغَضَبِ، الذي هو الشجاعة ودفع المضار. فإن النَّاسَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَغْضَبُونَ لِنُفُوسِهِمْ وَلِرَبِّهِمْ. وَقِسْمٌ لَا يِغضبون لِنُفُوسِهِمْ وَلَا لِرَبِّهِمْ. وَالثَّالِثُ -هو الوسط- الذي يغضب لربه لَا لِنَفْسِهِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ: خَادِمًا لَهُ، وَلَا امْرَأَةً، وَلَا دَابَّةً، وَلَا شَيْئًا قَطُّ، إلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَانْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتِ اللَّهِ، فَإِذَا اُنْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللَّهِ لَمْ يَقُمْ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ حَتَّى ينتقم لله» .
(1/49)
فأما من يغضبه لِنَفْسِهِ لَا لِرَبِّهِ، أَوْ يَأْخُذُ لِنَفْسِهِ وَلَا يُعْطِي غَيْرَهُ. فَهَذَا الْقِسْمُ الرَّابِعُ، شَرُّ الْخَلْقِ؛ لَا يَصْلُحُ بِهِمْ دِينٌ وَلَا دُنْيَا. كَمَا أَنَّ الصَّالِحِينَ أَرْبَابَ السِّيَاسَةِ الْكَامِلَةِ، هُمْ الَّذِينَ قَامُوا بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرَكُوا الْمُحَرَّمَاتِ، وَهُمْ الَّذِينَ يُعْطُونَ مَا يُصْلِحُ الدِّينَ بِعَطَائِهِ، وَلَا يَأْخُذُونَ إلَّا مَا أُبِيحَ لَهُمْ، وَيَغْضَبُونَ لِرَبِّهِمْ إذَا اُنْتُهِكَتْ محارمه، ويعفون عن حقوقهم، وهذه أَخْلَاقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بذله ودفعه، وهي أكمل الأمور. وكل ما كَانَ إلَيْهَا أَقْرَبَ، كَانَ أَفْضَلَ. فَلْيَجْتَهِدْ الْمُسْلِمُ في التقرب إليها بجهده، وَيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ قُصُورِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ كَمَالَ مَا بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الدِّينِ، فَهَذَا فِي قَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] (سورة النساء: من الآية 58) والله أعلم.
(1/50)
[فصل الحكم بين الناس]
[القسم الْأَوَّلُ الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ وتسمى حدود الله]
فصل وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] (سورة النساء: من الآية 58) . فَإِنَّ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، يَكُونُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، وَهُمَا قِسْمَانِ. فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لَيْسَتْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ؛ بَلْ مَنْفَعَتُهَا لِمُطْلَقِ الْمُسْلِمِينَ، أَوْ نَوْعٍ مِنْهُمْ. وَكُلُّهُمْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا. وَتُسَمَّى حُدُودَ اللَّهِ، وَحُقُوقَ اللَّهِ: مِثْلَ حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ، وَالسُّرَّاقِ، وَالزُّنَاةِ وَنَحْوِهِمْ، وَمِثْلَ الْحُكْمِ في الأموال السُّلْطَانِيَّةِ، وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا الَّتِي لَيْسَتْ لِمُعَيَّنٍ. فَهَذِهِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الْوِلَايَاتِ؛ وَلِهَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ إمَارَةٍ: بَرَّةً كَانَتْ أَوْ فَاجِرَةً. فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ الْبَرَّةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا. فَمَا بَالُ الْفَاجِرَةِ؛ فَقَالَ: يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ، وَتَأْمَنُ بِهَا السُّبُلُ، وَيُجَاهَدُ بِهَا الْعَدُوُّ، وَيُقْسَمُ بِهَا الْفَيْءُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ عَلَى الْوُلَاةِ الْبَحْثُ عَنْهُ، وَإِقَامَتُهُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَكَذَلِكَ تُقَامُ الشَّهَادَةُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى أَحَدٍ بِهِ، وَإِنْ كَانَ الْفُقَهَاءُ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ: هَلْ يَفْتَقِرُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بِمَالِهِ؛ عَلَى قولين في مذهب أحمد وغيره؛ لكنهم متفقون عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُطَالَبَةِ الْمَسْرُوقِ بالحد، وَقَدْ اشْتَرَطَ بَعْضُهُمْ الْمُطَالَبَةَ بِالْمَالِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فِيهِ شُبْهَةٌ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَجِبُ إقَامَتُهُ عَلَى الشَّرِيفِ، وَالْوَضِيعِ، وَالضَّعِيفِ، وَلَا يَحِلُّ تَعْطِيلُهُ؛ لَا بِشَفَاعَةٍ، وَلَا بِهَدِيَّةٍ، وَلَا بِغَيْرِهِمَا، وَلَا تَحِلُّ الشَّفَاعَةُ فِيهِ. وَمَنْ
(1/51)
عَطَّلَهُ لِذَلِكَ -وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى إقَامَتِهِ- فَعَلَيْهِ لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، وَهُوَ ممن اشترى؛ بآيات الله ثمنا قليلاً. وروى أَبُو دَاوُد فِي سُنَنِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عمر -رضي الله عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ. وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ حَتَّى يَنْزِعَ. وَمَنْ قَالَ فِي مُسْلِمٍ دَيِّنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، حُبِسَ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ. قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا ردغة الخبال؟ قال عصارة أهل الناري» . فذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحكماء وَالشُّهَدَاءَ وَالْخُصَمَاءَ، وَهَؤُلَاءِ أَرْكَانُ الْحُكْمِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «إنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا: مَنْ يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالُوا: وَمَنْ يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إلَّا أُسَامَةُ بْنُ زيد. فقال: يَا أُسَامَةُ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ إنَّمَا هَلَكَ بَنُو إسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ، لَقَطَعْتُ يَدَهَا» . فَفِي هَذِهِ الْقِصَّةِ عِبْرَةٌ؛ فَإِنَّ أَشْرَفَ بَيْتٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَطْنَانِ: بَنُو مَخْزُومٍ، وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ. فَلَمَّا وَجَبَ عَلَى هَذِهِ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهَا -الَّتِي هِيَ جُحُودُ العارية، على قول بعض العلماء، أو سرقة أخرى غيرها عَلَى قَوْلِ آخَرِينَ- وَكَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْقَبَائِلِ، وَأَشْرَفِ الْبُيُوتِ، وَشَفَعَ فِيهَا حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةُ، غَضِبَ رَسُولُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ دُخُولَهُ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الشَّفَاعَةُ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ ضَرَبَ الْمَثْلَ بِسَيِّدَةِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ -وَقَدْ بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ- فَقَالَ: " لَوْ أَنَّ فاطمة بنت محمد
(1/52)
وَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي قُطِعَتْ يَدُهَا تَابَتْ، وَكَانَتْ تَدْخُلُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقْضِي حَاجَتَهَا» . فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ السَّارِقَ إذَا تَابَ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى الْجَنَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ سَبَقَتْهُ يَدُهُ إلَى النَّارِ» . وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّ جَمَاعَةً أَمْسَكُوا لِصًّا لِيَرْفَعُوهُ إلَى عُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَتَلَقَّاهُمْ الزُّبَيْرُ فَشَفَعَ فِيهِ فَقَالُوا: إذَا رُفِعَ إلَى عُثْمَانَ فَاشْفَعْ فِيهِ عِنْدَهُ فَقَالَ: " إذَا بَلَغَتْ الْحُدُودُ السُّلْطَانَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفِّعَ ". يَعْنِي الَّذِي يَقْبَلُ الشَّفَاعَةَ. «وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ نَائِمًا عَلَى رِدَاءٍ لَهُ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَ لِصٌّ فَسَرَقَهُ، فَأَخَذَهُ فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِقَطْعِ يَدِهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَعْلَى رِدَائِي تُقْطَعُ يَدُهُ؟ أَنَا أَهَبُهُ لَهُ. فَقَالَ: " فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟ ! " ثُمَّ قَطَعَ يَدَهُ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، يَعْنِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّكَ لَوْ عَفَوْتُ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ لَكَانَ، فَأَمَّا بَعْدَ أَنْ رفع إلي فلا. فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَدِّ، لَا بِعَفْوٍ، وَلَا بِشَفَاعَةٍ، وَلَا بِهِبَةٍ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا اتفق العلماء -فيما أعلم- على أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ وَاللِّصَّ وَنَحْوَهُمَا إذَا رُفِعُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ ثُمَّ تَابُوا بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ عَنْهُمْ؛ بَلْ تَجِبُ إقَامَتُهُ وإن تابوا فإن كَانُوا صَادِقِينَ فِي التَّوْبَةِ كَانَ الْحَدُّ كَفَّارَةً لهم، وكان تمكينهم من ذلك من تَمَامُ التَّوْبَةِ -بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْحُقُوقِ إلَى أَهْلِهَا، والتمكين مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَأَصْلُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا} [النساء: 85] (سورة النساء: الآية 85) . فإن الشفاعة إعانة الطالب حتى يصير مَعَهُ شَفْعًا، بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا، فَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى بِرٍّ وَتَقْوَى، كَانَتْ
(1/53)
شَفَاعَةً حَسَنَةً، وَإِنْ أَعَانَهُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ، كَانَتْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً. وَالْبِرُّ مَا أُمِرْتَ بِهِ، والإِثم مَا نُهِيتَ عَنْهُ. وَإِنْ كَانُوا كَاذِبِينَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34] (سورة المائدة: الآيتان 33، 34) . فَاسْتَثْنَى التَّائِبِينَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ فَقَطْ، فَالتَّائِبُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ بَاقٍ فِيمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ؛ لِلْعُمُومِ، وَالْمَفْهُومِ، وَالتَّعْلِيلِ. هَذَا إذَا كَانَ قَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ. فَأَمَّا إذَا كَانَ بِإِقْرَارٍ، وَجَاءَ مُقِرًّا بِالذَّنْبِ تَائِبًا: فَهَذَا فِيهِ نِزَاعٌ مَذْكُورٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَظَاهِرُ مَذْهَبِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ لَا تَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ؛ بَلْ إنْ طَلَبَ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ أُقِيمَ، وَإِنْ ذَهَبَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدٌّ. وَعَلَى هَذَا حَمْلُ حَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا قَالَ: " فَهَلَّا تَرَكْتُمُوهُ " وَحَدِيثُ الَّذِي قَالَ " أَصَبْتُ حَدًّا فَأَقِمْهُ " مَعَ آثَارٍ أُخَرَ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عبد الله بن عمرو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «تَعَافُوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ، فَمَا بَلَغَنِي من حد فقد وجب» . وفي سن النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، قَالَ: «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا» . وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ سَبَبٌ لِنَقْصِ الرِّزْقِ وَالْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ والسنَّة، فَإِذَا أُقِيمَتْ الْحُدُودُ، ظَهَرَتْ طَاعَةُ اللَّهِ، وَنَقَصَتْ مَعْصِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى،
(1/54)
فَحَصَلَ الرِّزْقُ وَالنَّصْرُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ الزَّانِي أَوْ السَّارِقِ أَوْ الشَّارِبِ أَوْ قاطع الطريق ونحوهم مَالٌ تُعَطَّلُ بِهِ الْحُدُودُ؛ لَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَا لِغَيْرِهِ. وَهَذَا الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِتَعْطِيلِ الْحَدِّ سُحْتٌ خَبِيثٌ، وَإِذَا فَعَلَ وَلِيُّ الْأَمْرِ ذَلِكَ فَقَدْ جَمَعَ فَسَادَيْنِ عَظِيمَيْنِ: (أَحَدُهُمَا) : تَعْطِيلُ الْحَدِّ، و (الثاني) : أَكْلُ السُّحْتِ. فَتَرَكَ الْوَاجِبَ وَفَعَلَ الْمُحَرَّمَ. قَالَ الله تَعَالَى: {لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] (سورة المائدة: الآية 63) . وقال الله تَعَالَى عَنْ الْيَهُودِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] (سورة المائدة: من الآية 42) . لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ مِنْ الرِّشْوَةِ الَّتِي تُسَمَّى الْبِرْطِيلَ، وَتُسَمَّى أَحْيَانًا الْهَدِيَّةَ وَغَيْرَهَا. وَمَتَى أَكَلَ السُّحْتَ وَلِيُّ الْأَمْرِ احْتَاجَ أَنْ يَسْمَعَ الْكَذِبَ مِنْ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا. وَقَدْ «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ والمرتشي والرائش -الواسطة- الذي بَيْنَهُمَا» رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَالَ صَاحِبُهُ -وَكَانَ أَفْقَهُ مِنْهُ- نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ! اقْضِ بَيْنَنَا بكتاب الله، وائذن لي، فقال: قل. فَقَالَ: إنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا فِي أَهْلِ هَذَا -يَعْنِي أَجِيرًا- فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بمائة شاة وخادم. وإني سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتخريب عَامٍ، وَأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ. فَقَالَ: " والذي نفسي بيده، لأفضي! ن بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ: الْمِائَةُ وَالْخَادِمُ رَدٌّ عَلَيْكَ. وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَاسْأَلْهَا، فَإِنْ اعترفت
(1/55)
فَارْجُمْهَا ". فَسَأَلَهَا، فَاعْتَرَفَتْ، فَرَجَمَهَا» . فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ، أَنَّهُ لَمَّا بَذَلَ عَنْ الْمُذْنِبِ هَذَا الْمَالَ لِدَفْعِ الْحَدِّ عَنْهُ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ، وَأَمَرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ. وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: مِنْ الْمُجَاهِدِينَ وَالْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ تَعْطِيلَ الْحَدِّ بِمَالٍ يُؤْخَذُ، أَوْ غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَالَ الْمَأْخُوذَ مِنْ الزَّانِي، وَالسَّارِقِ وَالشَّارِبِ، وَالْمُحَارِبِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ ونحو ذلك لتعطيل الحد، ممال سحت خبيث. وكثير مِمَّا يُوجِدُ مِنْ فَسَادِ أُمُورِ النَّاسِ، إنَّمَا هو لتعطيل الْحَدِّ بِمَالٍ أَوْ جَاهٍ، وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْأَسْبَابِ الَّتِي هِيَ فَسَادُ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى وَالْأَمْصَارِ: مِنْ الْأَعْرَابِ، وَالتُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ كَقَيْسٍ، وَيَمَنٍ، وَأَهْلِ الْحَاضِرَةِ مِنْ رُؤَسَاءِ الناس وأغنيائهم وَفُقَرَائِهِمْ، وَأُمَرَاءِ النَّاسِ وَمُقَدَّمَيْهِمْ وَجُنْدِهِمْ، وَهُوَ سَبَبُ سُقُوطِ حُرْمَةِ الْمُتَوَلِّي، وَسُقُوطِ قَدْرِهِ مِنْ الْقُلُوبِ، وَانْحِلَالِ أَمْرِهِ، فَإِذَا ارْتَشَى وَتَبَرْطَلَ عَلَى تَعْطِيلِ حَدٍّ ضَعُفَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُقِيمَ حَدًّا آخَرَ، وَصَارَ مِنْ جِنْسِ الْيَهُودِ الْمَلْعُونِينَ، وَأَصْلُ الْبِرْطِيلِ هُوَ الْحَجَرُ الْمُسْتَطِيلُ، سُمِّيَتْ بِهِ الرِّشْوَةُ، لِأَنَّهَا تَلْقُمُ الْمُرْتَشِيَ عَنْ التَّكَلُّمِ بِالْحَقِّ كَمَا يُلْقِمُهُ الْحَجَرُ الطَّوِيلُ، كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: " إذَا دَخَلَتْ الرِّشْوَةُ مِنْ الْبَابِ، خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ من الكوة، وكذلك إذا أخذ مال للدولة على ذلك، مثل هذا السُّحْتِ الَّذِي يُسَمَّى التَّأْدِيبَاتِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَعْرَابَ الْمُفْسِدِينَ أَخَذُوا لِبَعْضِ النَّاسِ، ثُمَّ جَاءُوا إلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ فَقَادُوا إلَيْهِ خَيْلًا يُقَدِّمُونَهَا لَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، كَيْفَ يَقْوَى طَمَعُهُمْ فِي الْفَسَادِ، وَتَنْكَسِرُ حُرْمَةُ الْوِلَايَةِ وَالسَّلْطَنَةِ، وَتَفْسُدُ الرعية؟ ؟ !
(1/56)
وَكَذَلِكَ الْفَلَّاحُونَ وَغَيْرُهُمْ، وَكَذَلِكَ شَارِبُ الْخَمْرِ إذَا أخذ فدفع بعض مَالَهُ: كَيْفَ يَطْمَعُ الْخَمَّارُونَ، فَيَرْجُونَ إذَا أَمْسَكُوا أن يفتدوا ببعض أموالهم، فيأخذها ذلك الوالي سحتاً، لا يبارك فيها، والفساد قائم. وكذلك ذوو الجاه، إذا حموا أَحَدًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، مِثْلَ أَنْ يَرْتَكِبَ بَعْضُ الْفَلَّاحِينَ جَرِيمَةً، ثُمَّ يَأْوِي إلَى قرية نائب السلطان أو أميره فَيُحْمَى عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ الَّذِي حَمَاهُ، مِمَّنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» فَكُلُّ مَنْ آوَى مُحْدِثًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُحْدِثِينَ، فَقَدْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ: «إنَّ مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ» . فَكَيْفَ بِمَنْ مَنَعَ الْحُدُودَ بِقُدْرَتِهِ وَيَدِهِ، وَاعْتَاضَ عَنْ الْمُجْرِمِينَ بِسُحْتٍ. مِنْ الْمَالِ يَأْخُذُهُ، لَا سِيَّمَا الْحُدُودَ عَلَى سُكَّانِ الْبَرِّ؛ فَإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ فَسَادِهِمْ حِمَايَةَ الْمُعْتَدِينَ مِنْهُمْ بِجَاهٍ أَوْ مَالٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لِبَيْتِ الْمَالِ أَوْ لِلْوَالِي: سِرًّا أَوْ عَلَانِيَةً، فَذَلِكَ جَمِيعُهُ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِثْلُ تَضْمِينِ الْحَانَاتِ وَالْخَمْرِ، فَإِنَّ مَنْ مَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ أَعَانَ أَحَدًا عَلَيْهِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُ، فَهُوَ مِنْ جِنْسٍ واحد. والمال المأخوذ على هذا يشبه مَا يُؤْخَذُ مِنْ مَهْرِ الْبَغْيِ، وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ، وَثَمَنِ الْكَلْبِ، وَأُجْرَةِ الْمُتَوَسِّطِ فِي الْحَرَامِ: الَّذِي يُسَمَّى الْقَوَّادَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَمَنُ الْكَلْبِ خَبِيثٌ، وَمَهْرُ الْبَغْيِ خَبِيثٌ، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ خَبِيثٌ» . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. فَمَهْرُ الْبَغْيِ الَّذِي يُسَمَّى حُدُورَ الْقِحَابِ. وَفِي مَعْنَاهُ مَا يعطاه الخنثون الصِّبْيَانُ مِنْ الْمَمَالِيكِ أَوْ الْأَحْرَارِ عَلَى الْفُجُورِ بهم، وحلوان
(1/57)
الْكَاهِنِ: مِثْلُ حَلَاوَةِ الْمُنَجِّمِ وَنَحْوِهِ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُبَشِّرَةِ بِزَعْمِهِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَوَلِيُّ الْأَمْرِ إذَا تَرَكَ إنْكَارَ الْمُنْكَرَاتِ وإقامة الحدود عليهما بِمَالٍ يَأْخُذُهُ: كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ، الَّذِي يُقَاسِمُ الْمُحَارِبِينَ عَلَى الْأَخِيذَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْقَوَّادِ الَّذِي يَأْخُذُ مَا يَأْخُذُهُ؛ لِيَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى فَاحِشَةٍ، وَكَانَ حَالُهُ شَبِيهًا بِحَالِ عَجُوزِ السُّوءِ امْرَأَةِ لُوطٍ، الَّتِي كَانَتْ تَدُلُّ الْفُجَّارَ عَلَى ضَيْفِهِ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [الأعراف: 83] (سورة الأعراف: الآية 83) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} [هود: 81] (سورة هود: من الآية 18) . فَعَذَّبَ اللَّهُ عَجُوزَ السُّوءِ الْقَوَّادَةَ بِمِثْلِ مَا عَذَّبَ قَوْمَ السُّوءِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ الْخَبَائِثَ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا جَمِيعَهُ أَخْذُ مَالٍ لِلْإِعَانَةِ على الإثم والعدوان، وولي الأمر إنما نُصِبَ لِيَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ، وَهَذَا هُوَ مَقْصُودُ الْوِلَايَةِ. فَإِذَا كَانَ الْوَالِي يُمَكِّنُ مِنْ الْمُنْكَرِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ، كَانَ قَدْ أَتَى بضد المقصود، مثل مَنْ نَصَّبْتَهُ لِيُعِينَكَ عَلَى عَدُوِّكَ، فَأَعَانَ عَدُوَّكَ عَلَيْكَ. وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ أَخَذَ مَالًا لِيُجَاهِدَ بِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَاتَلَ بِهِ الْمُسْلِمِينَ. يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّ صَلَاحَ الْعِبَادِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّ صَلَاحَ الْمَعَاشِ وَالْعِبَادِ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَبِهِ صَارَتْ هَذِهِ الْأَمَةُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] (سورة أل عمران: من الآية 110) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] (سورة آل عمران: من الآية 104) .
(1/58)
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] (سورة التوبة: من الآية 71) . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: 79] (سورة المائدة: الآية 79) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] (سورة الأعراف: الآية 165) . فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَذَابَ لَمَّا نَزَلَ نَجَّى الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ، وَأَخَذَ الظَّالِمِينَ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «خَطَبَ النَّاسَ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فقال: " أَيُّهَا النَّاسُ إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا في غَيْرِ مَوْضِعِهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105] (سورة المائدة: من الآية 105) . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " إنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الْمُنْكَرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ من عنده» . وفي حديث آخر: «إن المعصية إذا خفيت لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا، وَلَكِنْ إذَا ظَهَرَتْ فلم تنكر ضرت الْعَامَّةَ» . وَهَذَا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحُكْمِ في حدود الله وحقوقه: مقصوده الْأَكْبَرِ: هُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. فَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ: مِثْلُ الصَّلَاةِ، وَالزَّكَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالْحَجِّ، والصدق، وَالْأَمَانَةِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحُسْنِ الْعِشْرَةِ مَعَ الْأَهْلِ وَالْجِيرَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَالْوَاجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ جَمِيعَ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَمْرِهِ، وَيُعَاقِبُ التَّارِكَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ التَّارِكُونَ طَائِفَةً مُمْتَنِعَةً قُوتِلُوا عَلَى تَرْكِهَا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ يُقَاتَلُونَ عَلَى ترك الزكاة، والصيام، وغيرهما، وعلى استحلال
(1/59)
الْمُحَرَّمَاتِ الظَّاهِرَةِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا، كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، وَالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَكُلُّ طَائِفَةٍ مُمْتَنِعَةٍ عَنْ الْتِزَامِ شَرِيعَةٍ مِنْ شَرَائِعِ الإِسلام الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ يَجِبُ جِهَادُهَا، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ. وَإِنْ كَانَ التَّارِكُ لِلصَّلَاةِ وَاحِدًا فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُعَاقَبُ بِالضَّرْبِ وَالْحَبْسِ حَتَّى يُصَلِّيَ، وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الصَّلَاةِ بَعْدَ أَنْ يُسْتَتَابَ، فَإِنْ تَابَ وَصَلَّى، وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَاسِقًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ. وَأَكْثَرُ السَّلَفِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ كَافِرًا وَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِهَا، أَمَّا إذَا جَحَدَ وُجُوبَهَا، فَهُوَ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ من جحد سائر الواجبات المذكورات والمحرمات التي يجب القتال عليها. فالعقوبة على ترك الواجبات، وفعل المحرمات، هي مَقْصُودُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ وَاجِبٌ على الأمة بالاتفاق، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. وَهُوَ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ. . . «قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُهُ، أَوْ لَا تُطِيقُهُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ؟ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خَرَجَ الْمُجَاهِدُ أَنْ تَصُومَ وَلَا تُفْطِرَ، وَتَقُومَ وَلَا تَفْتُرَ؟ قَالَ: وَمَنْ يَسْتَطِيعُ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَقَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، بَيْنَ الدَّرَجَةِ إلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» كِلَاهُمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأس الأمر الإِسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله» . وقال الله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] (سورة الحجرات: الآية 15) .
(1/60)
وَقَالَ تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22] (سورة التوبة 19-22)
(1/61)
[عقوبة المحاربين]
فصل ومن ذَلِكَ عُقُوبَةُ الْمُحَارِبِينَ، وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ: الَّذِينَ يَعْتَرِضُونَ الناس بالسلاح فِي الطُّرُقَاتِ وَنَحْوِهَا، لِيَغْصِبُوهُمْ الْمَالَ مُجَاهَرَةً: مِنْ الْأَعْرَابِ، وَالتُّرْكُمَانِ، وَالْأَكْرَادِ، وَالْفَلَّاحِينَ، وَفَسَقَةِ الْجُنْدِ، أَوْ مَرَدَةِ الْحَاضِرَةِ، أَوْ غَيْرِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] (سورة المائدة: الآية 33) . وقد روى الشافعي -رحمه الله- في مسنده عن ابن عباس -رضي الله عنهما- فِي قُطَّاعِ الطَّرِيقِ- " إذَا قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا، وَإِذَا قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وَإِذَا أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا، قُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَإِذَا أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا نُفُوا مِنْ الْأَرْضِ ". وَهَذَا قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِلْإِمَامِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِيهِمْ، فَيَقْتُلَ مَنْ رَأَى قَتْلَهُ مَصْلَحَةً، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْتُلْ: مِثْلَ أَنْ يكون رئيسا مطاعاً فيهم، وَيَقْطَعَ مَنْ رَأَى قَطْعَهُ مَصْلَحَةً؛ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ فِي أَخْذِ الْمَالِ. كَمَا أَنَّ منهم من درى أنهم إذَا أَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَقُطِعُوا وَصُلِبُوا. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْأَكْثَرِ. فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ قَدْ قَتَلَ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ الإِمام حَدًّا، لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ بِحَالٍ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. ذَكَرَهُ ابْنُ المنذر، ولا
(1/62)
يَكُونُ أَمْرُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُمَا أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ الْخَاصَّةِ؛ فَإِنَّ هَذَا دَمُهُ لِأَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، إنْ أَحَبُّوا قتلوا، وإن أحبوا عفوا، وإن أحبوا أخذوا الدِّيَةَ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ لِغَرَضٍ خَاصٍّ. وَأَمَّا الْمُحَارِبُونَ فَإِنَّمَا يُقْتَلُونَ لِأَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ، فَضَرَرُهُمْ عَامٌّ؛ بمنزلة السراق، فكان قتلهم حداً لله. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ غَيْرَ مُكَافِئِ لِلْقَاتِلِ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ حُرًّا وَالْمَقْتُولُ عَبْدًا، أَوْ الْقَاتِلُ مسلماً، والمقتول ذمياً أر مُسْتَأْمَنًا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ يُقْتَلُ فِي الْمُحَارَبَةِ؛ وَالْأَقْوَى أَنَّهُ يُقْتَلُ: لِأَنَّهُ قُتِلَ لِلْفَسَادِ الْعَامِّ حَدًّا، كَمَا يُقْطَعُ إذَا أَخَذَ أَمْوَالَهُمْ، وَكَمَا يُحْبَسُ بِحُقُوقِهِمْ. وَإِذَا كَانَ الْمُحَارِبُونَ الْحَرَامِيَّةُ جَمَاعَةً، فَالْوَاحِدُ مِنْهُمْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِنَفْسِهِ، وَالْبَاقُونَ لَهُ أَعْوَانٌ وَرِدْءٌ لَهُ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ يُقْتَلُ الْمُبَاشِرُ فَقَطْ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ يُقْتَلُونَ، وَلَوْ كَانُوا مِائَةً، وَأَنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ؛ فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَتَلَ رَبِيئَةَ الْمُحَارِبِينَ، وَالرَّبِيئَةُ هُوَ النَّاظِرُ الَّذِي يَجْلِسُ عَلَى مَكَان عَالٍ، يَنْظُرُ مِنْهُ لَهُمْ من يجيء. ولأن المباشر إنما تمكن مِنْ قَتْلِهِ بِقُوَّةِ الرِّدْءِ وَمَعُونَتِهِ. وَالطَّائِفَةُ إذَا انْتَصَرَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ حَتَّى صَارُوا مُمْتَنِعِينَ فَهُمْ مُشْتَرِكُونَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، كَالْمُجَاهِدِينَ. فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى من سواهم، يرد متسريهم على قعدهم» يعني أن جيش المسالمين إذَا تَسَرَّتْ مِنْهُ سَرِيَّةٌ فَغَنِمَتْ مَالًا، فَإِنَّ الْجَيْشَ يُشَارِكُهَا فِيمَا غَنِمَتْ، لِأَنَّهَا بِظَهْرِهِ وَقُوَّتِهِ تمكنت؛ لكن تنفل
(1/63)
عنها نَفْلًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ إذَا كَانُوا فِي بِدَايَتِهِمْ الربع بعد الخمس، فإذا رجعوا إلى أوطانهم وتسرت سرية نفلهم الثلث بَعْدَ الْخُمُسِ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَنِمَ الْجَيْشُ غَنِيمَةً شَارَكَتْهُ السَّرِيَّةُ، لِأَنَّهَا فِي مَصْلَحَةِ الْجَيْشِ، كَمَا قَسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ بَعَثَهُمَا في مصلحة الجيش، فأعوان الطائفة الممتنعة، وَأَنْصَارُهَا مِنْهَا، فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَهَكَذَا الْمُقْتَتِلُونَ عَلَى بَاطِلٍ لَا تَأْوِيلَ فِيهِ؛ مِثْلُ الْمُقْتَتِلِينَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَدَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ؛ كَقَيْسٍ وَيَمَنٍ وَنَحْوِهِمَا؛ هُمَا ظَالِمَتَانِ. كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إنَّهُ أراد قتل صاحبه» . أخرجاه في الصحيحين. ولضمن كل طائفة ما أتلفته للأخرى مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ. وَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ عَيْنُ القاتل؛ لأن الطائفة الواحدة الممتنع بعضها ببعض كالشخص الواحد، وفي ذلك قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] (سورة البقرة: من الآية 178) . وَأَمَّا إذَا أَخَذُوا الْمَالَ فَقَطْ، وَلَمْ يَقْتُلُوا -كَمَا قَدْ يَفْعَلُهُ الْأَعْرَابُ كَثِيرًا- فَإِنَّهُ يُقْطَعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ يَدُهُ الْيُمْنَى، وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى، عند أكثر العلماء: كأبي حنيفة، وأحمد، وَغَيْرِهِمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ} [المائدة: 33] (سورة المائدة: من الآية 33) . تُقْطَعُ الْيَدُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَالرِّجْلُ الَّتِي يمشي عليها، وتحسم يده ورجله بِالزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ وَنَحْوِهِ؛ لِيَنْحَسِمَ الدَّمُ فَلَا يَخْرُجُ فَيُفْضِي إلَى تَلَفِهِ، وَكَذَلِكَ تُحْسَمُ يَدُ السَّارِقِ بالزيت. وهذا الفعل قد يَكُونُ أَزَجَرَ مِنْ الْقَتْلِ، فَإِنَّ الْأَعْرَابَ، وَفَسَقَةَ الْجُنْدِ وَغَيْرَهُمْ إذَا رَأَوْا دَائِمًا مَنْ هُوَ بَيْنَهُمْ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ، ذَكَرُوا بِذَلِكَ جُرْمَهُ
(1/64)
فَارْتَدَعُوا؛ بِخِلَافِ الْقَتْلِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُنْسَى؛ وَقَدْ يُؤْثِرُ بَعْضُ النُّفُوسِ الْأَبِيَّةِ قَتْلَهُ عَلَى قَطْعِ يَدِهِ وَرِجْلِهِ مِنْ خِلَافٍ، فَيَكُونُ هَذَا أَشَدَّ تَنْكِيلًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ. وَأَمَّا إذَا شَهَرُوا السِّلَاحَ وَلَمْ يَقْتُلُوا نَفْسًا، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا، ثُمَّ أغمدوه، أو هربوا، وتركوا الحراب، فإنهم ينفون. فقيل: نَفْيُهُمْ تَشْرِيدُهُمْ، فَلَا يُتْرَكُونَ يَأْوُونَ فِي بَلَدٍ. وَقِيلَ: هُوَ حَبْسُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ مَا يَرَاهُ الإمام أصلح من ففي أو حسي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْقَتْلُ الْمَشْرُوعُ: هُوَ ضَرْبُ الرقبة بالكف ونحوه، لأن ذلك أروح أَنْوَاعِ الْقَتْلِ، وَكَذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ قَتْلَ مَا يُبَاحُ قَتْلُهُ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، إذَا قُدِرَ عليه على هذا الوجه. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإِحسان عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وليحد أحد كم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ: «إنَّ أَعَفَّ النَّاسِ قِتْلَةً أَهْلُ الْإِيمَانِ» . وَأَمَّا الصَّلْبُ الْمَذْكُورُ فَهُوَ رَفْعُهُمْ عَلَى مَكَان عَالٍ لِيَرَاهُمْ النَّاسُ، وَيَشْتَهِرَ أَمْرُهُمْ، وَهُوَ بَعْدَ الْقَتْلِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُصْلَبُونَ ثُمَّ يُقْتَلُونَ وَهُمْ مُصَلَّبُونَ. وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَتْلَهُمْ بِغَيْرِ السَّيْفِ، حَتَّى قَالَ: يُتْرَكُونَ عَلَى الْمَكَانِ الْعَالِي، حَتَّى يَمُوتُوا حَتْفَ أُنُوفِهِمْ بِلَا قَتْلٍ. فَأَمَّا التَّمْثِيلُ فِي الْقَتْلِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ، وَقَدْ قَالَ عِمْرَانُ ابن حصين -رضي الله عَنْهُمَا- «مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَةً إلَّا أَمَرْنَا بِالصَّدَقَةِ، وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ، حَتَّى الْكُفَّارَ إذَا قَتَلْنَاهُمْ، فَإِنَّا لَا نُمَثِّلُ بِهِمْ بَعْدَ الْقَتْلِ، وَلَا نَجْدَعُ آذَانَهُمْ وَأُنُوفَهُمْ، وَلَا نَبْقُرُ بُطُونَهُمْ إلَّا أَنْ يكونوا فعلوا ذلك بنا، فنفعل بهم مثل ما فعلا» . وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ - وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 126 - 127] (سورة النحل: الآية 126، ومن الآية 127)
(1/65)
قِيلَ إنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا مَثَّلَ الْمُشْرِكُونَ بِحَمْزَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ أَظْفَرَنِي اللَّهُ بِهِمْ لَأُمَثِّلَنَّ بِضِعْفَيْ مَا مَثَّلُوا بِنَا» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ -وَإِنْ كَانَتْ قَدْ نَزَلَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكَّةَ، مِثْلَ قَوْلِهِ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] (سورة الإسراء: من الآية 85) . وَقَوْلِهِ: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] (سوره هود: من الآية 114) . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، ثُمَّ جَرَى بِالْمَدِينَةِ سَبَبٌ يَقْتَضِي الْخِطَابَ، فَأُنْزِلَتْ مَرَّةً ثَانِيَةً -فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، " بل نصبر ". وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الحصيب -رضي الله عنه- قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ أَوْ جَيْشٍ أَوْ في حاجه نفسه أوصاه في خاصة نفسه بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى وَبِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خيراً، ثم يقول: اغزوا بسم الله، في سَبِيلِ اللَّهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ، وَلَا تَغُلُّوا وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تُمَثِّلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلَيَدًا» . وَلَوْ شَهَرُوا السِّلَاحَ فِي الْبُنْيَانِ -لَا فِي الصَّحْرَاءِ- لِأَخْذِ الْمَالِ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّهُمْ ليسموا مُحَارِبِينَ، بَلْ هُمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِسِ وَالْمُنْتَهِبِ، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يُدْرِكُهُ الْغَوْثُ، إذَا اسْتَغَاثَ بِالنَّاسِ. وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إنَّ حُكْمَهُمْ فِي الْبُنْيَانِ وَالصَّحْرَاءِ وَاحِدٌ. وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ -فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ- وَالشَّافِعِيِّ، وَأَكْثَرِ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، وَبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، بَلْ هُمْ فِي الْبُنْيَانِ أَحَقُّ بِالْعُقُوبَةِ مِنْهُمْ فِي الصَّحْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْبُنْيَانَ مَحَلُّ الْأَمْنِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَلِأَنَّهُ مَحَلُّ تَنَاصُرِ النَّاسِ وَتَعَاوُنِهِمْ، فَإِقْدَامُهُمْ عَلَيْهِ يَقْتَضِي شِدَّةَ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ؛ وَلِأَنَّهُمْ يَسْلُبُونِ الرَّجُلَ فِي دَارِهِ جَمِيعَ مَالِهِ، وَالْمُسَافِرُ لَا يَكُونُ مَعَهُ-غَالِبًا- إلَّا بَعْضُ
(1/66)
مَالِهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ؛ لَا سِيَّمَا هَؤُلَاءِ المتحزبون (1) الَّذِينَ تُسَمِّيهِمْ الْعَامَّةُ فِي الشَّامِ وَمِصْرَ الْمَنْسَرَ (2) وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ بِبَغْدَادَ الْعَيَّارِينَ؛ وَلَوْ حَارَبُوا بِالْعِصِيِّ وَالْحِجَارَةِ الْمَقْذُوفَةِ بِالْأَيْدِي، أَوْ الْمَقَالِيعِ وَنَحْوِهَا: فَهُمْ مُحَارِبُونَ أَيْضًا. وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ لَا مُحَارَبَةَ إلَّا بِالْمُحَدَّدِ. وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ: عَلَى أَنَّ الْمُحَارَبَةَ تَكُونُ بِالْمُحَدَّدِ وَالْمُثْقَلِ. وَسَوَاءٌ كان فيه خلاف أو لَمْ يَكُنْ: فَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ مَنْ قَاتَلَ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ بِأَيِّ نوع كان من أنواع القتالة فَهُوَ مُحَارِبٌ قَاطِعٌ، كَمَا أَنَّ مَنْ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكُفَّارِ بِأَيِّ نَوْعٍ كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ فَهُوَ حَرْبِيٌّ، وَمَنْ قَاتَلَ الْكُفَّارَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَيْفٍ، أَوْ رُمْحٍ، أَوْ سَهْمٍ، أَوْ حِجَارَةٍ، أَوْ عِصِيٍّ، فَهُوَ مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَأَمَّا إذَا كَانَ يَقْتُلُ النُّفُوسَ سِرًّا، لِأَخْذِ الْمَالِ؛ مِثْلَ الَّذِي يَجْلِسُ فِي خَانٍ يُكْرِيهِ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، فَإِذَا انْفَرَدَ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ قَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ. أَوْ يَدْعُو إلَى منزله من يستأجره لخياطة، أو طب أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَيَقْتُلُهُ، وَيَأْخُذُ مَالَهُ، وَهَذَا يُسَمَّى الْقَتْلَ غِيلَةً، وَيُسَمِّيهِمْ بَعْضُ الْعَامَّةِ الْمُعَرِّجِينَ (3) فإذا كان لأخذ المال، فهل هم كالمحاربين، أو يجرى عليهم حُكْمُ الْقَوَدِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ كَالْمُحَارِبِينَ، لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْحِيلَةِ كَالْقَتْلِ مُكَابَرَةٍ، كِلَاهُمَا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ.
_________
(1) نسخة المحترفون.
(2) نسخة المفسد.
(3) نسخة المعرضين.
(1/67)
والثاني: أن المحارب هو المجاهر بالقتال، وأن هذا المغتال يكون أمره إلى ولي الدم. والأول أشبه بأصول الشريعة؛ بَلْ قَدْ يَكُونُ ضَرَرُ هَذَا أَشَدَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ أَيْضًا فِيمَنْ يَقْتُلُ السُّلْطَانُ، كَقَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَقَاتِلِ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- هَلْ هُمْ كَالْمُحَارِبِينَ، فَيُقْتَلُونَ حَدًّا، أَوْ يَكُونُ أَمْرُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الدَّمِ -عَلَى قولينِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ- لِأَنَّ فِي قتله فساداٌ عاما.
(1/68)
فصل وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِمْ. فَأَمَّا إذَا طَلَبَهُمْ السُّلْطَانُ أَوْ نُوَّابُهُ، لِإِقَامَةِ الْحَدِّ بِلَا عُدْوَانٍ فَامْتَنَعُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى يَقْدِرَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ. وَمَتَى لَمْ يَنْقَادُوا إلَّا بِقِتَالٍ يُفْضِي إلَى قَتْلِهِمْ كُلِّهِمْ قُوتِلُوا، وَإِنْ أَفْضَى إلَى ذَلِكَ؛ سَوَاءٌ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا أَوْ لَمْ يَقْتُلُوا. وَيُقْتَلُونَ فِي الْقِتَالِ كَيْفَمَا أَمْكَنَ: فِي الْعُنُقِ وغيره. ويقاتل من قاتل معهم بن يَحْمِيهِمْ وَيُعِينُهُمْ. فَهَذَا قِتَالٌ، وَذَاكَ إقَامَةُ حَدٍّ. وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ أَوْكَدُ مِنْ قَتْلِ الطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ. فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَحَزَّبُوا لِفَسَادِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَهَلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ؛ لَيْسَ مقصودهم إقامة دِينٍ وَلَا مُلْكٍ. وَهَؤُلَاءِ كَالْمُحَارِبِينَ الَّذِينَ يَأْوُونَ إلَى حِصْنٍ، أَوْ مَغَارَةٍ أَوْ رَأْسِ جَبَلٍ، أَوْ بَطْنِ وَادٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ: يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى مَنْ مَرَّ بِهِمْ، وَإِذَا جَاءَهُمْ جُنْدُ ولي الأمر يطلبهم لِلدُّخُولِ فِي طَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ والجماعةَ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ: قَاتَلُوهُمْ وَدَفَعُوهُمْ؛ مِثْلَ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ الطَّرِيقَ عَلَى الْحَاجِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الطُّرُقَاتِ، أَوْ الجبلية الَّذِينَ يَعْتَصِمُونَ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ أَوْ الْمَغَارَاتِ؛ لِقَطْعِ الطريق. وكالأحلاف الَّذِينَ تَحَالَفُوا لِقَطْعِ الطَّرِيقِ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ " النَّهِيضَةَ " (1) فَإِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ كَمَا ذَكَرْنَا: لَكِنَّ قِتَالَهُمْ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ قِتَالِ الْكُفَّارِ، إذَا لَمْ يَكُونُوا كُفَّارًا، وَلَا تُؤْخَذُ أَمْوَالُهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا أَمْوَالَ النَّاسِ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ ضَمَانَهَا، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مَا أخذوا، وإن لم
_________
(1) نسخة " النهضة " ونسخة " الهينِصة ".
(1/69)
نعلم عين الآخذ. وَكَذَلِكَ لَوْ عُلِمَ عَيْنُهُ؛ فَإِنَّ الرِّدْءَ وَالْمُبَاشِرَ سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَاهُ، لَكِنْ إذَا عُرِفَ عَيْنُهُ كَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ، وَيُرَدُّ مَا يُؤْخَذُ منهم عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ كَانَ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: مِنْ رِزْقِ الطَّائِفَةِ الْمُقَاتِلَةِ لَهُمْ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ قِتَالِهِمْ التَّمَكُّنُ مِنْهُمْ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَمَنْعُهُمْ مِنْ الْفَسَادِ، فَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ جَرْحًا مُثْخَنًا، لَمْ يُجْهَزْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمُوتَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ. وَإِذَا هَرَبَ وَكَفَانَا شَرَّهُ لَمْ نَتْبَعْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ نَخَافَ عَاقِبَتَهُ، وَمَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ الَّذِي يُقَامُ عَلَى غَيْرِهِ. وَمِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يُشَدِّدُ فِيهِمْ حَتَّى يَرَى غَنِيمَةَ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْمِيسَهَا؛ وَأَكْثَرُهُمْ يَأْبُونَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إذَا تَحَيَّزُوا إلَى مَمْلَكَةِ طَائِفَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ شريعة الإسلام، وأعانوهم على المسلمين. قوتلوا كقتالهم. وَأَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ، وَلَكِنَّهُ يأخذ خفارة أو ضريبة مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ عَلَى الرُّءُوسِ، وَالدَّوَابِّ، وَالْأَحْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا مَكَّاسٌ، عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمَكَّاسِينَ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي جَوَازِ قَتْلِهِ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ؛ فَإِنَّ الطَّرِيقَ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ، مَعَ أَنَّهُ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَامِدِيَّةِ: «لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ، لَغُفِرَ لَهُ» وَيَجُوزُ للمظلومين -الَّذِينَ تُرَادُ أَمْوَالُهُمْ- قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا يَجِبُ أَنْ يَبْذُلَ لَهُمْ مِنْ الْمَالِ لَا قَلِيلٍ وَلَا كَثِيرٍ، إذَا أَمْكَنَ قِتَالُهُمْ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فهو شهيد» .
(1/70)
وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلَ " وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا وِلَايَةٍ، فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ المال جاز دفعه بِمَا يُمْكِنُ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا بِالْقِتَالِ قُوتِلَ، وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ جَازَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ- مِثْلُ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ، أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ، أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ. فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ، وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالٍ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ، وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ، جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ. وَهَلْ يَجِبُ عليه؟ على قولين للعلماء فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَهَذَا إذَا كَانَ لِلنَّاسِ سُلْطَانٌ، فَأَمَّا إذَا كَانَ- وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ- فِتْنَةً، مِثْلُ أَنْ يَخْتَلِفَ سُلْطَانَانِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَيَقْتَتِلَانِ عَلَى الْمُلْكِ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ، إذَا دَخَلَ أَحَدُهُمَا بَلَدَ الْآخَرَ، وَجَرَى السَّيْفُ، أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ فِي الْفِتْنَةِ، أَوْ يَسْتَسْلِمَ فَلَا يُقَاتِلَ فِيهَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَإِذَا ظَفِرَ السُّلْطَانُ بِالْمُحَارِبِينَ الْحَرَامِيَّةِ -وَقَدْ أَخَذُوا الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ- فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ الَّتِي لِلنَّاسِ، وَيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ، مَعَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى أَبْدَانِهِمْ. وَكَذَلِكَ السَّارِقُ؛ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ إحْضَارِ الْمَالِ بَعْدَ ثبوته عليهم عاقبهم بالحبر وَالضَّرْبِ، حَتَّى يُمَكِّنُوا مِنْ أَخْذِهِ بِإِحْضَارِهِ أَوْ تَوْكِيلِ مَنْ يُحْضِرُهُ، أَوْ الْإِخْبَارِ بِمَكَانِهِ كَمَا يُعَاقَبُ كُلُّ مُمْتَنِعٍ عَنْ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ لِلرَّجُلِ فِي كِتَابِهِ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ إذَا نَشَزَتْ، فَامْتَنَعَتْ من الحق الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، حَتَّى تُؤَدِّيَهُ. فَهَؤُلَاءِ أَوْلَى وَأَحْرَى. وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ وَالْعُقُوبَةُ حَقٌّ لِرَبِّ الْمَالِ، فَإِنْ أَرَادَ هِبَتَهُمْ الْمَالَ، أَوْ الْمُصَالَحَةَ عَلَيْهِ؛ أَوْ العفو عن
(1/71)
عُقُوبَتِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ بِخِلَافِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ؛ فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الْعَفْوِ عَنْهُ بِحَالٍ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُلْزِمَ رَبَّ الْمَالِ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ. وَإِنْ كَانَتْ الْأَمْوَالُ قَدْ تَلِفَتْ بِالْأَكْلِ وَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ أَوْ عِنْدَ السَّارِقِ. فَقِيلَ: يَضْمَنُونَهَا لِأَرْبَابِهَا، كَمَا يَضْمَنُ سَائِرُ الْغَارِمِينَ. وهو قول الشافعي وأحمد -رضي الله عَنْهُمَا- وَتَبْقَى مَعَ الْإِعْسَارِ فِي ذِمَّتِهِمْ إلَى مَيْسَرَةٍ. وَقِيلَ: لَا يَجْتَمِعُ الْغُرْمُ وَالْقَطْعُ؛ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- وَقِيلَ: يَضْمَنُونَهَا مع اليسار فقط دون الإعسار، وهو قَوْلُ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ-. وَلَا يَحِلُّ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ جُعْلًا عَلَى طب المحاربين، ولإقامة الْحَدِّ، وَارْتِجَاعِ أَمْوَالِ النَّاسِ مِنْهُمْ، وَلَا عَلَى طَلَبِ السَّارِقِينَ، لَا لِنَفْسِهِ، وَلَا لِلْجُنْدِ الَّذِينَ يُرْسِلُهُمْ فِي طَلَبِهِمْ: بَلْ طَلَبُ هَؤُلَاءِ مِنْ نرع الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَخْرُجُ فِيهِ جُنْدُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَخْرُجُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْغَزَوَاتِ الَّتِي تُسَمَّى الْبَيْكَارَ. وَيُنْفِقُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ فِي هَذَا مِنْ الْمَالِ الَّذِي يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى سائر الغزاة، فإن كان لهم إقْطَاعٌ أَوْ عَطَاءٌ يَكْفِيهِمْ وَإِلَّا أَعْطَاهُمْ تَمَامَ كِفَايَةِ غَزْوِهِمْ مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ مِنْ الصَّدَقَاتِ؛ فَإِنَّ هَذَا مِنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَإِنْ كَانَ عَلَى أَبْنَاءِ السَّبِيلِ الْمَأْخُوذِينَ زَكَاةٌ، مِثْلُ التُّجَّارِ الَّذِينَ قَدْ يُؤْخَذُونَ، فَأَخَذَ الإِمام زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وأنفقهما فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَنَفَقَةِ الَّذِينَ يَطْلُبُونَ الْمُحَارِبِينَ جاز. وَلَوْ كَانَتْ لَهُمْ شَوْكَةٌ قَوِيَّةٌ تَحْتَاجُ إلَى تأليف، فأعطى الإِمام من الفيء والمصالح والزكاة لِبَعْضِ رُؤَسَائِهِمْ يُعِينُهُمْ عَلَى إحْضَارِ الْبَاقِينَ، أَوْ لِتَرْكِ شَرِّهِ فَيَضْعُفُ الْبَاقُونَ وَنَحْوُ ذَلِكَ جَازَ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ مِنْ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَقَدْ ذَكَرَ مِثْلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ، كَأَحْمَدَ وغيره، وهو ظاهر الكتاب والسن وأصول الشريعة.
(1/72)
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرْسِلَ الإِمام مَنْ يَضْعُفُ عَنْ مُقَاوَمَةِ الْحَرَامِيَّةِ، وَلَا مَنْ يَأْخُذُ مَالًا من المأخوذين: التجار ونحوهم مِنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ، بَلْ يُرْسِلُ مِنْ الْجُنْدِ الْأَقْوِيَاءِ الْأُمَنَاءِ؛ إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ، فَيُرْسِلَ الْأَمْثَلَ فَالْأَمْثَلَ. فَإِنْ كَانَ بَعْضُ نُوَّابِ السُّلْطَانِ أَوْ رُؤَسَاءِ الْقُرَى وَنَحْوِهِمْ يَأْمُرُونَ الْحَرَامِيَّةَ بِالْأَخْذِ فِي الْبَاطِنِ أَوْ الظَّاهِرِ، حَتَّى إذَا أَخَذُوا شيئا قاسمهم ودافع عنهم، وأرضى المأخوذين ببعض أَمْوَالِهِمْ، أَوْ لَمْ يُرْضِهِمْ، فَهَذَا أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْ مُقَدَّمِ الْحَرَامِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِدُونِ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ هَذَا. وَالْوَاجِبُ أَنْ يقال فيه ما يقال في الردء وَالْعَوْنِ لَهُمْ. فَإِنْ قُتِلُوا قُتِلَ هُوَ عَلَى قول أمير المؤمنين عمر ابن الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وإن أخذوا المال قطعت يده ورجله، وَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَتَلَ وَصَلَبَ. وَعَلَى قَوْلِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقْطَعُ وَيَقْتُلُ وَيَصْلُبُ، وَقِيلَ يُخَيَّرُ بَيْنَ هَذَيْنِ، وَإِنْ كَانَ لم يأذن لَهُمْ؛ لَكِنْ لَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ قَاسَمَهُمْ الْأَمْوَالَ، وَعَطَّلَ بَعْضَ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ. وَمَنْ آوَى مُحَارِبًا أَوْ سَارِقًا، أَوْ قَاتِلًا وَنَحْوَهُمْ. مِمَّنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ أَوْ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، أَوْ لآدمي، ومنعه أن يَسْتَوْفِي مِنْهُ الْوَاجِبَ بِلَا عُدْوَانٍ، فَهُوَ شَرِيكُهُ في الجرم، وقد لعنه الله ورسوله. روى مسلم في صحيحه، عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا» . وَإِذَا ظُفِرَ بِهَذَا الَّذِي آوَى الْمُحْدِثَ، فَإِنَّهُ طلب مِنْهُ إحْضَارُهُ، أَوْ الْإِعْلَامُ بِهِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ بِالْحَبْسِ وَالضَّرْبِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُمَكِّنَ مِنْ ذَلِكَ الْمُحْدِثِ، كَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب. فمن وَجَبَ حُضُورُهُ مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ يُعَاقَبُ مَنْ منع حضورها.
(1/73)
وَلَوْ كَانَ رَجُلًا يَعْرِفُ مَكَانَ الْمَالِ الْمَطْلُوبِ بِحَقٍّ، أَوْ الرَّجُلَ الْمَطْلُوبَ بِحَقٍّ، وَهُوَ الَّذِي يمنعه، فتنة يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْلَامُ بِهِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ كِتْمَانُهُ. فَإِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ وَاجِبٌ؛ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ النَّفْسُ أَوْ الْمَالُ مَطْلُوبًا بِبَاطِلٍ، فإنه لا يحل الْإِعْلَامُ بِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ بَلْ يَجِبُ الدَّفْعُ عَنْهُ، لِأَنَّ نَصْرَ الْمَظْلُومِ وَاجِبٌ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اُنْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ مَظْلُومًا. فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ: تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ، فَذَلِكَ نَصْرُكَ إيَّاهُ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ نَحْوَهُ عَنْ جَابِرٍ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «أَمَرَنَا رسول الله ولا بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، واتباع الجنازة، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، وإجابة الدعوة ورد السلام، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنْ الشُّرْبِ بِالْفِضَّةِ، وَعَنْ الْمَيَاثِرِ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْقَسِّيِّ وَالدِّيبَاجِ وَالْإِسْتَبْرَقِ» . فَإِنْ امْتَنَعَ هَذَا الْعَالِمُ بِهِ مِنْ الْإِعْلَامِ بِمَكَانِهِ جَازَتْ عُقُوبَتُهُ بِالْحَبْسِ وَغَيْرِهِ، حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ، لِأَنَّهُ امْتَنَعَ مِنْ حَقٍّ وَاجِبٍ عَلَيْهِ، لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ. فَعُوقِبَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا تَجُوزُ عُقُوبَتُهُ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا إذَا عُرِفَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِهِ. وَهَذَا مطرد فيما تَتَوَلَّاهُ الْوُلَاةُ وَالْقُضَاةُ وَغَيْرُهُمْ، فِي كُلِّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ وَاجِبٍ، مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وليس هذا بمطالبة لِلرَّجُلِ بِحَقٍّ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَا عُقُوبَةً عَلَى جِنَايَةِ غَيْرِهِ، حَتَّى يَدْخُلَ فِي قَوْله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ} [الإسراء: 15] (سورة الإسراء: من الآية 15) . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا لَا يَجْنِي جَانٍ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ» . وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يُطْلَبَ بِمَالٍ قَدْ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِ،
(1/74)
وهو ليس وكيلاً ولا ضامنا وَلَا لَهُ عِنْدَهُ مَالٌ. أَوْ يُعَاقَبَ الرَّجُلُ جريرة قَرِيبِهِ أَوْ جَارِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هو قَدْ أَذْنَبَ، لَا بِتَرْكِ وَاجِبٍ، وَلَا بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ، فَهَذَا الَّذِي لَا يَحِلُّ. فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عَلَى ذَنْبِ نَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ عَلِمَ مَكَانَ الظَّالِمِ، الَّذِي يُطْلَبُ حُضُورُهُ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، أَوْ يَعْلَمُ مَكَانَ الْمَالِ الَّذِي قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُقُوقُ الْمُسْتَحِقِّينَ، فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْإِعَانَةِ وَالنُّصْرَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ والسنة والإجماع، إما محاباة أو حمية لذلك الظالم، كما قد يفعل أهل العصبية بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِمَّا مُعَادَاةً أَوْ بُغْضًا لِلْمَظْلُومِ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: من الآية 8) . وإما إعراضا -عن القيام لله والقيام بِالْقِسْطِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللهَ وَجُبْنًا وَفَشَلًا وَخِذْلَانًا لِدِينِهِ، كَمَا يَفْعَلُ التَّارِكُونَ لِنَصْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَدِينِهِ وَكِتَابِهِ، الَّذِينَ إذَا قِيلَ لَهُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلُوا إلَى الْأَرْضِ. وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهَذَا الضَّرْبُ، يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِاتِّفَاقِ العلماء. وما لم يسلك هذه السبل، عطلت الحدود وضيعت الحقوق، وأكل القوى الضعيف. وَهُوَ يُشْبِهُ مَنْ عِنْدَهُ مَالُ الظَّالِمِ الْمُمَاطِلِ مِنْ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ، وَقَدْ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ لِحَاكِمٍ عَادِلٍ، يُوفِي بِهِ دَيْنَهُ، أَوْ يُؤَدِّي مِنْهُ النَّفَقَةَ الْوَاجِبَةَ عَلَيْهِ لِأَهْلِهِ أَوْ أَقَارِبِهِ أَوْ مَمَالِيكِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ. وَكَثِيرًا مَا يجب على الرجل حق بسبب غيره، كلما تَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ بِسَبَبِ حَاجَةِ قَرِيبِهِ، وَكَمَا تجب الدية عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ. وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ التَّعْزِيرِ عُقُوبَةٌ لِمَنْ عُلِمَ أَنَّ عِنْدَهُ مَالًا أَوْ نفساً يجب
(1/75)
إحْضَارُهُ، وَهُوَ لَا يُحْضِرُهُ؛ كَالْقُطَّاعِ وَالسُّرَّاقِ وَحُمَاتِهِمْ، أَوْ عُلِمَ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِهِ وَهُوَ لَا يُخْبِرُ بِمَكَانِهِ. فَأَمَّا إنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِخْبَارِ وَالْإِحْضَارِ، لِئَلَّا يَتَعَدَّى عَلَيْهِ الطَّالِبُ أَوْ يَظْلِمَهُ، فَهَذَا مُحْسِنٌ. وَكَثِيرًا مَا يَشْتَبِهُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، ويجتمع شبهة وشهوة. وَالْوَاجِبُ تَمْيِيزُ الْحَقِّ مِنْ الْبَاطِلِ. وَهَذَا يَقَعُ كَثِيرًا فِي الرُّؤَسَاءِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَالْحَاضِرَةِ، إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ مُسْتَجِيرٌ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ أَوْ صَدَاقَةٌ، فَإِنَّهُمْ يَرَوْنَ الْحَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةَ، وَالْعِزَّةَ بالإِثم، وَالسُّمْعَةَ عِنْدَ الْأَوْبَاشِ: أَنَّهُمْ يَنْصُرُونَهُ -وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا مُبْطِلًا- عَلَى الْمُحِقِّ الْمَظْلُومِ؛ لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَظْلُومُ رَئِيسًا يُنَادِيهِمْ ويناويهم، فيرون في تسليم المستجير بهم إلى من يناويهم ذُلًّا أَوْ عَجْزًا؛ وَهَذَا -عَلَى الْإِطْلَاقِ- جَاهِلِيَّةٌ محضة. وهي مِنْ أَكْبَرِ أَسْبَابِ فَسَادِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَقَدْ ذكر أنه إنما كان سبب كثير مِنْ حُرُوبِ الْأَعْرَابِ، كَحَرْبِ الْبَسُوسِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ بَنِي بَكْرٍ وَتَغْلِبَ، إلَى نَحْوِ هَذَا، وكذلك سبب دخول الترك، والمغول دار الإسلام، واستيلائهم عَلَى مُلُوكِ مَا وَرَاءِ النَّهْرِ وَخُرَاسَانَ: كَانَ سببه نحو هذا. ومن أذل نفسه لته فَقَدْ أَعَزَّهَا، وَمَنْ بَذَلَ الْحَقَّ مِنْ نَفْسِهِ فَقَدْ أَكْرَمَ نَفْسَهُ، فَإِنَّ أَكْرَمَ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ. وَمَنْ اعْتَزَّ بِالظُّلْمِ: مِنْ مَنْعِ الْحَقِّ، وَفِعْلِ الْإِثْمِ، فَقَدْ أَذَلَّ نَفْسَهُ وَأَهَانَهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10] (سورة فاطر: من الآية 10) . وَقَالَ تَعَالَى عَنْ الْمُنَافِقِينَ: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] (سورة المنافقون: الآية 8) . وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ هَذَا الضَّرْبِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ - وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206] (سورة البقرة: الآيات 204-206) .
(1/76)
وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ اسْتَجَارَ بِهِ مُسْتَجِيرٌ- إنْ كَانَ مَظْلُومًا يَنْصُرُهُ. وَلَا يَثْبُتُ أَنَّهُ مظلوم بمجرد دعواه؛ فطالما اشتكى الوجل وهو ظالم؛ بل يكثف خَبَرَهُ مِنْ خَصْمِهِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ظَالِمًا رَدَّهُ عَنْ الظُّلْمِ بِالرِّفْقِ إنْ أَمْكَنَ؛ إمَّا مِنْ صُلْحٍ أَوْ حُكْمٍ بِالْقِسْطِ، وَإِلَّا فَبِالْقُوَّةِ. وإن كان كل منهما ظَالِمًا مَظْلُومًا كَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ، مِنْ قَيْسٍ وَيَمَنٍ وَنَحْوِهِمْ. وَأَكْثَرُ الْمُتَدَاعِينَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْبَوَادِي، أو كان جَمِيعًا غَيْرَ ظَالِمَيْنِ. لِشُبْهَةٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوْ غَلَطٍ وَقَعَ فِيمَا بَيْنَهُمَا: سَعَى بَيْنَهُمَا بِالْإِصْلَاحِ، أَوْ الْحُكْمِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 9 - 10] (سورة الحجرات: الآيتان 9، 10) . وَقَالَ تَعَالَى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] (سورة النساء: الآية 114) . وقد روى أبو داود في السنن. عزر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ «قِيلَ لَهُ: " أَمِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْحَقِّ؟ قَالَ: لَا. قَالَ: وَلَكِنْ مِنْ الْعَصَبِيَّةِ أَنْ يَنْصُرَ الرَّجُلُ قَوْمَهُ فِي الْبَاطِلِ» . وَقَالَ: «خَيْرُكُمْ الدَّافِعُ عَنْ قَوْمِهِ مَا لَمْ يَأْثَمْ» . وَقَالَ: «مَثَلُ الَّذِي يَنْصُرُ قَوْمَهُ بِالْبَاطِلِ كَبَعِيرٍ تَرَدَّى فِي
(1/77)
بِئْرٍ فَهُوَ يَجُرُّ بِذَنَبِهِ» . وَقَالَ: «مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَعِضُّوهُ بِهَنِّ أَبِيهِ. وَلَا تُكَنُّوا» . وَكُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ: مِنْ نَسَبٍ أَوْ بَلَدٍ، أَوْ جِنْسٍ أَوْ مَذْهَبٍ، أَوْ طَرِيقَةٍ: فَهُوَ مِنْ عَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، بَلْ «لَمَّا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ والأنصار فقال الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، وَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ» . وَغَضِبَ لِذَلِكَ غَضَبًا شديدا.
(1/78)
[حد السارق]
فصل وَأَمَّا السَّارِقُ فَيَجِبُ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى بِالْكِتَابِ والسنة والإجماع، قال الله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ - فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 38 - 39] (سورة المائدة: الآيتان 38، 39) . ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه، أو بالإقرار تأخيره: لا بحبس وَلَا مَالٌ يُفْتَدَى بِهِ وَلَا غَيْرُهُ، بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مِنْ الْعِبَادَاتِ، كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِعِبَادِهِ: فَيَكُونُ الْوَالِي شَدِيدًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، لَا تَأْخُذُهُ رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَيُعَطِّلُهُ. وَيَكُونُ قَصْدُهُ رَحْمَةَ الْخَلْقِ بكف الناس عن المنكرات؛ لا شفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق: بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ إذَا أَدَّبَ وَلَدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَّ عَنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ -كَمَا تُشِيرُ بِهِ الْأُمُّ رِقَّةً وَرَأْفَةً- لَفَسَدَ الْوَلَدُ، وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ رحمة به، وإصلاحا لحاله؛ مع أن يَوَدُّ وَيُؤْثِرُ أَنْ لَا يُحْوِجَهُ إلَى تَأْدِيبٍ، وَبِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَسْقِي الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَبِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، وَالْحَجْمِ، وَقَطْعِ الْعُرُوقِ بالفساد، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْإِنْسَانِ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَمَا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ لِيَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ. فَهَكَذَا شُرِعَتْ الْحُدُودُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْوَالِي فِي إقَامَتِهَا، فإنه مَتَى كَانَ قَصْدُهُ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ، وَابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَاعَةَ أَمْرِهِ: أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْقُلُوبَ، وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ، وَكَفَاهُ الْعُقُوبَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقَدْ
(1/79)
يُرْضِي الْمَحْدُودَ، إذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ غَرَضُهُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِمْ، وَإِقَامَةَ رِيَاسَتِهِ لِيُعَظِّمُوهُ، أَوْ لِيَبْذُلُوا لَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْوَالِ، انْعَكَسَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ. وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَبْلَ أَنْ يَلِيَ الْخِلَافَةَ كَانَ نَائِبًا لِلْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ قَدْ سَاسَهُمْ سِيَاسَةً صَالِحَةً، فَقَدِمَ الْحَجَّاجُ مِنْ الْعِرَاقِ، وَقَدْ سَامَهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ، فَسَأَلَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ عَنْ عُمَرَ. كَيْفَ هَيْبَتُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَنْظُرَ إلَيْهِ. قَالَ: كَيْفَ مَحَبَّتُكُمْ لَهُ؟ قَالُوا: هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَهْلِنَا قَالَ: فَكَيْفَ أَدَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالُوا: مَا بَيْنَ الثَّلَاثَةِ الْأَسْوَاطِ إلَى الْعَشَرَةِ. قَالَ: هَذِهِ هَيْبَتُهُ، وَهَذِهِ مَحَبَّتُهُ، وَهَذَا أَدَبُهُ، هَذَا أَمْرٌ مِنْ السَّمَاءِ. وَإِذَا قُطِعَتْ يده حسمت، ويستحب أَنْ تُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ. فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا: قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى. فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا، وَرَابِعًا: ففيه قَوْلَانِ لِلصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَحَدُهُمَا: تُقْطَعُ أَرْبَعَتُهُ فِي الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ يُحْبَسُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَالْكُوفِيِّينَ، وَأَحْمَدَ فِي رِوَايَتِهِ الْأُخْرَى. وَإِنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ إذَا سَرَقَ نِصَابًا، وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ، عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ وَأَهْلِ الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ. فَمَنْ سَرَقَ ذَلِكَ قُطِعَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عن ابن عمر -رضي الله عَنْهُمَا «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَطَعَ فِي مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» وفي لفظ مسلم «قطع
(1/80)
سارقا في مجن قيمته ثلاثة دراهم» والجن التُّرْسُ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «تقطع اليد في ريع دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ، قَالَ «اقْطَعُوا فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَلَا تَقْطَعُوا فِيمَا هُوَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ» . وَكَانَ رُبْعُ الدِّينَارِ يَوْمَئِذٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، والدينار اثني عَشَرَ دِرْهَمًا. وَلَا يَكُونُ السَّارِقُ سَارِقًا حَتَّى يأخذ الْمَالَ مِنْ حِرْزٍ. فَأَمَّا الْمَالُ الضَّائِعُ مِنْ صَاحِبِهِ، وَالثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ فِي الشَّجَرِ فِي الصَّحْرَاءِ بِلَا حَائِطٍ، وَالْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا رَاعِيَ عِنْدَهَا وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَلَا قَطْعَ فِيهِ، لَكِنْ يعزر الآخذ، وَيُضَاعَفُ عَلَيْهِ الْغُرْمُ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ. وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي التَّضْعِيفِ، وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ، قَالَ رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ» . وَالْكَثَرُ جُمَّارُ النَّخْلِ. رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ، وَعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قال: يا رسول الله جئت أَسْأَلُكَ عَنْ الضَّالَّةِ مِنْ الْإِبِلِ، قَالَ: مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا، تَأْكُلُ الشَّجَرَ، وَتَرِدُ الْمَاءَ، فَدَعْهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا. قَالَ: فَالضَّالَّةُ مِنْ الْغَنَمِ؛ قَالَ: لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ، تَجْمَعُهَا حَتَّى يَأْتِيَهَا بَاغِيهَا: قَالَ: فَالْحَرِيسَةُ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْ مَرَاتِعِهَا؟ قَالَ: فِيهَا ثَمَنُهَا مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبُ نَكَالٍ. وَمَا أُخِذَ مِنْ عَطَنِهِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: فَالثِّمَارُ وَمَا أُخِذَ مِنْهَا مِنْ أَكْمَامِهَا قَالَ: مَنْ أَخَذَ مِنْهَا بِفَمِهِ، وَلَمْ يَتَّخِذْ خُبْنَةً فَلَيْسَ عَلَيْهِ شيء،
(1/81)
وَمَنْ احْتَمَلَ فَعَلَيْهِ ثَمَنُهُ مَرَّتَيْنِ، وَضَرْبَ نَكَالٍ، وَمَا أَخَذَ مِنْ أَجْرَانِهِ فَفِيهِ الْقَطْعُ، إذَا بَلَغَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه كرامة مِثْلِيَّةٌ، وَجَلَدَاتُ نَكَالٍ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. لَكِنَّ هذا سياق النسائي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُنْتَهِبِ وَلَا عَلَى الْمُخْتَلِسِ وَلَا الخائن قطع» . فالمنتهب الذي يَنْهَبُ الشَّيْءَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، وَالْمُخْتَلِسُ الَّذِي يَجْتَذِبُ الشَّيْءَ، فَيُعْلَمُ بِهِ قَبْلَ أَخْذِهِ، وَأَمَّا الطَّرَّارُ وَهُوَ الْبَطَّاطُ الَّذِي يَبُطُّ الْجُيُوبَ وَالْمَنَادِيلَ وَالْأَكْمَامَ ونحوها، فإنه يقطع على الصحيح.
(1/82)
[حد الزاني]
وَأَمَّا الزَّانِي: فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا، فَإِنَّهُ يُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ، كَمَا رَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيَّ، ورجم الغامدية، ورجم اليهوديين، ورجم غير هؤلاء، ورجم المسلمون بعده. وقد اختلف الْعُلَمَاءُ: هَلْ يُجْلَدُ قَبْلَ الرَّجْمِ مِائَةً؛ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ فَإِنَّهُ يُجْلَدُ مِائَةَ جَلْدَةٍ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيُغَرَّبُ عَامًا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لَا يَرَى وُجُوبَ التَّغْرِيبِ. وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ، عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ. وَمِنْهُمْ مِنْ يَكْتَفِي بِشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ رَجَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يَسْقُطُ. وَالْمُحْصَنُ مَنْ وَطِئَ -وَهُوَ حُرٌّ مُكَلَّفٌ- من تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي قُبُلِهَا، وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الْمَوْطُوءَةُ مُسَاوِيَةً لِلْوَاطِئِ فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ؛ عَلَى قَوْلَيْنِ لِلْعُلَمَاءِ. . وهل تحصن المراهقة البالغ؟ وَبِالْعَكْسِ؟ فَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ، فَإِنَّهُمْ مُحْصَنُونَ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ كَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ عِنْدَ بَابِ مَسْجِدِهِ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَجْمٍ كَانَ فِي الْإِسْلَامِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ إذَا وُجِدَتْ حُبْلَى، ولم يكن لها زوج ولا سيد، ولم تدع شُبْهَةً فِي الْحَبَلِ، فَفِيهَا قَوْلَانِ فِي مَذْهَبِ أحمد وغيره. قيل: لا حد
(1/83)
عليها؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَبِلَتْ مُكْرَهَةً، أَوْ بتحمل، أو بوطء شبهة. قيل: بَلْ تُحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِأُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَإِنَّ الِاحْتِمَالَاتِ النَّادِرَةَ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهَا، كَاحْتِمَالِ كَذِبِهَا، وَكَذِبِ الشُّهُودِ. وَأَمَّا اللِّوَاطُ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: حَدُّهُ كَحَدِّ الزِّنَا. وَقَدْ قِيلَ: دُونَ ذَلِكَ. وَالصَّحِيحُ الَّذِي اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ: أَنْ يُقْتَلَ الِاثْنَانِ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ. سَوَاءٌ كَانَا مُحْصَنَيْنِ أَوْ غَيْرَ مُحْصَنَيْنِ؛ فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَنِ رَوَوْا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ، فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . وَرَوَى أَبُو دَاوُد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- في البكر يوجد على اللوطية. قَالَ: يُرْجَمُ. وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- نَحْوُ ذَلِكَ. وَلَمْ تَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ فِي قَتْلِهِ؛ وَلَكِنْ تَنَوَّعُوا فِيهِ. فَرُوِيَ عَنْ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ أَمَرَ بِتَحْرِيقِهِ، وَعَنْ غَيْرِهِ قَتْلُهُ، وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يُلْقَى عَلَيْهِ جِدَارٌ حَتَّى يَمُوتَ تَحْتَ الهدم، وقيل: يحبسان في أنق مَوْضِعٍ حَتَّى يَمُوتَا. وَعَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّهُ يُرْفَعُ عَلَى أَعْلَى جِدَارٍ فِي الْقَرْيَةِ وَيُرْمَى مِنْهُ، وَيُتْبَعُ بِالْحِجَارَةِ، كَمَا فَعَلَ اللَّهُ بِقَوْمِ لُوطٍ. . وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى قَالَ: يُرْجَمُ. وَعَلَى هَذَا أَكْثَرُ السَّلَفِ. قَالُوا لِأَنَّ اللَّهَ رَجَمَ قَوْمَ لُوطٍ، وَشُرِعَ رَجْمُ الزاني تشبيهاً برجم قوم لُوطٍ، فَيُرْجَمُ الِاثْنَانِ، سَوَاءٌ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ مملوكين، أو كان أحدهما مملوكاً والآخر حرا، إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ بَالِغٍ عُوقِبَ بِمَا دُونَ الْقَتْلِ، وَلَا يُرْجَمُ إلا البالغ.
(1/84)
[حد الشرب]
فصل وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ: فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَدْ رَوَى أَهْلُ السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إنْ شَرِبَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ» . وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ جَلَدَ الشارب غير مرة، هو وَخُلَفَاؤُهُ وَالْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ. وَالْقَتْلُ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ مَنْسُوخٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُحْكَمٌ، يُقَالُ: هُوَ تَعْزِيرٌ يَفْعَلُهُ الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ أَرْبَعِينَ. وَضَرَبَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَرْبَعِينَ، وَضَرَبَ عُمَرُ فِي خِلَافَتِهِ ثَمَانِينَ» ، وَكَانَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَضْرِبُ مَرَّةً أَرْبَعِينَ، وَمَرَّةً ثَمَانِينَ. فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: يَجِبُ ضَرْبُ الثَّمَانِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: الْوَاجِبُ أَرْبَعُونَ، وَالزِّيَادَةُ يَفْعَلُهَا الْإِمَامُ عِنْدَ الْحَاجَةِ، إذَا أَدْمَنَ النَّاسُ الْخَمْرَ. أَوْ كَانَ الشَّارِبُ مِمَّنْ لَا يَرْتَدِعُ بِدُونِهَا، وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَأَمَّا مَعَ قِلَّةِ الشَّارِبِينَ وَقُرْبِ أَمْرِ الشَّارِبِ فَتَكْفِي الْأَرْبَعُونَ. وَهَذَا أَوْجُهُ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ. وَقَدْ كَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا كَثُرَ الشُّرْبُ- زَادَ فِيهِ النَّفْيَ وَحَلْقَ الرَّأْسِ مُبَالَغَةً فِي الزَّجْرِ عَنْهُ، فلو غرب الشارب مع الأربعين لينقطع خبره، أو عزله عن ولايته كان حسناً، فَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بلغه
(1/85)
عن بعض نوابه أنه تمثل بأبيات في الخمر فعزله. والخمر الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم بجلد شاريها، كُلُّ شَرَابٍ مُسْكِرٍ مِنْ أَيِّ أَصْلٍ كَانَ، سواء كان مِنْ الثِّمَارِ كَالْعِنَبِ، وَالرُّطَبِ، وَالتِّينِ. أَوْ الْحُبُوبِ، كَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. أَوْ الطُّلُولِ كَالْعَسَلِ. أَوْ الْحَيَوَانِ، كَلَبَنِ الْخَيْلِ، بَلْ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَحْرِيمَ الْخَمْرِ، لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ بِالْمَدِينَةِ مِنْ خَمْرِ الْعِنَبِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ شَجَرُ عِنَبٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُجْلَبُ مِنْ الشَّامِ، وَكَانَ عَامَّةُ شَرَابِهِمْ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ، وَقَدْ تَوَاتَرَتْ السُّنَّةُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم وخلفائه الراشدين وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ خَمْرٌ. وَكَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ الْحُلْوَ، وَهُوَ أَنْ يُنْبَذَ فِي الْمَاءِ تَمْرٌ وزبيب أي يطرح فيه، والنبذ: الطرح ليحلو الماء لا سيما كثير مِنْ مِيَاهِ الْحِجَازِ، فَإِنَّ فِيهِ مُلُوحَةً، فَهَذَا النَّبِيذُ حَلَالٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْكِرُ، كَمَا يَحِلُّ شُرْبُ عَصِيرِ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُسْكِرًا، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَاهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا هَذَا النَّبِيذَ في أوعية الخشب، أو الجري، وَهُوَ مَا يُصْنَعُ مِنْ التُّرَابِ. أَوْ الْقُرَعِ، أَوْ الظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَنْبِذُوا فِي الظُّرُوفِ الَّتِي تُرْبَطُ أَفْوَاهُهَا بِالْأَوْكِيَةِ؛ لِأَنَّ الشِّدَّةَ تَدِبُّ فِي النَّبِيذِ دَبِيبًا خَفِيفًا، وَلَا يَشْعُرُ الْإِنْسَانُ، فَرُبَّمَا شَرِبَ الْإِنْسَانُ مَا قَدْ دَبَّتْ فِيهِ الشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، فَإِذَا كان السقاء موكى، انشق الظرف، إذا غلى فِيهِ النَّبِيذُ، فَلَا يَقَعُ الْإِنْسَانُ فِي مَحْذُورٍ، وَتِلْكَ الْأَوْعِيَةُ لَا تَنْشَقُّ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ بَعْدَ هَذَا فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ، وَقَالَ: «كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ فَانْتَبِذُوا، وَلَا تَشْرَبُوا المسكر»
(1/86)
فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ أَوْ لَمْ يُثْبِتْهُ، فَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ. وَمِنْهُمْ مِنْ اعْتَقَدَ ثُبُوتَهُ وَأَنَّهُ نَاسِخٌ فَرَخَّصَ فِي الِانْتِبَاذِ فِي الْأَوْعِيَةِ. فَسَمِعَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ كَانُوا يَشْرَبُونَ النَّبِيذَ فَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ الْمُسْكِرُ، فَتَرَخَّصُوا فِي شُرْبِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْعِنَبِ وَالتَّمْرِ، وَتَرَخَّصُوا فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ نَبِيذِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ إذَا لَمْ يُسْكِرْ الشَّارِبَ. وَالصَّوَابُ مَا عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْمُسْلِمِينَ: أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، يُجْلَدُ شَارِبُهُ، وَلَوْ شَرِبَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً، لِتَدَاوٍ أَوْ غَيْرِ تَدَاوٍ، «فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الْخَمْرِ يُتَدَاوَى بِهَا، فَقَالَ: " إنَّهَا دَاءٌ وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ، وَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» . وَالْحَدُّ وَاجِبٌ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ، أَوْ اعْتَرَفَ الشَّارِبُ، فَإِنْ وجدت منه رائحة الخمر، أو رؤي وهو يتقيؤها ونحو ذلك. فقد ميل: لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ شَرِبَ مَا لَيْسَ بِخَمْرٍ، أَوْ شَرِبَهَا جَاهِلًا بِهَا، أو مكرهاً ونحو ذلك. وقيل: بل يُجْلَدُ إذَا عَرَفَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْكِرٌ، وَهَذَا هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ: كَعُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ؛ وَعَلَيْهِ تَدُلُّ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي يصلح عَلَيْهِ النَّاسُ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. وَأَحْمَدَ فِي غَالِبِ نُصُوصِهِ، وَغَيْرِهِمَا. وَالْحَشِيشَةُ الْمَصْنُوعَةُ مِنْ وَرَقِ الْعِنَبِ حَرَامٌ أَيْضًا، يُجْلَدُ صَاحِبُهَا كَمَا يُجْلَدُ ضارب الْخَمْرِ، وَهِيَ أَخْبَثُ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْسِدُ الْعَقْلَ وَالْمِزَاجَ، حَتَّى يَصِيرَ فِي الرَّجُلِ تَخَنُّثٌ وَدِيَاثَةٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْفَسَادِ، وَالْخَمْرُ أَخْبَثُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، وَكِلَاهُمَا يَصُدُّ
(1/87)
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ الصَّلَاةِ. وَقَدْ تَوَقَّفَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي حَدِّهَا، وَرَأَى أَنَّ آكِلَهَا يُعَزَّرُ بِمَا دُونَ الْحَدِّ؛ حَيْثُ ظَنَّهَا تُغَيِّرُ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ طَرَبٍ. بِمَنْزِلَةِ البنج، ولم نجد لِلْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهَا كَلَامًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ آكِلُوهَا يَنْشَوْنَ عَنْهَا، وَيَشْتَهُونَهَا، كَشَرَابِ الْخَمْرِ وَأَكْثَرَ. وَتَصُدُّهُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، وَعَنْ الصَّلَاةِ، إذَا أَكْثَرُوا مِنْهَا، مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْأُخْرَى: مِنْ الدِّيَاثَةِ وَالتَّخَنُّثِ، وَفَسَادِ الْمِزَاجِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ جَامِدَةً مَطْعُومَةً لَيْسَتْ شَرَابًا، تَنَازَعَ الْفُقَهَاءُ فِي نَجَاسَتِهَا، عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ. فَقِيلَ: هِيَ نَجِسَةٌ كَالْخَمْرِ الْمَشْرُوبَةِ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِبَارُ الصَّحِيحُ. وَقِيلَ: لَا؛ لِجُمُودِهَا. وَقِيلَ: يُفَرَّقُ بَيْنَ جَامِدِهَا وَمَائِعِهَا. وَبِكُلِّ حَالٍ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِيمَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ الْخَمْرِ وَالْمُسْكِرِ لَفْظًا ومعنى. «قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يا رسول الله! أفتنا في شرابين كُنَّا نَصْنَعُهُمَا بِالْيَمَنِ: الْبِتْعُ، وَهُوَ مِنْ الْعَسَلِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ، وَالْمِزْرُ وَهُوَ مِنْ الذُّرَةِ وَالشَّعِيرِ يُنْبَذُ حَتَّى يَشْتَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِي جوامع الكلم وخواتيمه. فَقَالَ: " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَعَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ مِنْ الْحِنْطَةِ خَمْرًا وَمِنْ الشَّعِيرِ خَمْرًا. وَمِنْ الزَّبِيبِ خَمْرًا، وَمِنْ التَّمْرِ خَمْرًا، وَمِنْ الْعَسَلِ خَمْرًا، وَأَنَا أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ؛ أَنَّهُ خَطَبَ بِهِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «الْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ» وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
(1/88)
عَنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مسكر حَرَامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، وَمَا أَسْكَرَ الْفَرَقُ مِنْهُ، فَمِلْءُ الْكَفِّ منه حرام» . قال الترمذي حديث حَسَنٌ. وَرَوَى أَهْلُ السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ أَنَّهُ قَالَ: «ما أسكر كثيره، فقليله حرام» . وصححه الحفاظ. وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ شراب يشربونه بأرضهم من الذرة، يقال له: الْمِزْرُ، فَقَالَ: " أَمُسْكِرٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ: كل مسكر حرا، إنَّ عَلَى اللَّهِ عَهْدًا لِمَنْ شَرِبَ الْمُسْكِرَ، أن بسقيه مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ، أو عصارة أَهْلِ النَّارِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ. وَعَنْ ابن عباس -رضي الله عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «كل مخمر خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد. وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْبَابِ كَثِيرَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ، جَمَعَ رسول الله بِمَا أُوتِيهِ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، كُلَّ مَا غطى العقل وأسكر، ولم يفرق بين نرع وَنَوْعٍ، وَلَا تَأْثِيرَ لِكَوْنِهِ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا، على أن الْخَمْرِ قَدْ يُصْطَبَغُ بِهَا، وَالْحَشِيشَةُ قَدْ تُذَابُ فِي الْمَاءِ وَتُشْرَبُ؛ فَكُلُّ خَمْرٍ يُشْرَبُ وَيُؤْكَلُ، وَالْحَشِيشَةُ تُؤْكَلُ وَتُشْرَبُ، وَكُلُّ ذَلِكَ حَرَامٌ؛ وَإِنَّمَا لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي خُصُوصِهَا: لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ أَكْلُهَا مِنْ قَرِيبٍ، فِي أَوَاخِرِ الْمِائَةِ السَّادِسَةِ، أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّهُ قَدْ أُحْدِثَتْ أَشْرِبَةٌ مُسْكِرَةٌ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِي الْكَلِمِ الجوامع، من الكتاب والسنة.
(1/89)
فصل وَمِنْ الْحُدُودِ الَّتِي جَاءَ بِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ حَدُّ الْقَذْفِ، فَإِذَا قَذَفَ الرجل محصنا بالزنا أو اللواط، وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَالْمُحْصَنُ هُنَا: هُوَ الْحُرُّ الْعَفِيفُ، وَفِي بَابِ حَدِّ الزِّنَا هو الذي وطن وطئاً كاملا في نكاح تام.
(1/90)
[المعاصي التي ليست لها حدود أو كفارة]
فصل وَأَمَّا الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَ فِيهَا حَدٌّ مُقَدَّرٌ وَلَا كَفَّارَةٌ، كَاَلَّذِي يُقَبِّلُ الصَّبِيَّ وَالْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ، أَوْ يُبَاشِرُ بِلَا جِمَاعٍ أَوْ يَأْكُلُ مَا لَا يَحِلُّ، كَالدَّمِ وَالْمَيْتَةِ، أَوْ يَقْذِفُ النَّاسَ بِغَيْرِ الزِّنَا، أَوْ يَسْرِقُ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ، ولو شَيْئًا يَسِيرًا، أَوْ يَخُونُ أَمَانَتَهُ، كَوُلَاةِ أَمْوَالِ بيت المال أو الوقوف، وَمَالِ الْيَتِيمِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إذَا خَانُوا فِيهَا، وكالوكلاء والشركاء إذا خانوا، أو من يَغُشُّ فِي مُعَامَلَتِهِ، كَاَلَّذِينَ يَغُشُّونَ فِي الْأَطْعِمَةِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، أَوْ يُطَفِّفُ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، أو يشهد بالزور، أَوْ يُلَقِّنُ شَهَادَةَ الزُّورِ، أَوْ يَرْتَشِي فِي حُكْمِهِ، أَوْ يَحْكُمُ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، أَوْ يَعْتَدِي عَلَى رَعِيَّتِهِ، أَوْ يَتَعَزَّى بِعَزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ يُلَبِّي دَاعِيَ الْجَاهِلِيَّةِ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُحَرَّمَاتِ: فَهَؤُلَاءِ يُعَاقَبُونَ تَعْزِيرًا وَتَنْكِيلًا وَتَأْدِيبًا، بِقَدْرِ مَا يَرَاهُ الْوَالِي، عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ ذَلِكَ الذَّنْبِ فِي النَّاسِ وَقِلَّتِهِ. فَإِذَا كَانَ كَثِيرًا زَادَ فِي الْعُقُوبَةِ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَلِيلًا. وَعَلَى حَسَبِ حَالِ الْمُذْنِبِ؛ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُدْمِنِينَ عَلَى الْفُجُورِ زِيدَ فِي عُقُوبَتِهِ؛ بِخِلَافِ الْمُقِلِّ مِنْ ذَلِكَ. وَعَلَى حَسَبِ كِبَرِ الذَّنْبِ وَصِغَرِهِ؛ فَيُعَاقَبُ مَنْ يتعرض لنساء الناس وأولادهم، بما لا يعاقب مَنْ لَمْ يَتَعَرَّضْ إلَّا لِمَرْأَةٍ وَاحِدَةٍ، أَوْ صَبِيٍّ وَاحِدٍ. وَلَيْسَ لِأَقَلِّ التَّعْزِيرِ حَدٌّ؛ بَلْ هُوَ بِكُلِّ مَا فِيهِ إيلَامُ الْإِنْسَانِ، مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَتَرْكِ قَوْلٍ، وَتَرْكِ فِعْلٍ، فَقَدْ يُعَزَّرُ الرَّجُلُ بِوَعْظِهِ وَتَوْبِيخِهِ وَالْإِغْلَاظِ لَهُ، وَقَدْ يُعَزَّرُ بِهَجْرِهِ وَتَرْكِ السَّلَامِ عَلَيْهِ حَتَّى يَتُوبَ إذَا كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْمَصْلَحَةَ، كَمَا هَجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ " الثَّلَاثَةَ الَّذِينَ خُلِّفُوا "، وَقَدْ يُعَزَّرُ
(1/91)
بِعَزْلِهِ عَنْ وِلَايَتِهِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يُعَزِّرُونَ بِذَلِكَ؛ وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَرْكِ اسْتِخْدَامِهِ فِي جُنْدِ الْمُسْلِمِينَ، كَالْجُنْدِيِّ الْمُقَاتِلِ إذَا فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ؛ فَإِنَّ الْفِرَارَ من الزحف من الكبائر، وقطع أجره نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ، وَكَذَلِكَ الْأَمِيرُ إذَا فَعَلَ ما يستعظم فعزله عن إمارته تَعْزِيرٌ لَهُ. وَكَذَلِكَ قَدْ يُعَزَّرُ بِالْحَبْسِ، وَقَدْ يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ، وَقَدْ يُعَزَّرُ بِتَسْوِيدِ وَجْهِهِ وَإِرْكَابِهِ عَلَى دَابَّةٍ مَقْلُوبًا؛ كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه أمر بمثل ذلك فِي شَاهِدِ الزُّورِ، فَإِنَّ الْكَاذِبَ سَوَّدَ الوجهَ، فسُود وجهُه، وقلَبَ الْحَدِيثَ، فقُلِب رُكُوبُهُ. وَأَمَّا أَعْلَاهُ؛ فَقَدْ قِيلَ: " لَا يُزَادُ عَلَى عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ ". وَقَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لَا يُبْلَغُ بِهِ الْحَدُّ. ثُمَّ هُمْ عَلَى قَوْلَيْنِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: " لَا يُبْلَغُ بِهِ أَدْنَى الْحُدُودِ ": لَا يُبْلَغُ بِالْحُرِّ أَدْنَى حُدُودِ الْحُرِّ، وَهِيَ الْأَرْبَعُونَ، أَوْ الثَّمَانُونَ، وَلَا يُبْلَغُ بِالْعَبْدِ أَدْنَى حدود العبد، وهي الْعِشْرُونَ أَوْ الْأَرْبَعُونَ. وَقِيلَ: بَلْ لَا يُبْلَغُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا حَدُّ الْعَبْدِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: لَا يُبْلَغُ بِكُلِّ ذَنْبٍ حَدُّ جِنْسِهِ وَإِنْ زاد على حد جِنْسٍ آخَرَ، فَلَا يُبْلَغُ بِالسَّارِقِ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ قَطْعُ الْيَدِ، وَإِنْ ضُرِبَ أَكْثَرَ مِنْ حَدِّ الْقَاذِفِ. وَلَا يُبْلَغُ بِمَنْ فَعَلَ مَا دون الزنا حد الزاني، وَإِنْ زَادَ عَلَى حَدِّ الْقَاذِفِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَجُلًا نَقَشَ عَلَى خَاتَمِهِ، وَأَخَذَ بِذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ مِائَةَ ضربة، ثم ضربه فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِائَةَ ضَرْبَةٍ، ثُمَّ ضَرَبَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِائَةَ ضَرْبَةٍ. وَرُوِيَ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فِي رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وُجِدَا فِي لِحَافٍ: " يُضْرَبَانِ مِائَةً ". «وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الَّذِي يَأْتِي جَارِيَةَ امرأته: " إن كانت أحلتها له جلد مائة وإن لم تكن أحلتها لَهُ: رُجِمَ» . وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَغَيْرِهِ. وَالْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، وَغَيْرِهِ.
(1/92)
وَأَمَّا مَالِكٌ وَغَيْرُهُ، فَحُكِيَ عَنْهُ: أَنَّ مِنْ الْجَرَائِمِ مَا يُبْلَغُ بِهِ الْقَتْلُ. وَوَافَقَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ أَحْمَدَ، فِي مِثْلِ الْجَاسُوسِ الْمُسْلِمِ، إذَا تجسس للعدو على المسلمين، فإن أحمد توقف في قتله، وجوز مالك وبعض الحنابلة - كابن عقيل - قتله، ومنعه أبو حنيفة والشافعي وَبَعْضُ الْحَنَابِلَةِ، كَالْقَاضِي أَبِي يَعْلَى. وَجَوَّزَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا: قَتْلَ الدَّاعِيَةِ إلَى الْبِدَعِ الْمُخَالِفَةِ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ، وَقَالُوا: إنَّمَا جَوَّزَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ قَتْلَ الْقَدَرِيَّةِ لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ؛ لَا لِأَجْلِ الرِّدَّةِ؛ وَكَذَلِكَ قَدْ قِيلَ فِي قَتْلِ السَّاحِرِ؛ فَإِنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ جُنْدُبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا: «أَنَّ حَدَّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ. وَعَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَحَفْصَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- قَتْلُهُ. فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لِأَجْلِ الْكُفْرِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لِأَجْلِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ. لَكِنَّ جُمْهُورَ هَؤُلَاءِ يَرَوْنَ قَتْلَهُ حَدًّا. وَكَذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعَزِّرُ بِالْقَتْلِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ الْجَرَائِمِ، إذَا كَانَ جِنْسُهُ يُوجِبُ الْقَتْلَ، كَمَا يُقْتَلُ مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ اللِّوَاطُ، أَوْ اغْتِيَالُ النُّفُوسِ لِأَخْذِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَدْ يستدل على أن المفسد متى لَمْ يَنْقَطِعْ شَرُّهُ إلَّا بِقَتْلِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ: بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، عَنْ عَرْفَجَةَ الْأَشْجَعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَتَاكُمْ وَأَمْرُكُمْ جَمِيعٌ عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ، يُرِيدُ أَنْ يَشُقَّ عَصَاكُمْ، أَوْ يُفَرِّقَ جَمَاعَتَكُمْ فَاقْتُلُوهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «سَتَكُونُ هَنَاتٌ، وَهَنَاتٌ. فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهِيَ جَمِيعٌ فاضربوه
(1/93)
بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ» . وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَالُ في أمره بقتل شَارِبُ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ؛ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، عَنْ دَيْلَمَ الْحِمْيَرِيِّ -رَضِيَ الله عنه- قال: «سأل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: إنَّا بِأَرْضٍ نُعَالِجُ بِهَا عَمَلًا شَدِيدًا، وَإِنَّا نَتَّخِذُ شراباٌ مِنْ الْقَمْحِ نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى أَعْمَالِنَا، وَعَلَى بَرْدِ بِلَادِنَا. فَقَالَ: هَلْ يُسْكِرُ؛ قُلْتُ نَعَمْ. قَالَ: فَاجْتَنِبُوهُ. قُلْتُ إنَّ النَّاسَ غَيْرُ تَارِكِيهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَتْرُكُوهُ فَاقْتُلُوهُمْ» . وَهَذَا لِأَنَّ الْمُفْسِدَ كَالصَّائِلِ، فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ الصَّائِلُ إلَّا بِالْقَتْلِ قُتِلَ. وَجِمَاعُ ذَلِكَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ نَوْعَانِ: (أَحَدُهُمَا) عَلَى ذَنْبٍ مَاضٍ، جَزَاءً بِمَا كَسَبَ نَكَالًا مِنْ اللَّهِ، كَجَلْدِ الشَّارِبِ وَالْقَاذِفِ، وَقَطْعِ الْمُحَارِبِ وَالسَّارِقِ. و (الثاني) الْعُقُوبَةُ لِتَأْدِيَةِ حَقٍّ وَاجِبٍ، وَتَرْكِ مُحَرَّمٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، كَمَا يُسْتَتَابُ الْمُرْتَدُّ حَتَّى يُسْلِمَ، فَإِنْ تاب؛ وإلا قتل. وَكَمَا يُعَاقَبُ تَارِكُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ حَتَّى يُؤَدُّوهَا. فَالتَّعْزِيرُ فِي هَذَا الضَّرْبِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الضَّرْبِ الْأَوَّلِ. وَلِهَذَا يَجُوزُ أَنْ يُضْرَبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ حَتَّى يُؤَدِّيَ الصَّلَاةَ الْوَاجِبَةَ، أَوْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ. وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يُجْلَدُ فَوْقَ عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ إلَّا فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ» . قَدْ فَسَّرَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِحُدُودِ اللَّهِ مَا حَرُمَ لِحَقِّ اللَّهِ، فَإِنَّ الْحُدُودَ فِي لَفْظِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ يُرَادُ بِهَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ: مِثْلُ آخِرِ الْحَلَالِ وَأَوَّلِ الْحَرَامِ. فَيُقَالُ فِي الْأَوَّلِ: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] (سورة البقرة من الآية 229) .
(1/94)
وَيُقَالُ فِي الثَّانِي: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] (سورة البقرة من الآية 187) . وأما تسمية العقوبة المقدرة حَدًّا، فَهُوَ عُرْفٌ حَادِثٌ. وَمُرَادُ الْحَدِيثِ: أَنَّ مَنْ ضَرَبَ لِحَقِّ نَفْسِهِ، كَضَرْبِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ فِي النُّشُوزِ، لَا يَزِيدُ عَلَى عَشْرِ جَلَدَاتٍ. وَالْجَلْدُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ: هُوَ الْجَلْدُ الْمُعْتَدِلُ بِالسَّوْطِ؛ فَإِنَّ خِيَارَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا، قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: " ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ، وَسَوْطٌ بَيْنَ سَوْطَيْنِ ". وَلَا يَكُونُ الْجَلْدُ بِالْعِصِيِّ وَلَا بِالْمَقَارِعِ، وَلَا يُكْتَفَى فِيهِ بِالدِّرَّةِ، بَلْ الدِّرَّةُ تُسْتَعْمَلُ فِي التَّعْزِيرِ. أَمَّا الْحُدُودُ، فَلَا بد فيها من الجلد بالسوط، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يؤدب بالدرة: فإذا جَاءَتْ الْحُدُودُ دَعَا بِالسَّوْطِ، وَلَا تُجَرَّدُ ثِيَابُهُ كلها؛ بل ينزع عنه ما يمنع كم الضَّرْبِ، مِنْ الْحَشَايَا وَالْفِرَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَلَا يُرْبَطُ إذَا لَمْ يُحْتَجْ إلَى ذَلِكَ، وَلَا يُضْرَبُ وَجْهُهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إذَا قَاتَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَّقِ الْوَجْهَ» . وَلَا يَضْرِبُ مَقَاتِلَهُ. فَإِنَّ الْمَقْصُودَ تَأْدِيبُهُ لَا قَتْلُهُ، وَيُعْطَى كُلُّ عُضْوٍ حَظَّهُ مِنْ الضَّرْبِ، كالظهر والأكتاف والفخذين ونحو ذلك.
(1/95)
[الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى الله ورسوله نوعان]
فصل الْعُقُوبَاتُ الَّتِي جَاءَتْ بِهَا الشَّرِيعَةُ لِمَنْ عَصَى الله ورسوله نوعان: أحدهما: عقوبة المقدور عَلَيْهِ، مِنْ الْوَاحِدِ وَالْعَدَدِ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَالثَّانِي: عِقَابُ الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ، كَاَلَّتِي لَا يُقْدَرُ عَلَيْهَا إلَّا بِقِتَالٍ. فَاصِلٍ هَذَا هُوَ جِهَادُ الْكُفَّارِ، أعداء الله ورسوله، فكل من بلغته دَعْوَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى دِينِ اللَّهِ الَّذِي بَعَثَهُ بِهِ فَلَمْ يَسْتَجِبْ لَهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِتَالُهُ (حَتَّى لَا تكون فتنة، ويكون الدين كله لله) . ولأن الله لما بعث نبيه، وأمره بدعوة الخلق إلى دينه: لم يأذن له فِي قَتْلِ أَحَدٍ عَلَى ذَلِكَ وَلَا قِتَالِهِ، حَتَّى هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَأَذِنَ لَهُ وَلِلْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ - الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج: 39 - 41] (سورة الحج: الآيات 39- 41) . ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالَ بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] (سورة البقرة: الآية 216) . وَأَكَّدَ الْإِيجَابَ وَعَظَّمَ أَمْرَ الْجِهَادِ، فِي عَامَّةِ السُّوَرِ الْمَدَنِيَّةِ. وَذَمَّ التَّارِكِينَ لَهُ، وَوَصَفَهُمْ بِالنِّفَاقِ ومرض القلوب،
(1/96)
وقال تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] (سورة التوبة: الآية 15) . وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] (سورة الحجرات: الآية 15) . وقال تَعَالَى {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ - طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ - فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 20 - 22] (سورة محمد: من الآية 20 والآيتان 21، 22) . فهذا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَكَذَلِكَ تَعْظِيمُهُ وَتَعْظِيمُ أَهْلِهِ فِي " سُورَةِ الصَّفِّ " الَّتِي يَقُولُ فِيهَا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ - تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 10 - 13] (سورة الصف: الآيات 10-13) . وقوله تَعَالَى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ - يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ - خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 19 - 22] (سورة التوبة: الآيات 19-22) . وقَوْله تَعَالَى: {مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54] (سورة المائدة: من الآية 54) .
(1/97)
وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ - وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 120 - 121] (سورة التوبة: من الآيتين 120، 121) . فذكر ما يتولد من أَعْمَالِهِمْ، وَمَا يُبَاشِرُونَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ. وَالْأَمْرِ بِالْجِهَادِ، وَذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ. وَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مَا تَطَوَّعَ بِهِ الْإِنْسَانُ، وَكَانَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ أَفْضَلَ مِنْ الحج والعمرة، ومن صلاة التطوع، وصوم التَّطَوُّعِ. كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَأْسُ الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد» . وَقَالَ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ لَمِائَةَ دَرَجَةٍ، مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ وَالدَّرَجَةِ، كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وقال: «من اغبرت قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «رباط يوم وليلة في سبيل الله خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ أُجْرِيَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي السُّنَنِ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَنَازِلِ» وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: «حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ يُقَامُ
(1/98)
لَيْلُهَا، وَيُصَامُ نَهَارُهَا» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ يَعْدِلُ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ قَالَ: لَا تَسْتَطِيعُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِ؛ قَالَ: هَلْ تَسْتَطِيعُ إذَا خرج المجاهد أن تصوم لا تفطر، وتقوم لا تَفْتُرَ؟ قَالَ لَا. قَالَ: فَذَلِكَ الَّذِي يَعْدِلُ الْجِهَادَ ". وَفِي السُّنَنِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ " إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ سِيَاحَةً، وَسِيَاحَةُ أُمَّتِي الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، لَمْ يَرِدْ فِي ثَوَابِ الْأَعْمَالِ وَفَضْلِهَا مثل ما ورد فيه. وهو ظَاهِرٌ عِنْدَ الِاعْتِبَارِ؛ فَإِنَّ نَفْعَ الْجِهَادِ عَامٌّ لِفَاعِلِهِ وَلِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَمُشْتَمِلٌ عَلَى جميع أنواع العبارات الباطنة والطاهرة، فَإِنَّهُ مُشْتَمِلٌ مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْإِخْلَاصِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُ، وَالصَّبْرِ وَالزُّهْدِ، وَذِكْرِ اللَّهِ، وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَعْمَالِ؛ عَلَى مَا لَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ عَمَلٌ آخَرُ. والقائم به من الشخص والأمن أن إحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ دَائِمًا؛ إمَّا النَّصْرُ وَالظَّفَرُ، وَإِمَّا الشهادة والجنة. فإن الْخَلْقَ لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْ مَحْيَا وَمَمَاتٍ، فَفِيهِ اسْتِعْمَالُ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتِهِمْ فِي غَايَةِ سَعَادَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَفِي تَرْكِهِ ذَهَابُ السَّعَادَتَيْنِ أو نقصهما؛ وإن من الناس من يركب فِي الْأَعْمَالِ الشَّدِيدَةِ فِي الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا مَعَ قِلَّةِ مَنْفَعَتِهَا، فَالْجِهَادُ أَنْفَعُ فِيهِمَا مِنْ كل عمل شديد، وقد يرغب في ترفيه نَفْسِهِ حَتَّى يُصَادِفَهُ الْمَوْتُ، فَمَوْتُ الشَّهِيدِ أَيْسَرُ مِنْ كُلِّ مَيْتَةٍ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْمَيْتَاتِ. وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْقِتَالِ الْمَشْرُوعِ هُوَ الْجِهَادُ، وَمَقْصُودُهُ هُوَ أَنْ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَأَنْ تَكون كلمة الله هي العليا، فمن امتنع من هَذَا قُوتِلَ بِاتِّفَاقِ
(1/99)
الْمُسْلِمِينَ. وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمُمَانَعَةِ وَالْمُقَاتَلَةِ، كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالرَّاهِبِ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ، وَالْأَعْمَى، وَالزَّمِنِ، وَنَحْوِهِمْ فَلَا يُقْتَلُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ؛ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ بِقَوْلِهِ أَوْ فِعْلِهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يَرَى إبَاحَةَ قَتْلِ الْجَمِيعِ لِمُجَرَّدِ الْكُفْرِ؛ إلَّا النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ؛ لِكَوْنِهِمْ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ هُوَ لِمَنْ يُقَاتِلُنَا، إذَا أَرَدْنَا إظْهَارَ دِينِ اللَّهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190] (سورة البقرة: الآية 190) . وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّهُ مَرَّ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، قَدْ وَقَفَ عَلَيْهَا النَّاسُ. فَقَالَ: مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ» وَقَالَ لِأَحَدِهِمْ: «الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ: لَا تَقْتُلُوا ذُرِّيَّةً وَلَا عَسِيفًا» . وفيها أَيْضًا عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «لَا تَقْتُلُوا شَيْخًا فَانِيًا، وَلَا طفلاً صَغِيرًا، وَلَا امْرَأَةً» . وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ مِنْ قَتْلِ النُّفُوسِ مَا يُحتاج إلَيْهِ فِي صَلَاحِ الْخَلْقِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] (سورة البقرة: من الآية 217) . أَيْ أَنَّ الْقَتْلَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شَرٌّ وَفَسَادٌ فَفِي فِتْنَةِ الْكُفَّارِ مِنْ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَمَنْ لَمْ يَمْنَعْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ دِينِ اللَّهِ لَمْ تَكُنْ مَضَرَّةُ كُفْرِهِ إلَّا عَلَى نَفْسِهِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الفقهاء: إن الداعية إلى البدع الخالفة لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يُعَاقَبُ بِمَا لَا يُعَاقَبُ بِهِ السَّاكِتُ. وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ الْخَطِيئَةَ إذَا أُخْفِيَتْ لَمْ تَضُرَّ إلَّا صَاحِبَهَا؛ وَلَكِنْ إذَا ظهرت فلم شكر ضرت العامة» . ولهذا أوجبت الشريعة قتال الْكُفَّارِ، وَلَمْ تُوجِبْ قَتْلَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِمْ مِنْهُمْ؛ بَلْ إذَا أُسِرَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِي الْقِتَالِ، أَوْ غَيْرِ الْقِتَالِ، مِثْلِ أَنْ تُلْقِيَهُ السَّفِينَةُ
(1/100)
إلَيْنَا، أَوْ يَضِلَّ الطَّرِيقَ، أَوْ يُؤْخَذَ بِحِيلَةٍ، فَإِنَّهُ يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ الْأَصْلَحَ مِنْ قَتْلِهِ، أَوْ اسْتِعْبَادِهِ، أَوْ الْمَنِّ عَلَيْهِ، أَوْ مُفَادَاتِهِ بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ، عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يَرَى الْمَنَّ عَلَيْهِ وَمُفَادَاتَهُ مَنْسُوخًا. فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمَجُوسُ فَيُقَاتَلُونَ، حَتَّى يُسْلِمُوا، أَوْ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ. وَمَنْ سِوَاهُمْ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ. إلَّا أَنَّ عَامَّتَهُمْ لَا يَأْخُذُونَهَا من العرب، وأيما طائفة انْتَسَبَتْ إلَى الْإِسْلَامِ، وَامْتَنَعَتْ مِنْ بَعْضِ شَرَائِعِهِ الظَّاهِرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ جِهَادُهَا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ، كَمَا قَاتَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَسَائِرُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَكَانَ قَدْ تَوَقَّفَ فِي قِتَالِهِمْ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ اتَّفَقُوا، حَتَّى قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِأَبِي بكر -رضي الله عَنْهُمَا- كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَإِذَا قَالُوهَا، فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا؛ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنَّ الزَّكَاةَ مِنْ حَقِّهَا، وَاَللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعهم قَالَ عُمَرُ: فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَمَرَ بِقِتَالِ الْخَوَارِجِ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «سيخرج قوم في آخر الزمان حداث الْأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ يَقُولُونَ مِنْ
(1/101)
قَوْلِ خَيْرِ الْبَرِيَّةِ، لَا يُجَاوِزُ إيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمْيَةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمَّتِي يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَيْسَ قِرَاءَتُكُمْ إلَى قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ، وَلَا صَلَاتُكُمْ إلى صلاتهم بشيء، يقرءون القرآن يحسبون أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ، لَا تُجَاوِزُ قِرَاءَتُهُمْ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الَّذِينَ يُصِيبُونَهُمْ ما قضى لهم على لسان نبيهم لنكلوا عن الْعَمَلِ» . وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «يقتلون أهل الإسلام، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ؛ لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «تَكُونُ أُمَّتِي فِرْقَتَيْنِ فَتَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ» . فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَتَلَهُمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا حَصَلَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَكَانُوا يُسَمَّوْنَ الْحَرُورِيَّةَ. بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ كِلَا الطَّائِفَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِهِ، وأن أصحاب علي أولى الطائفتين بِالْحَقِّ، وَلَمْ يُحَرِّضْ إلَّا عَلَى قِتَالِ أُولَئِكَ الْمَارِقِينَ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ الْإِسْلَامِ، وَفَارَقُوا الْجَمَاعَةَ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ. فَثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَنَّهُ يُقَاتَلُ مَنْ خَرَجَ عَنْ شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ تَكَلَّمَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الطَّائِفَةِ الْمُمْتَنِعَةِ، لَوْ تَرَكَتْ السُّنَّةَ الرَّاتِبَةَ، كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، هَلْ يجوز قتالها؛ على قولين. فأما الواجبات والحرمات الظَّاهِرَةُ وَالْمُسْتَفِيضَةُ، فَيُقَاتَلُ عَلَيْهَا بِالِاتِّفَاقِ، حَتَّى يَلْتَزِمُوا أَنْ يُقِيمُوا الصَّلَوَاتِ
(1/102)
الْمَكْتُوبَاتِ، وَيُؤَدُّوا الزَّكَاةَ، وَيَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ، وَيَحُجُّوا الْبَيْتَ، وَيَلْتَزِمُوا تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ: مِنْ نِكَاحِ الْأَخَوَاتِ، وَأَكْلِ الْخَبَائِثِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقِتَالُ هَؤُلَاءِ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً بَعْدَ بُلُوغِ دَعْوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم إليهم بما يقاتلون عليه. فأما إذا بدأوا الْمُسْلِمِينَ فَيَتَأَكَّدُ قِتَالُهُمْ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ قُطَّاعِ الطُّرُقِ. وَأَبْلَغُ الْجِهَادِ الْوَاجِبُ لِلْكُفَّارِ، وَالْمُمْتَنِعِينَ عَنْ بَعْضِ الشَّرَائِعِ، كَمَانِعِي الزَّكَاةِ وَالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ: يَجِبُ ابْتِدَاءً وَدَفْعًا. فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءً، فَهُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ الْبَاقِينَ وَكَانَ الْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] الآية (سورة النساء: الْآيَةَ 95) . فَأَمَّا إذَا أَرَادَ الْعَدُوُّ الْهُجُومَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ دَفْعُهُ وَاجِبًا عَلَى الْمَقْصُودِينَ كُلِّهِمْ، وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْصُودِينَ، لِإِعَانَتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال: 72] (سورة الأنفال: من الآية 72) . وَكَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنصر المسلم، وسواء كان الرَّجُلُ مِنْ الْمُرْتَزِقَةِ لِلْقِتَالِ أَوْ لَمْ يَكُنْ. وَهَذَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، مَعَ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْمَشْيِ وَالرُّكُوبِ، كَمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا قَصَدَهُمْ الْعَدُوُّ عَامَ الخندق لم يأذن الله في ترى لأحد، كَمَا أَذِنَ فِي تَرْكِ الْجِهَادِ ابْتِدَاءً لِطَلَبِ الْعَدُوِّ، الَّذِي قَسَّمَهُمْ فِيهِ إلَى قَاعِدٍ وَخَارِجٍ. بَلْ ذَمَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} [الأحزاب: 13] (سورة الأحزاب من الآية 13) . فَهَذَا دَفْعٌ عَنْ الدِّينِ وَالْحُرْمَةِ وَالْأَنْفُسِ، وَهُوَ قِتَالُ اضْطِرَارٍ، وَذَلِكَ قِتَالُ اخْتِيَارٍ، لِلزِّيَادَةِ فِي الدِّينِ وَإِعْلَائِهِ، وَلِإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، كَغُزَاةِ تَبُوكَ وَنَحْوِهَا.
(1/103)
فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعُقُوبَةِ، هُوَ لِلطَّوَائِفِ الْمُمْتَنِعَةِ. فَأَمَّا غَيْرُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَهْلِ دِيَارِ الْإِسْلَامِ وَنَحْوِهِمْ فَيَجِبُ إلْزَامُهُمْ بِالْوَاجِبَاتِ الَّتِي هِيَ مَبَانِي الْإِسْلَامِ الْخَمْسُ وَغَيْرُهَا، مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْوَفَاءِ بالعدد فِي الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ كَانَ لَا يصلي من جميع الناس: من رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ، فَإِنْ امْتَنَعَ عُوقِبَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ. ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَهُمْ يُوجِبُونَ قَتْلَهُ إذَا لَمْ يُصَلِّ، فَيُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. وَهَلْ يُقْتَلُ كَافِرًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ فَاسِقًا؛ عَلَى قَوْلَيْنِ مَشْهُورَيْنِ في مذهب أحمد وغيره. والمنقول عن أَكْثَرِ السَّلَفِ يَقْتَضِي كُفْرَهُ، وَهَذَا مَعَ الْإِقْرَارِ بِالْوُجُوبِ. فَأَمَّا مَنْ جَحَدَ الْوُجُوبَ فَهُوَ كَافِرٌ بِالِاتِّفَاقِ: بَلْ يَجِبُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ أَنْ يَأْمُرُوا الصَّبِيَّ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغَ سَبْعًا، وَيَضْرِبُوهُ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، كَمَا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَيْثُ قَالَ: «مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» وَكَذَلِكَ مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الصَّلَاةُ مِنْ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ وَنَحْوِهَا. وَمِنْ تَمَامِ ذَلِكَ تَعَاهُدُ مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ وَأَئِمَّتِهِمْ. وَأَمْرُهُمْ بِأَنْ يُصَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ: «صَلُّوا كما رأيتموني أن أُصَلِّي» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. «وَصَلَّى مَرَّةً بِأَصْحَابِهِ عَلَى طَرَفِ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: (إنَّمَا فَعَلْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا بِي وَلِتَعْلَمُوا صَلَاتِي» . وَعَلَى إمَامِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ. فَلَا يَفُوتُهُمْ مَا يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِهِ مِنْ كَمَالِ دِينِهِمْ: بَلْ على كل إمام للصلاة أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً كَامِلَةً وَلَا يَقْتَصِرَ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُنْفَرِدِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ مِنْ قَدْرِ الْأَجْزَاءِ إلَّا لِعُذْرٍ، وَكَذَلِكَ عَلَى إمَامِهِمْ فِي الْحَجِّ، وَأَمِيرِهِمْ فِي الْحَرْبِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَلِيَّ
(1/104)
فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَيْهِ أَنْ يِتصرف لِمُوَكِّلِهِ وَلِمُوَلِّيهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَصْلَحِ لَهُ فِي مَالِهِ؟ وَهُوَ فِي مَالِ نَفْسِهِ يَفُوتُ نَفْسَهُ مَا شَاءَ. فَأَمْرُ الدِّينِ أَهَمُّ، وَقَدْ ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ هَذَا الْمَعْنَى. وَمَتَى اهْتَمَّتْ الْوُلَاةُ بِإِصْلَاحِ دِينِ النَّاسِ: صَلُحَ لِلطَّائِفَتَيْنِ دِينُهُمْ وَدُنْيَاهُمْ؛ وَإِلَّا اضْطَرَبَتْ الأمور عليهم. وملاك ذلك كله صلاح النِّيَّةِ لِلرَّعِيَّةِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ كُلِّهِ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الْإِخْلَاصَ وَالتَّوَكُّلَ جِمَاعُ صَلَاحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ، كَمَا أَمَرَنَا أَنْ نَقُولَ فِي صَلَاتِنَا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] (سورة الفاتحة: الآية 5) فَإِنَّ هَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ قَدْ قِيلَ: إنَّهُمَا يَجْمَعَانِ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ مِنْ السَّمَاءِ. وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَرَّةً فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ: " يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ، إيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " فَجُعِلَتْ الرُّءُوسُ تَنْدُرُ عَنْ كَوَاهِلِهَا» . وَقَدْ ذُكِرَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123] (سورة هود: من الآية 123) وقَوْله تَعَالَى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] (سورة هود: من الآية 88) . «وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ -يَقُولُ: " اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ» . وَأَعْظُمُ عَوْنٍ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ خَاصَّةً، وَلِغَيْرِهِ عَامَّةً، ثَلَاثَةُ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: الْإِخْلَاصُ لِلَّهِ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ، وَأَصْلُ ذلك المحافظة على الصلوات بالقلب والبدن. الثاني: الْإِحْسَانُ إلَى الْخَلْقِ، بِالنَّفْعِ وَالْمَالِ الَّذِي هُوَ الزَّكَاةُ. الثَّالِثُ: الصَّبْرُ عَلَى أَذَى الْخَلْقِ وَغَيْرِهِ من النوائب. ولهذا يجمع الله بين الصلاة والصبر كثيراً، كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] (سورة البقرة: من الآية 45) . وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ - وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 114 - 115] (سورة هود: الأيتان 114، 115) . وقَوْله تَعَالَى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] (سورة طه: من الآية 130) .
(1/105)
وَكَذَلِكَ فِي " سُورَةِ ق ": {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] (الآية 39) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ - فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 - 98] (سورة الحجر: الآيتان 97، 98) . وأما قرنه بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فِي الْقُرْآنِ فَكَثِيرٌ جِدًّا. فَبِالْقِيَامِ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّبْرِ يَصْلُحُ حَالُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ. إذَا عَرَفَ الْإِنْسَانُ مَا يَدْخُلُ فِي هذه الأسماء الجامعة: يدخل في الصلاة ذكر الله تعالى، ودعاؤه، وَتِلَاوَةُ كِتَابِهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. وفي الزكاة الإحسان إلى الخلق بالمال والنفع: من نَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، وَقَضَاءِ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ» فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ إحْسَانٍ، وَلَوْ بِبَسْطِ الْوَجْهِ، وَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَاجِبٌ وَلَا تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إلَّا شَيْئًا قَدَّمَهُ، فَيَنْظُرُ أَمَامَهُ، فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ، فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَّقِيَ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ» . وَفِي السُّنَنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إلَيْهِ مُنْبَسِطٌ، وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ في إناء المستقي» . وَفِي السُّنَنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ أَثْقَلَ مَا يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ الْخُلُقُ الْحَسَنُ» . «وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: " يَا أُمَّ سَلَمَةَ ذَهَبَ حُسْنُ الْخُلُقِ بِخَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ»
(1/106)
وَفِي الصَّبْرِ احْتِمَالُ الْأَذَى، وَكَظْمُ الْغَيْظِ، وَالْعَفْوُ عَنْ النَّاسِ، وَمُخَالَفَةُ الْهَوَى، وَتَرْكُ الْأَشِرِ وَالْبَطَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ - وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ - إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 9 - 11] (سورة هود: الآيات 9- 11) . وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] (سورة الأعراف: الآية 199) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ - الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] (سورة آل عمران: الآيتان 133، 134) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ - وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ - وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34 - 36] (سورة فصلت: الآيات 34-36) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] (سورة الشورى: الآية 40) . قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ -رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ-: إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، نَادَى مُنَادٍ مِنْ بُطْنَانِ الْعَرْشِ: أَلَا لِيَقُمْ مَنْ وَجَبَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، فَلَا يَقُومُ إلَّا مَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ. فَلَيْسَ حَسَنُ النِّيَّةِ بِالرَّعِيَّةِ وَالْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ، أَنْ يَفْعَلَ مَا يَهْوُونَهُ وَيَتْرُكَ مَا يَكْرَهُونَهُ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] [سورة المؤمنون: من الآية 71) . وَقَالَ تَعَالَى لِلصَّحَابَةِ: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] (سورة الحجرات: من الآية 7) . وَإِنَّمَا الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ فِعْلُ مَا يَنْفَعُهُمْ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَلَوْ كَرِهَهُ مَنْ
(1/107)
كَرِهَهُ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفُقَ بِهِمْ فِيمَا يَكْرَهُونَهُ. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا كَانَ الرِّفْقُ فِي شَيْءٍ إلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْعُنْفُ فِي شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ» . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لَا يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ» . وَكَانَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ -رضي الله عنه- يقول: والله إني لأريد أَنْ أُخْرِجَ لَهُمْ الْمُرَّةَ مِنْ الْحَقِّ، فَأَخَافُ أَنْ يَنْفِرُوا عَنْهَا، فَأَصْبِرُ حَتَّى تَجِيءَ الْحُلْوَةُ مِنْ الدُّنْيَا، فَأُخْرِجُهَا مَعَهَا، فَإِذَا نَفَرُوا لِهَذِهِ، سَكَنُوا لِهَذِهِ. وَهَكَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَاهُ طَالِبُ حَاجَةٍ لَمْ يَرُدَّهُ إلَّا بِهَا، أَوْ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقَوْلِ. «وَسَأَلَهُ مَرَّةً بَعْضُ أَقَارِبِهِ أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَيَرْزُقَهُ مِنْهَا، فَقَالَ: " إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ» . فَمَنَعَهُمْ إيَّاهَا وَعَوَّضَهُمْ مِنْ الْفَيْءِ. وَتَحَاكَمَ إلَيْهِ عَلِيٌّ، وَزَيْدٌ، وَجَعْفَرٌ، فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ، فَلَمْ يَقْضِ بِهَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ: وَلَكِنْ قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا، ثُمَّ إنَّهُ طَيَّبَ قَلْبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِكَلِمَةٍ حَسَنَةٍ، «فَقَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ» . «وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي» . «وَقَالَ لِزَيْدٍ: " أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا» . فَهَكَذَا يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْأَمْرِ فِي قَسْمِهِ وَحُكْمِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ دَائِمًا يَسْأَلُونَ ولي الأمر مالا يصلح بنقله من الولايات، والأموال والمنافع والأجور، وَالشَّفَاعَةِ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَيُعَوِّضُهُمْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى إنْ أَمْكَنَ، أَوْ يَرُدُّهُمْ بِمَيْسُورٍ مِنْ الْقَوْلِ، مَا لَمْ يَحْتَجْ إلَى الْإِغْلَاظِ؛ فَإِنَّ رَدَّ السَّائِلِ يُؤْلِمُهُ، خُصُوصًا مَنْ يَحْتَاجُ إلَى تَأْلِيفِهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] (سورة الضحى: الآية 10) . وقال الله تَعَالَى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] (سورة الإسراء: الآية 26) إلَى قَوْلِهِ: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا} [الإسراء: 28] (سورة الإسراء: الآية 28) .
(1/108)
وَإِذَا حَكَمَ عَلَى شَخْصٍ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَأَذَّى، فإذا طيب نفسه بما يَصْلُحُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ كَانَ ذَلِكَ تَمَامَ السِّيَاسَةِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا يُعْطِيهِ الطَّبِيبُ لِلْمَرِيضِ، من الطب الَّذِي يُسَوِّغُ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا أَرْسَلَهُ إلَى فِرْعَوْنَ -: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] (سورة طه: الآية 44) . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَمَّا بَعَثَهُمَا إلَى الْيَمَنِ-: " يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا» . «وَبَالَ مَرَّةً أَعْرَابِيٌّ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ فَقَالَ: " لَا تَزْرِمُوهُ " أَيْ لَا تَقْطَعُوا عَلَيْهِ بَوْلَهُ، ثُمَّ أَمَرَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَصُبَّ عَلَيْهِ» . «وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ» . وَالْحَدِيثَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ. وَهَذَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الرَّجُلُ فِي سِيَاسَةِ نَفْسِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَرَعِيَّتِهِ؛ فَإِنَّ النُّفُوسَ لَا تَقْبَلُ الْحَقَّ إلَّا بِمَا تَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ حُظُوظِهَا الَّتِي هِيَ مُحْتَاجَةٌ إلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ الْحُظُوظُ عِبَادَةً لِلَّهِ وَطَاعَةً لَهُ مع النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَاللِّبَاسَ وَاجِبٌ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ حَتَّى لَوْ اُضْطُرَّ إلى الميتة وجب عليه الأكل عند عامة العلماء، فإن لم جمل حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ لَا تُؤَدَّى إلَّا بِهَذَا، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَةُ الإنسان على نفسه وأهله مقدمة على غيرها. فَفِي السُّنَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَصَدَّقُوا فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ: عِنْدِي دِينَارٌ فَقَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى نَفْسِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ: تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى زَوْجَتِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ تَصَدَّقْ
(1/109)
بِهِ عَلَى وَلَدِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قَالَ تَصَدَّقْ بِهِ عَلَى خَادِمِكَ. قَالَ: عِنْدِي آخَرُ. قال: أنت أصر بِهِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ صدقت بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ. أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا ابْنَ آدَمَ إنَّكَ أَنْ تبذل الفضل خير لك، دان تُمْسِكَهُ شَرٌّ لَكَ. وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ؛ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى» . وَهَذَا تَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] أَيْ الْفَضْلَ (سورة البقرة: من الآية 219) . وَذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَرْضُ عَيْنٍ، بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فِي الْغَزْوِ وَالْمَسَاكِينِ؛ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ إمَّا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَإِمَّا مُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَصِيرُ مُتَعَيَّنًا إذَا لَمْ يَقُمْ غَيْرُهُ بِهِ؛ فَإِنَّ إطْعَامَ الْجَائِعِ وَاجِبٌ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَوْ صَدَقَ السَّائِلُ لَمَا أَفْلَحَ مَنْ رَدَّهُ» . ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَذَكَرَ أَنَّهُ إذَا عُلِمَ صِدْقُهُ وَجَبَ إطْعَامُهُ. وَقَدْ رَوَى أَبُو حَاتِمٍ الْبُسْتِيِّ فِي صَحِيحِهِ حَدِيثَ أَبِي ذَرٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- الطَّوِيلَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي فِيهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ -وَفِيهِ أَنَّهُ كَانَ فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ-: " حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَرْبَعُ سَاعَاتٍ: سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا بِأَصْحَابِهِ الذيِن يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيُحَدِّثُونَهُ عَنْ ذَاتِ نفسه، وساعة يخلو فيها بلذته فسما يَحِلُّ وَيَجْمُلُ، فَإِنَّ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلْكَ السَّاعَاتِ ". فَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا بُدَّ من اللذات المباحة الجميلة فإنها تدين عَلَى تِلْكَ الْأُمُورِ.
(1/110)
وَلِهَذَا ذَكَرَ الْفُقَهَاءُ: أَنَّ الْعَدَالَةَ هِيَ الصَّلَاحُ فِي الدِّينِ وَالْمُرُوءَةُ؛ بِاسْتِعْمَالِ مَا يُجَمِّلُهُ وَيُزَيِّنُهُ، وَتَجَنُّبِ مَا يُدَنِّسُهُ وَيَشِينُهُ. وَكَانَ أَبُو الدَّرْدَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: إنِّي لَأَسْتَجِمُّ نَفْسِي بِالشَّيْءِ مِنْ الْبَاطِلِ، لِأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى الْحَقِّ. والله سبحانه إنما خلق اللغات والشهوات في الأصل لتمام مصلحة الخلق؛ فإنه بذلك يجتلبون ما ينفعهم، كما خليق الْغَضَبَ لِيَدْفَعُوا بِهِ مَا يَضُرُّهُمْ، وَحَرَّمَ مِنْ الشَّهَوَاتِ مَا يَضُرُّ تَنَاوُلُهُ، وَذَمَّ مَنْ اقْتَصَرَ عَلَيْهَا. فَأَمَّا مَنْ اسْتَعَانَ بِالْمُبَاحِ الْجَمِيلِ عَلَى الْحَقِّ، فَهَذَا مِنْ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ ويكون له فيها أجرٌ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أما يكون عليه وزر؟ قالوا: بلى، قال: فَلِمَ تَحْتَسِبُونَ بِالْحَرَامِ وَلَا تَحْتَسِبُونَ بِالْحَلَالِ؟» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: «إنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إلَّا ازْدَدْتَ بِهَا درجة ورفعة، حتى اللقمة تضعها في في امرأتك» . والآثار فِي هَذَا كَثِيرَةٌ. فَالْمُؤْمِنُ إذَا كَانَتْ لَهُ نية، أتت على عامة أفعاله، وكان المباحات من صَالِحِ أَعْمَالِهِ لِصَلَاحِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ، وَالْمُنَافِقُ -لِفَسَادِ قَلْبِهِ وَنِيَّتِهِ- يُعَاقَبُ عَلَى مَا يُظْهِرُهُ مِنْ العبادات رياء، فإن في الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَلَا إنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلُحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَكَمَا أَنَّ الْعُقُوبَاتِ شُرِعَتْ دَاعِيَةً إلَى فِعْلِ الْوَاجِبَاتِ، وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، فَقَدْ شُرِعَ أَيْضًا كُلُّ مَا يُعِينُ عَلَى ذَلِكَ. فَيَنْبَغِي تَيْسِيرُ طَرِيقِ الخير والطاعة،
(1/111)
وَالْإِعَانَةُ عَلَيْهِ، وَالتَّرْغِيبُ فِيهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ؛ مِثْلُ أَنْ يَبْذُلَ لِوَلَدِهِ، وَأَهْلِهِ، أَوْ رَعِيَّتِهِ مَا يُرَغِّبُهُمْ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ: مِنْ مَالٍ، أَوْ ثَنَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ وَلِهَذَا شُرِعَتْ الْمُسَابَقَةُ بِالْخَيْلِ، وَالْإِبِلِ، وَالْمُنَاضَلَةُ بِالسِّهَامِ، وَأَخْذُ الْجُعْلِ عَلَيْهَا؛ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّرْغِيبِ فِي إعْدَادِ الْقُوَّةِ وَرِبَاطِ الخيل لجهاد فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حَتَّى كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُسَابِقُ بَيْنَ الْخَيْلِ، هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ، وَيُخْرِجُونَ الْأَسْبَاقَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ عَطَاءُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، فَقَدْ رُوِيَ: " أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُسْلِمُ أَوَّلَ النَّهَارِ رَغْبَةً فِي الدُّنْيَا فَلَا يَجِيءُ آخِرُ النَّهَارِ إلَّا وَالْإِسْلَامُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ ". وَكَذَلِكَ الشَّرُّ وَالْمَعْصِيَةُ: يَنْبَغِي: حَسْمُ مَادَّتِهِ، وَسَدُّ ذَرِيعَتِهِ، وَدَفْعُ مَا يُفْضِي إلَيْهِ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَصْلَحَةٌ رَاجِحَةٌ. مِثَالُ ذَلِكَ، مَا نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لا يخلون رجل بِامْرَأَةٍ، فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ» . وَقَالَ: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمَيْنِ إلَّا وَمَعَهَا زَوْجٌ أَوْ ذُو مَحْرَمٍ» . فَنَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخلوة بِالْأَجْنَبِيَّةِ، وَالسَّفَرِ بِهَا؛ لِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى الشَّرِّ. وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ «وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَدِمُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهِمْ غُلَامٌ ظَاهِرُ الْوَضَاءَةِ، فَأَجْلَسَهُ خلف ظَهْرَهُ. وَقَالَ: " إنَّمَا كَانَتْ خَطِيئَةُ دَاوُد النَّظَرَ» . وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا كَانَ يَعُسُّ بِالْمَدِينَةِ فَسَمِعَ امْرَأَةً تَتَغَنَّى بِأَبْيَاتٍ تَقُولُ فِيهَا:
هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فأشربها ... أو من سبيل إلى نصر بن حجاج
فدعا به، فوجده شَابًّا حَسَنًا، فَحَلَقَ رَأْسَهُ فَازْدَادَ جَمَالًا، فَنَفَاهُ إلى البصرة، لئلا تفتق به النساء. وروي عنه: أنه بلغه أن رَجُلًا يَجْلِسُ إلَيْهِ الصِّبْيَانُ فَنَهَى عَنْ مُجَالَسَتِهِ.
(1/112)
فَإِذَا كَانَ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ تُخَافُ فِتْنَتُهُ على الرجال، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ، مَنَعَ وَلِيُّهُ مِنْ إظْهَارِهِ لغير حاجة، أو تحسينه؛ لا سيما بترييحه فِي الْحَمَّامَاتِ، وَإِحْضَارِهِ مَجَالِسَ اللَّهْوِ وَالْأَغَانِي؛ فَإِنَّ هَذَا مِمَّا يَنْبَغِي التَّعْزِيرُ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَنْ ظهر منه الفجور يمنع من تملك الْغِلْمَانِ الْمُرْدَانِ الصِّبَاحِ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَكَانَ قَدْ اسْتَفَاضَ عَنْهُ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْفُسُوقِ الْقَادِحَةِ فِي الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ قَبُولُ شَهَادَتِهِ، وَيَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْرَحَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ. «فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيراً. فقال: أوجبت وَجَبَتْ ". ثُمَّ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شراً، فقال: " وجبت وَجَبَتْ ". فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: " هَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا خَيْرًا فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا الْجَنَّةُ، وَهَذِهِ الْجِنَازَةُ أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهَا شَرًّا فَقُلْتُ وَجَبَتْ لَهَا النَّارُ. أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» . مَعَ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَانِهِ امْرَأَةٌ تُعْلِنُ (1) الْفُجُورَ. فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا أَحَدًا بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُ هَذِهِ» . فَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ. وَأَمَّا الْحَذَرُ مِنْ الرَّجُلِ فِي شَهَادَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْمُعَايَنَةِ؛ بَلْ الِاسْتِفَاضَةُ كَافِيَةٌ فِي ذَلِكَ، وَمَا هُوَ دُونَ الِاسْتِفَاضَةِ، حَتَّى أَنَّهُ يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَقْرَانِهِ، كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: " اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخْدَانِهِمْ (2) ". فَهَذَا لِدَفْعِ شَرِّهِ، مِثْلُ الِاحْتِرَازِ مِنْ الْعَدُوِّ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عنه-: " احترسوا من النَّاسِ بِسُوءِ الظَّنِّ ". فَهَذَا أَمْرُ عُمَرَ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ عُقُوبَةُ الْمُسْلِمِ بِسُوءِ الظَّنِّ.
_________
(1) في نسخة: تظن بالفجور.
(2) في نسخة: بأحبابهم.
(1/113)
[القسم الثاني الحدود والحقوق التي لأدمي معين]
[القصاص]
وَأَمَّا الْحُدُودُ وَالْحُقُوقُ الَّتِي لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ فَمِنْهَا النُّفُوسُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ - وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153] (سورة الأنعام: الآيات 151-153) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] (سورة النساء: من الآية 92) 0 إلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] (سورة النساء: الآية 93) وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] (سورة المائدة: من الآية 32) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» . فَالْقَتْلُ ثَلَاثَةُ أنواع: أحدها: الْعَمْدُ الْمَحْضُ، وَهُوَ أَنْ يَقْصِدَ مَنْ يَعْلَمُهُ مَعْصُومًا بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، سَوَاءٌ كَانَ يَقْتُلُ بِحَدِّهِ كَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ، أَوْ بِثِقَلِهِ كَالسِّنْدَانِ وَكَوَذِينِ القصار؛ أو
(1/114)
بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالتَّحْرِيقِ وَالتَّغْرِيقِ، وَالْإِلْقَاءِ مِنْ مَكَان شَاهِقٍ، وَالْخَنْقِ، وَإِمْسَاكِ الْخُصْيَتَيْنِ حَتَّى تَخْرُجَ الرُّوحُ، وغم الوجه حتى يموت، وسقي السموم ونحو ذلك من الأفعال، فهذا إذا فعله وجب فِيهِ الْقَوَدُ، وَهُوَ أَنْ يُمَكَّنَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ مِنْ الْقَاتِلِ؛ فَإِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا، وَإِنْ أَحَبُّوا عَفْوًا، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ. وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا غَيْرَ قَاتِلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} [الإسراء: 33] (سورة الإسراء: الآية 33) . قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ: لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبَلٍ -الْخَبَلُ الْجِرَاحُ- فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إحْدَى ثَلَاثٍ: فَإِنْ أَرَادَ الرَّابِعَةَ فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ: أَنْ يَقْتُلَ، أَوْ يَعْفُوَ، أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ. فَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَادَ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا أَبَدًا» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَمَنْ قَتَلَ بَعْدَ الْعَفْوِ أَوْ أَخْذِ الدِّيَةِ فَهُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِمَّنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، حَتَّى قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ حَدًّا، وَلَا يَكُونُ أَمْرُهُ لِأَوْلِيَاءِ المقتول. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ - وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 178 - 179] (سورة البقرة: من الآية 178 والآية 179) . قَالَ الْعُلَمَاءُ: إنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ تَغْلِي قُلُوبُهُمْ بِالْغَيْظِ، حَتَّى يُؤْثِرُوا أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ وَأَوْلِيَاءَهُ، وَرُبَمَا لَمْ يَرْضَوْا بِقَتْلِ الْقَاتِلِ، بَلْ يَقْتُلُونَ كَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْقَاتِلِ كَسَيِّدِ الْقَبِيلَةِ وَمُقَدِّمِ الطَّائِفَةِ، فَيَكُونُ الْقَاتِلُ قَدْ اعْتَدَى فِي الِابْتِدَاءِ، وَتَعَدَّى هَؤُلَاءِ فِي الِاسْتِيفَاءِ، كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ الْخَارِجُونَ عَنْ
(1/115)
الشَّرِيعَةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، مِنْ الْأَعْرَابِ وَالْحَاضِرَةِ وَغَيْرِهِمْ. وَقَدْ يَسْتَعْظِمُونَ قَتْلَ الْقَاتِلَ لِكَوْنِهِ عَظِيمًا أشرف من المقتول، فيفضي ذلك إلى أن أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ يَقْتُلُونَ مَنْ قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْقَاتِلِ، وَرُبَمَا حَالَفَ هَؤُلَاءِ قَوْمًا وَاسْتَعَانُوا بِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ قَوْمًا، فَيُفْضِي إلَى الْفِتَنِ وَالْعَدَاوَاتِ الْعَظِيمَةِ. وَسَبَبُ ذَلِكَ خُرُوجُهُمْ عَنْ سُنَنِ الْعَدْلِ الَّذِي هُوَ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى، فَكَتَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِصَاصَ -وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَالْمُعَادَلَةُ فِي الْقَتْلَى- وَأَخْبَرَ أَنَّ فِيهِ حَيَاةً؛ فَإِنَّهُ يَحْقِنُ دَمَ غير القاتل من أولياء الرجلين. وأيضاً فإذا عِلْمُ مَنْ يُرِيدُ الْقَتْلَ أَنَّهُ يُقْتَلُ كَفٌّ عن القتل. وقد روي عن علي ابن أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَعَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سُوَاهُمْ، وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، أَلَا لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ» . رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ السُّنَنِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ -أَيْ تَتَسَاوَى وَتَتَعَادَلُ- فَلَا يُفَضَّلُ عَرَبِيٌّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا قُرَشِيٌّ أَوْ هَاشِمِيٌّ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَلَا حُرٌّ أَصْلِيٌّ عَلَى مَوْلًى عَتِيقٍ، وَلَا عَالِمٌ أَوْ أَمِيرٌ، عَلَى أُمِّيٍّ أَوْ مَأْمُورٍ. وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ بِخِلَافِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ وَحُكَّامُ الْيَهُودِ فَإِنَّهُ كَانَ بِقُرْبِ مَدِينَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِنْفَانِ مِنْ الْيَهُودِ: قُرَيْظَةَ والنضير، وكانت النضير تفضل عَلَى قُرَيْظَةَ فِي الدِّمَاءِ، فَتَحَاكَمُوا إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ، وَفِي حَدِّ الزِّنَا، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَدْ غَيَّرُوهُ مِنْ الرجم إلى التحميم، وقالوا إن حكم بينكم بِذَلِكَ كَانَ لَكُمْ حُجَّةٌ، وَإِلَّا فَأَنْتُمْ قَدْ تَرَكْتُمْ حُكْمَ التَّوْرَاةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] (سورة المائدة: من الآية 41) . إلى
(1/116)
قَوْلِهِ: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة: 42] (سورة المائدة: من الآية 42) . إلَى قَوْلِهِ: {فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ - وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 44 - 45] (سورة المائدة: من الآيتين 44، 45) . فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ نُفُوسِهِمْ، وَلَمْ يُفَضِّلْ مِنْهُمْ نَفْسًا عَلَى أُخْرَى، كَمَا كانوا يفعلونه إلى قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48] (سورة المائدة من الآية 48) . إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] (سورة المائدة: الآية 50) . فَحَكَمَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهَا كلها سواء، خلاف ما عليه أهل الْجَاهِلِيَّةُ. وَأَكْثَرُ سَبَبِ الْأَهْوَاءِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَ النَّاسِ في البوادي والحواضر إنما هو البغي، وترك الْعَدْلِ، فَإِنَّ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ قَدْ يُصِيبُ بَعْضُهَا بعضاً من الأخرى دماً أو مالاً، أو تعلو عليها بِالْبَاطِلِ وَلَا تُنْصِفُهَا، وَلَا تَقْتَصِرُ الْأُخْرَى عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، فَالْوَاجِبُ فِي كِتَابِ اللَّهِ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِي الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا بِالْقِسْطِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَمَحْوِ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ مِنْ حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِذَا أَصْلَحَ مُصْلِحٌ بَيْنَهُمَا فَلْيُصْلِحْ بِالْعَدْلِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10]
(1/117)
(سورة الحجرات: الآية 9 ومن الآية 10) . وَيَنْبَغِي أَنْ يَطْلُبَ الْعَفْوَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ لَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] (سورة المائدة: من الآية 45) . قَالَ أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: «مَا رُفِعَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرٌ فِيهِ قِصَاصٌ إلَّا أَمَرَ فِيهِ بِالْعَفْوِ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلَّا عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ» . وَهَذَا الذي ذكرناه من التكافؤ: هو الْمُسْلِمِ الْحُرِّ مَعَ الْمُسْلِمِ الْحُرِّ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لِلْمُسْلِمِ، كَمَا أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ الَّذِي يَقْدَمُ مِنْ بِلَادِ الْكُفَّارِ رَسُولًا أَوْ تَاجِرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهُ وِفَاقًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: بَلْ هُوَ كُفْءٌ لَهُ، وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ فِي قَتْلِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي: الْخَطَأُ الَّذِي يُشْبِهُ الْعَمْدَ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَلَا إنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ فِي السَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا» . سماه شبه الْعَمْدَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْعُدْوَانَ عَلَيْهِ بِالضَّرْبِ؛ لَكِنَّهُ لَا يَقْتُلُ غَالِبًا. فَقَدْ تَعَمَّدَ الْعُدْوَانَ، وَلَمْ يتعمد ما يقتل. والثالث: الخطأ المحض وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ: مِثْلُ أَنْ يَرْمِيَ صَيْدًا، أَوْ هَدَفًا: فَيُصِيبَ إنْسَانًا بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَلَا قَصْدِهِ. فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ قَوَدٌ. وَإِنَّمَا فِيهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ. وَهُنَا مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كتب أهل العلم، وبينهم.
(1/118)
[القصاص في الجراح]
فصل وَالْقِصَاصُ فِي الْجِرَاحِ أَيْضًا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسَّنَةِ والإجماع بشرط الْمُسَاوَاةِ؛ فَإِذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلٍ، فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ كَذَلِكَ. وَإِذَا قَلَعَ سِنَّهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْلَعَ سِنَّهُ. وَإِذَا شَجَّهُ فِي رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ، فَأَوْضَحَ الْعَظْمَ، فَلَهُ أَنْ يَشُجَّهُ كَذَلِكَ، وَإِذَا لَمْ تُمْكِنْ الْمُسَاوَاةُ: مِثْلَ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا بَاطِنًا، أَوْ يَشُجَّهُ دُونَ الْمُوضِحَةِ، فَلَا يُشْرَعُ الْقِصَاصُ؛ بَلْ تَجِبُ الدِّيَةُ الْمَحْدُودَةُ، أَوْ الْأَرْشُ. وَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي الضَّرْبِ بِيَدِهِ أَوْ بِعَصَاهُ أَوْ سَوْطِهِ، مِثْلَ أَنْ يَلْطِمَهُ، أَوْ يَلْكُمَهُ، أَوْ يَضْرِبَهُ بِعَصًا، وَنَحْوَ ذَلِكَ: فَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ، بَلْ فِيهِ التعزير، لِأَنَّهُ لَا تُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ فِيهِ. وَالْمَأْثُورُ عَنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ: أَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ نَصُّ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَبِذَلِكَ جَاءَتْ سَنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّوَابُ، قال أَبُو فِرَاسٍ: خَطَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ الله عنه- فذكر حديثاً قال فيه: " لا إنِّي وَاَللَّهِ مَا أُرْسِلَ عُمَّالِي إلَيْكُمْ لِيَضْرِبُوا أَبْشَارَكُمْ، وَلَا لِيَأْخُذُوا أَمْوَالكُمْ، وَلَكِنْ أُرْسِلَهُمْ إلَيْكُمْ ليعلموكم دينكم وسنة نبيكم. فَمَنْ فُعِلَ بِهِ سِوَى ذَلِكَ: فَلْيَرْفَعْهُ إلَيَّ. فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إذًا لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، فَوَثَبَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إن كان رجل من المسلمين أمر على رعية فأدب رعيته، أئنك لتقصه منه؟ قال: إي وَاَلَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إذًا لَأَقُصَّنَّهُ مِنْهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ مِنْ نَفْسِهِ. أَلَا لَا تَضْرِبُوا الْمُسْلِمِينَ فَتُذِلُّوهُمْ، وَلَا تَمْنَعُوهُمْ حُقُوقَهُمْ فَتُكَفِّرُوهُمْ. رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ.
(1/119)
وَمَعْنَى هَذَا إذَا ضَرَبَ الْوَالِي رَعِيَّتَهُ ضَرْبًا غَيْرَ جَائِزٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الْمَشْرُوعُ، فَلَا قِصَاصَ فِيهِ بِالْإِجْمَاعِ، إذْ هُوَ وَاجِبٌ، أَوْ مُسْتَحَبٌّ، أو جائز.
(1/120)
[القصاص في الأعراض]
فصل وَالْقِصَاصُ فِي الْأَعْرَاضِ مَشْرُوعٌ أَيْضًا: وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا لَعَنَ رَجُلًا أَوْ دَعَا عَلَيْهِ، فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ كَذَلِكَ. وَكَذَلِكَ إذَا شتمه: بشتمة لَا كَذِبَ فِيهَا. وَالْعَفْوُ أَفْضَلُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 40 - 41] (سورة الشورى: الآيتان 40، 41) . وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْتَبَّانِ: مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ» . وَيُسَمَّى هَذَا الِانْتِصَارَ. وَالشَّتِيمَةُ الَّتِي لَا كَذِبَ فِيهَا مِثْلُ الْإِخْبَارِ عَنْهُ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَبَائِحِ، أَوْ تَسْمِيَتِهِ بِالْكَلْبِ أَوْ الْحِمَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأَمَّا إنْ افْتَرَى عَلَيْهِ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَفَّرَهُ أَوْ فَسَّقَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَهُ أَوْ يُفَسِّقَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَوْ لَعَنَ أَبَاهُ أَوْ قَبِيلَتَهُ، أَوْ أَهْلَ بَلَدِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَتَعَدَّى على أولئك، فإنهم لم يظلموه. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة: من الآية 8) . فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَلَّا يَحْمِلَهُمْ بُغْضُهُمْ لِلْكُفَّارِ عَلَى أَلَّا يَعْدِلُوا. وَقَالَ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] (سورة المائدة من الآية 8) .
فَإِنْ كَانَ الْعُدْوَانُ عَلَيْهِ فِي الْعِرْضِ مُحَرَّمًا لحقه؛ لما يلحقه من الأذى، جاز الاقتصاص منه بمثله، كالدعاء عليه بمثل مَا دَعَاهُ؛ وَأَمَّا إذَا كَانَ مُحَرَّمًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، كَالْكَذِبِ، لَمْ يَجُزْ بِحَالٍ، وَهَكَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ: إذَا قَتَلَهُ بِتَحْرِيقٍ، أَوْ تَغْرِيقٍ، أَوْ خَنْقٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُفْعَلُ بِهِ كَمَا فَعَلَ، مَا لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُحَرَّمًا فِي نَفْسِهِ كَتَجْرِيعِ الْخَمْرِ وَاللِّوَاطِ بِهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا قَوَدَ عليه إلا بالسيف. والأول أشبه بالكتاب والسنَّة والعدل.
(1/121)
فصل
وَإِذَا كَانَتْ الْفِرْيَةُ، وَنَحْوُهَا لَا قِصَاصَ فِيهَا؛ فَفِيهَا الْعُقُوبَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. فَمِنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ الثَّابِتِ فِي الْكِتَابِ والسنَّة والإجماعِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ - إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور: 4 - 5] (سورة النور: الآيتان 4، 5) .
فإذا رمى الحر محصنا بالزنا واللواط فَعَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، وَإِنْ رَمَاهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ عُوقِبَ تَعْزِيرًا.
وَهَذَا الْحَدُّ يَسْتَحِقُّهُ الْمَقْذُوفُ، فَلَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ بِاتِّفَاقِ الْفُقَهَاءِ. فَإِنْ عَفَا عَنْهُ سَقَطَ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ، لِأَنَّ الْمُغَلَّبِ فِيهِ حَقُّ الْآدَمِيِّ، كَالْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ. وَقِيلَ: لَا يَسْقُطُ، تَغْلِيبًا لِحَقِّ اللَّهِ، لعدم المماثلة، كسائر الحدود. وإنما يجب حد الْقَذْفُ إذَا كَانَ الْمَقْذُوفُ مُحْصَنًا، وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْحُرُّ الْعَفِيفُ.
فَأَمَّا الْمَشْهُورُ بِالْفُجُورِ فَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالرَّقِيقُ لَكِنْ يُعَزَّرُ الْقَاذِفُ؛ إلَّا الزَّوْجَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْذِفَ امْرَأَتَهُ إذَا زَنَتْ وَلَمْ تَحْبَلَ مِنْ الزِّنَا. فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْهُ وَوَلَدَتْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْذِفَهَا، وَيَنْفِيَ وَلَدَهَا؛ لِئَلَّا يَلْحَقَ بِهِ مَنْ لَيْسَ مِنْهُ. وَإِذَا قَذَفَهَا فَإِمَّا أَنْ تُقِرَّ بِالزِّنَا، وإما أن تلاعنه، كما ذكره الله فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَلَوْ كَانَ الْقَاذِفُ عَبْدًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ حَدِّ الْحُرِّ، وَكَذَلِكَ فِي جَلْدِ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْإِمَاءِ: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] (سورة النساء: من الآية 25) . وَأَمَّا إذَا كَانَ الْوَاجِبُ الْقَتْلَ، أَوْ قَطْعَ اليد، فإنه لا يتنصف.
(1/122)
[الأبضاع]
فصل وَمِنْ الْحُقُوقِ الْأَبْضَاعُ، فَالْوَاجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، مِنْ إمْسَاكٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ. فَيَجِبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى الْآخَرِ حُقُوقَهُ، بِطِيبِ نَفْسٍ وَانْشِرَاحِ صَدْرٍ؛ فَإِنَّ لِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّجُلِ حَقًّا فِي مَالِهِ، وَهُوَ الصَّدَاقُ وَالنَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ، وَحَقًّا فِي بَدَنِهِ، وَهُوَ الْعِشْرَةُ وَالْمُتْعَةُ؛ بِحَيْثُ لَوْ آلَى مِنْهَا اسْتَحَقَّتْ الْفُرْقَةَ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا لَا يُمْكِنُهُ جِمَاعُهَا فَلَهَا الْفُرْقَةُ؛ وَوَطْؤُهَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَدْ قِيلَ: إنَّهُ لا يجب اكتفاء بالباعث الطَّبِيعِيِّ. وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ وَاجِبٌ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْأُصُولُ. وَقَدْ «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- لَمَّا رَآهُ يُكْثِرُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ: " إنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» .
ثُمَّ قِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا كُلَّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً. وَقِيلَ: يَجِبُ وَطْؤُهَا بِالْمَعْرُوفِ، عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِ وَحَاجَتِهَا. كَمَا تَجِبُ النَّفَقَةُ بِالْمَعْرُوفِ كَذَلِكَ، وَهَذَا أشبه.
وللرجل عليها أن يستمتع منها مَتَى شَاءَ، مَا لَمْ يَضُرَّ بِهَا، أَوْ يَشْغَلَهَا عَنْ وَاجِبٍ. فَيَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ كَذَلِكَ.
وَلَا تَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ، أَوْ بِإِذْنِ الشَّارِعِ، وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ هَلْ عَلَيْهَا خِدْمَةُ الْمَنْزِلِ كَالْفَرْشِ وَالْكَنْسِ وَالطَّبْخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: يَجِبُ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: لَا يَجِبُ. وَقِيلَ: يجب الخفيف منه.
(1/123)
[فصل في الحكم بين الناس في الأموال بالعدل كما أمر الله ورسوله]
فصل وأما الأموال فَيَجِبُ الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ فِيهَا بِالْعَدْلِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، مِثْلُ قَسْمِ الْمَوَارِيثِ بَيْنَ الْوَرَثَةِ، عَلَى مَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
وَقَدْ تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ فِي مَسَائِلَ مِنْ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ فِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ وَالْوَكَالَاتِ وَالْمُشَارَكَاتِ وَالْهِبَاتِ وَالْوُقُوفِ وَالْوَصَايَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْعُقُودِ وَالْقُبُوضِ؛ فَإِنَّ الْعَدْلَ فِيهَا هُوَ قُوَامُ الْعَالَمِينَ، لَا تَصْلُحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ إلَّا بِهِ.
فَمِنْ الْعَدْلِ فِيهَا مَا هُوَ ظَاهِرٌ، يَعْرِفُهُ كُلُّ أَحَدٍ بِعَقْلِهِ، كَوُجُوبِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي، وَتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ عَلَى الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي، وَتَحْرِيمِ تَطْفِيفِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ، وَوُجُوبِ الصِّدْقِ وَالْبَيَانِ، وَتَحْرِيمِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ وَالْغِشِّ، وَأَنَّ جَزَاءَ الْقَرْضِ الْوَفَاءُ وَالْحَمْدُ.
وَمِنْهُ مَا هُوَ خَفِيٌّ، جَاءَتْ بِهِ الشَّرَائِعُ أَوْ شَرِيعَتُنَا- أَهْلَ الْإِسْلَامِ- فَإِنَّ عَامَّةَ مَا نَهَى عَنْهُ الْكِتَابُ والسنَّة مِنْ الْمُعَامَلَاتِ يَعُودُ إلَى تَحْقِيقِ الْعَدْلِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الظُّلْمِ: دِقِّهِ وَجُلِّهِ، مِثْلِ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَجِنْسِهِ مِنْ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ، وَأَنْوَاعِ الرِّبَا وَالْمَيْسِرِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مِثْلِ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَبَيْعِ حَبَلِ الْحُبْلَةُ، وَبَيْعِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ، وَالسَّمَكِ فِي الْمَاءِ، وَالْبَيْعِ إلَى أَجَلٍ غَيْرِ مُسَمًّى، وَبَيْعِ الْمُصَرَّاةِ، وَبَيْعِ الْمُدَلِّسِ، وَالْمُلَامَسَةِ، وَالْمُنَابَذَةِ، وَالْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ وَالنَّجْشِ، وَبَيْعِ الثَّمَرِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ، وَمَا نَهْي عَنْهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُشَارَكَاتِ الْفَاسِدَةِ، كَالْمُخَابَرَةِ بِزَرْعِ بُقْعَةٍ بِعَيْنِهَا مِنْ الْأَرْضِ.
(1/124)
ومن ذلك ما قد تنازع فِيهِ الْمُسْلِمُونَ لِخَفَائِهِ وَاشْتِبَاهِهِ. فَقَدْ يَرَى هَذَا الْعَقْدَ وَالْقَبْضَ صَحِيحًا عَدْلًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَرَى فِيهِ جَوْرًا يُوجِبُ فَسَادَهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] (سورة النساء: من الآية 59) . وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ عَلَى النَّاسِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ الَّتِي يَحْتَاجُونَ إلَيْهَا إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى تَحْرِيمِهِ، كَمَا لَا يُشَرَّعُ لَهُمْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ، إلَّا مَا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى شَرْعِهِ؛ إذْ الدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ ذمهم الله، حيث حرموا من دين الله ما لم يحرمه الله، وأشركوا به مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَشَرَعُوا لَهُمْ مِنْ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لَأَنْ نَجْعَلَ الْحَلَالَ مَا حَلَّلَتْهُ، والحرام ما حرمته، والدين ما شرعته.
(1/125)
[فصل في المشورة]
فصل لَا غِنَى لِوَلِيِّ الْأَمْرِ عَنْ الْمُشَاوَرَةِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ تَعَالَى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159] (سورة آل عمران: من الآية 159) . وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عنه- قال: «لم يكن أحد أكثر مشاورة لِأَصْحَابِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . وَقَدْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَا نَبِيَّهُ لِتَأْلِيفِ قُلُوبِ أَصْحَابِهِ، وَلِيَقْتَدِيَ بِهِ مَنْ بعده، وليستخرج بها مِنْهُمْ الرَّأْيَ فِيمَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحَيٌّ: مِنْ أَمْرِ الْحُرُوبِ، وَالْأُمُورِ الْجُزْئِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَغَيْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْلَى بِالْمَشُورَةِ.
وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ - وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ - وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 36 - 38] (سورة الشورى: من الآية 36 والآيتان 37، 38) . وَإِذَا اسْتَشَارَهُمْ، فَإِنْ بَيَّنَ لَهُ بَعْضُهُمْ مَا يجب اتباعه من كتاب الله أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ أَوْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، فَعَلَيْهِ اتباع ذلك، ولا طاعة لأحد فِي خِلَافِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] (سورة النساء: من الآية 59) .
وَإِنْ كَانَ أَمْرًا قَدْ تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمْ رَأْيَهُ وَوَجَّهَ رَأْيَهُ، فَأَيُّ الْآرَاءِ كَانَ أَشْبَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ عَمِلَ بِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59]
(1/126)
(سورة النساء: من الآية 59) .
وَأُولُو الْأَمْرِ صِنْفَانِ: الْأُمَرَاءُ وَالْعُلَمَاءُ، وَهُمْ الَّذِينَ إذَا صَلَحُوا صَلَحَ النَّاسُ، فَعَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أن يتحرى بما يَقُولُهُ وَيَفْعَلُهُ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاتِّبَاعَ كِتَابِ اللَّهِ. وَمَتَى أَمْكَنَ فِي الْحَوَادِثِ الْمُشْكِلَةِ مَعْرِفَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ ذَلِكَ لِضِيقِ الْوَقْتِ أَوْ عَجْزِ الطَّالِبِ، أَوْ تَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ عِنْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَهُ أَنْ يُقَلِّدَ مَنْ يَرْتَضِيَ عِلْمَهُ وَدِينَهُ. هَذَا أَقْوَى الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قيل: ليس له التقليد بكل حال، وقيل: لَهُ التَّقْلِيدُ بِكُلِّ حَالٍ، وَالْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ.
وَكَذَلِكَ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ الشُّرُوطِ يَجِبُ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الإمكان، بل وسائر الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، كُلُّ ذَلِكَ وَاجِبٌ مَعَ الْقُدْرَةِ. فَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا. وَلِهَذَا أَمْرَ اللَّهُ الْمُصَلِّيَ أَنْ يَتَطَهَّرَ بِالْمَاءِ، فَإِنْ عَدِمَهُ، أَوْ خَافَ الضَّرَرَ بِاسْتِعْمَالِهِ لِشِدَّةِ الْبَرْدِ أَوْ جِرَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، تَيَمَّمَ صعيداً طيباً، فمسح بوجهه ويديه منه. «وقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: " صَلِّ قَائِمًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا. فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» . فَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ فِعْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى أَيِّ حَالٍ أَمْكَنَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ - فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 238 - 239] (سورة البقرة: الآيتان 238، 239) .
فَأَوْجَبَ اللَّهُ الصَّلَاةَ عَلَى الْآمِنِ وَالْخَائِفِ، وَالصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ، وَالْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ، وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ، وَخَفَّفَهَا عَلَى الْمُسَافِرِ وَالْخَائِفِ وَالْمَرِيضِ، كَمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ والسنة.
(1/127)
وَكَذَلِكَ أَوْجَبَ فِيهَا وَاجِبَاتٍ: مِنْ الطَّهَارَةِ، وَالسِّتَارَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَأَسْقَطَ مَا يَعْجِزُ عَنْهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ. فَلَوْ انْكَسَرَتْ سَفِينَةُ قَوْمٍ، أَوْ سَلَبَهُمْ الْمُحَارِبُونَ ثِيَابَهُمْ، صَلَّوْا عُرَاةً بِحَسَبِ أَحْوَالِهِمْ، وَقَامَ إمَامُهُمْ وَسَطَهُمْ؛ لِئَلَّا يَرَى الْبَاقُونَ عَوْرَتَهُ.
وَلَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمْ الْقِبْلَةُ، اجْتَهَدُوا فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهَا. فَلَوْ عَمِيَتْ الدَّلَائِلُ صَلَّوْا كَيْفَمَا أَمْكَنَهُمْ، كَمَا قَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَكَذَا الْجِهَادُ وَالْوِلَايَاتُ وَسَائِرُ أُمُورِ الدِّينِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] (سورة التغابن: من الآية 16) . وَفِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» . كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا حَرَّمَ الْمَطَاعِمَ الْخَبِيثَةَ قَالَ: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] (سورة البقرة: من الآية 173) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] (سورة الحج: من الآية 78) . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6] (سورة المائدة: من الآية 6) . فَلَمْ يُوجِبْ مَا لَا يُسْتَطَاعُ، وَلَمْ يُحَرِّمْ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ، إذَا كَانَتْ الضَّرُورَةُ بِغَيْرِ معصية من العبد.
(1/128)
[فصل منزلة الولاية]
فصل يجب أن يعرف أن ولاية أمر النَّاسِ مِنْ أَعْظَمِ وَاجِبَاتِ الدِّينِ بَلْ لَا قيام للدين ولا للدنيا إلَّا بِهَا. فَإِنَّ بَنِي آدَمَ لَا تَتِمُّ مَصْلَحَتُهُمْ إلَّا بِالِاجْتِمَاعِ لِحَاجَةِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَلَا بُدَّ لَهُمْ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ مِنْ رَأْسٍ حَتَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ.
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةٍ يَكُونُونَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ إلَّا أَمَّرُوا عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ» . فَأَوْجَبَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْمِيرَ الْوَاحِدِ فِي الِاجْتِمَاعِ القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك عَلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ الِاجْتِمَاعِ. وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِقُوَّةٍ وَإِمَارَةٍ. وَكَذَلِكَ سَائِرُ مَا أَوْجَبَهُ مِنْ الْجِهَادِ وَالْعَدْلِ وَإِقَامَةِ الْحَجِّ وَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ. وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقُوَّةِ وَالْإِمَارَةِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ: «أَنَّ السُّلْطَانَ ظِلُّ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ» وَيُقَالُ " سِتُّونَ سَنَةً مِنْ إمَامٍ جَائِرٍ أَصْلَحُ مِنْ لَيْلَةٍ واحدة بِلَا سُلْطَانٍ ". وَالتَّجْرِبَةُ تُبَيِّنُ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ - كَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا- يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ لَنَا دَعْوَةٌ مُجَابَةٌ لَدَعَوْنَا بِهَا لِلسُّلْطَانِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ أَمْرَكُمْ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَقَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة
(1/129)
الأمور، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط مِنْ وَرَائِهِمْ» . رَوَاهُ أَهْلُ السُّنَنِ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ، الدِّينُ النَّصِيحَةُ. قَالُوا: لِمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» .
فَالْوَاجِبُ اتِّخَاذُ الْإِمَارَةِ دِينًا وَقُرْبَةً يُتَقَرَّبُ بِهَا إلَى اللَّهِ؛ فَإِنَّ التَّقَرُّبَ إلَيْهِ فِيهَا بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرُبَاتِ. وَإِنَّمَا يَفْسُدُ فِيهَا حَالُ أَكْثَرِ النَّاسِ لِابْتِغَاءِ الرِّيَاسَةِ أَوْ الْمَالِ بِهَا. وَقَدْ رَوَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قال: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى المال والشرف لِدِينِهِ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. فَأَخْبَرَ أَنَّ حِرْصَ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالرِّيَاسَةِ يُفْسِدُ دينه، مثل أو أكثر من إفساد الذِّئْبَيْنِ الْجَائِعِينَ لِزَرِيبَةِ الْغَنَمِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى عن الذي يؤتى كتابه بشماله أن يَقُولُ: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ - هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 28 - 29] (سورة الحاقة الآيتان 28، 29) .
وَغَايَةُ مُرِيدِ الرِّيَاسَةِ أَنْ يَكُونَ كَفِرْعَوْنَ، وَجَامِعِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ كَقَارُونَ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ حَالَ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر: 21] (سورة غافر: الآية 21) .
وَقَالَ تَعَالَى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] (سورة القصص: الآية 83) . فَإِنَّ النَّاسَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: يُرِيدُونَ العلو على الناس، والفساد في الأرض وهو مَعْصِيَةُ اللَّهِ، وَهَؤُلَاءِ الْمُلُوكُ وَالرُّؤَسَاءُ الْمُفْسِدُونَ، كَفِرْعَوْنَ وحزبه. وهؤلاء هم شرار
(1/130)
الْخَلْقِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 4] (سورة القصص: الآية 4) . وَرَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، ولا يدخل النار من في قلبه مثقال ذَرَّةٌ مِنْ إيمَانٍ ". فَقَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ الله: إنِّي أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبِي حَسَنًا، وَنَعْلِي حَسَنًا، أَفَمِنْ الْكِبْرِ ذَاكَ؟ قَالَ: " لَا: إنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» فَبَطَرُ الْحَقِّ دَفْعُهُ وَجَحْدُهُ. وَغَمْطُ النَّاسِ احْتِقَارُهُمْ وَازْدِرَاؤُهُمْ، وَهَذَا حَالُ مَنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَالْفَسَادَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْفَسَادَ، بلا علو، كالسراق والمجرمين من سفلة الناس.
والقسم الثالث: يريدون الْعُلُوَّ بِلَا فَسَادٍ، كَاَلَّذِينَ عِنْدَهُمْ دِينٌ يُرِيدُونَ أَنْ يَعْلُوَا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ النَّاسِ.
وأما الْقِسْمُ الرَّابِعُ: فَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، الَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا، مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ يَكُونُونَ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] (سورة آل عمران: الآية 139) . وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] (سورة محمد: الآية 35) . وقال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] (سورة المنافقون: من الآية 8) .
فَكَمْ مِمَّنْ يُرِيدُ الْعُلُوَّ، وَلَا يَزِيدُهُ ذَلِكَ إلَّا سُفُولًا، وَكَمْ مِمَّنْ جُعِلَ مِنْ الْأَعْلَيْنَ وَهُوَ لَا يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَلَا الْفَسَادَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ إرَادَةَ الْعُلُوِّ عَلَى الْخَلْقِ ظُلْمٌ؛ لِأَنَّ
(1/131)
النَّاسَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. فَإِرَادَةُ الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْأَعْلَى وَنَظِيرُهُ تَحْتَهُ ظُلْمٌ. وَمَعَ أَنَّهُ ظْلم فَالنَّاسُ يُبْغِضُونَ مَنْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَيُعَادُونَهُ؛ لِأَنَّ الْعَادِلَ مِنْهُمْ لَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ مَقْهُورًا لِنَظِيرِهِ، وَغَيْرُ الْعَادِلِ مِنْهُمْ يُؤْثِرُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْقَاهِرَ. ثُمَّ إنَّهُ مَعَ هذا لا بد لهم -فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ- مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ، كَمَا أَنَّ الْجَسَدَ لَا يَصْلُحُ إلَّا بِرَأْسٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام: 165] (سورة الأنعام: من الآية 165) . وَقَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] (سورة الزخرف: من الآية 32) . فَجَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِصَرْفِ السُّلْطَانِ وَالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالسُّلْطَانِ وَالْمَالِ هُوَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ وَإِنْفَاقَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِهِ، كَانَ ذَلِكَ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا. وَإِنْ انْفَرَدَ السُّلْطَانُ عَنْ الدِّينِ، أَوْ الدِّينُ عَنْ السُّلْطَانِ فَسَدَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ، وَإِنَّمَا يَمْتَازُ أَهْلُ طَاعَةِ اللَّهِ عَنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إلَى أَمْوَالِكُمْ وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قلوبكم وأعمالكم» .
وَلَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ إرادة المال والشرف، وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الْإِيمَانِ وَكَمَالِ الدِّينِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ الدِّينَ وَأَعْرَض عَمَّا لَا يَتِمُّ الدِّينُ إلَّا بِهِ مِنْ ذَلِكَ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حَاجَتَهُ إلَى ذَلِكَ، فَأَخَذَهُ مُعْرِضًا عَنْ الدِّينِ: لِاعْتِقَادِهِ أَنَّهُ مُنَافٍ لِذَلِكَ، وَصَارَ الدِّينُ عِنْدَهُ فِي مَحَلِّ الرَّحْمَةِ وَالذُّلِّ. لَا فِي مَحَلِّ الْعُلُوِّ وَالْعِزِّ. وَكَذَلِكَ لَمَّا غَلَبَ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ أهل الدينين (السابقين) العجز عن
(1/132)
تَكْمِيلِ الدِّينِ، وَالْجَزَعُ لِمَا قَدْ يُصِيبُهُمْ فِي إقَامَتِهِ مِنْ الْبَلَاءِ: اسْتَضْعَفَ طَرِيقَتَهُمْ وَاسْتَذَلَّهَا مَنْ رَأَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُ وَمَصْلَحَةُ غَيْرِهِ بِهَا.
وَهَاتَانِ السَّبِيلَانِ الْفَاسِدَتَانِ -سَبِيلُ مَنْ انْتَسَبَ إلَى الدِّينِ وَلَمْ يُكْمِلْهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ السُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ وَالْمَالِ، وَسَبِيلِ مِنْ أَقْبَلَ عَلَى السُّلْطَانِ وَالْمَالِ وَالْحَرْبِ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ إقَامَةَ الدِّينِ- هُمَا سَبِيلُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَالضَّالِّينَ. الأولى للضالين النصارى، الثانية لِلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ. وَإِنَّمَا الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ، هِيَ سَبِيلُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبِيلُ خُلَفَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سلك سبيلهم. وهم الذين قال الله فيهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100] (سورة التوبة من الآية 100) .
فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي ذَلِكَ بِحَسَبِ وُسْعِهِ؛ فَمَنْ وَلِيَ وِلَايَةً يَقْصِدُ بِهَا طَاعَةَ اللَّهِ، وَإِقَامَةَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ دِينِهِ، وَمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَقَامَ فِيهَا مَا يُمْكِنُهُ مِنْ الواجبات واجتنب ما يمكنه من الْمُحَرَّمَاتِ: لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا يَعْجِزُ عَنْهُ: فَإِنَّ تَوْلِيَةَ الْأَبْرَارِ خَيْرٌ لِلْأَمَةِ مِنْ تَوْلِيَةِ الْفُجَّارِ. وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إقَامَةِ الدِّينِ بِالسُّلْطَانِ وَالْجِهَادِ، فَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، مِنْ النَّصِيحَةِ بِقَلْبِهِ، وَالدُّعَاءِ لِلْأُمَّةِ، وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ، وَفَعَلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ: لَمْ يُكَلَّفْ مَا يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي، والحديد النَّاصِرُ، كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَعَلَى كُلِّ أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، وَلِطَلَبِ مَا عِنْدَهُ، مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ فِي ذَلِكَ؛ ثُمَّ الدُّنْيَا تَخْدُمُ الدِّينَ، كَمَا قَالَ مُعَاذُ بن جبل
(1/133)
-رضي الله عنه-: يا ابن آدَمَ أَنْتَ مُحْتَاجٌ إلَى نَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَنْتَ إلَى نَصِيبِكَ مِنْ الْآخِرَةِ أَحْوَجُ، فَإِنْ بَدَأْتَ بِنَصِيبِكَ مِنْ الْآخِرَةِ مُرَّ بِنَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا، فَانْتَظِمْهَا انْتِظَامًا، وَإِنْ بَدَأْت بِنَصِيبِكَ مِنْ الدُّنْيَا فَاتَكَ نَصِيبُكَ مِنْ الْآخِرَةِ، وَأَنْتَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى خَطَرٍ. وَدَلِيلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَصْبَحَ وَالْآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جمع الله لَهُ شَمْلَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ؛ وَمَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إلَّا مَا كُتِبَ لَهُ» . وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ - إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 56 - 58] (سورة الذاريات: الآيات 56-58) .
فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وَسَائِرَ إخْوَانِنَا، وجميع المسلمين لما يحبه لنا وَيَرْضَاهُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ، فَإِنَّهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا دائماً إلى يوم الدين.
(1/134)
السياسة الشرعية تعريف وتأصيل
محمد بن شاكر الشريف
حاجاتنا إلى السياسة الشرعية
السياسة الشرعية باب من أبواب العلم والفقه في الدين، وفي قيادة الأمة وتحقيق مصالحها الدينية الدنيوية، جليل القدر عظيم النفع، أفرده جماعة من العلماء بالتصنيف في القديم والحديث، وانتشرت كثير من مباحثه أو مسائلة في بطون كتب التفسير والفقه والتاريخ وشروح الحديث، وهذا الباب خطره عظيم ينتج عن الغلط فيه وعدم الفهم له شر مستطير، والخطأ في التفريط فيه كالخطأ في الإفراط؛ إذ كلاهما يقود إلى نتائج مرذولة غير مقبولة، وقد وضح ذلك شيخ الإسلام ابن القيم فقال: 'وهذا موضع مزلة أقدام، ومضلة أفهام، وهو مقام ضنك، ومعترك صعب، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجرءوا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقًا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها .. وأفرطت فيه طائفة أخرى قابلت هذه الطائفة، فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله، وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه'
وإدراكًا منَّا لأهمية هذا الباب وموقعه من الدين وحاجة الناس إليه، فقد رأينا أن نجعل له زاوية دورية في المجلة؛ سائلين الله تعالى أن يتحقق المقصود منها، وأن تقوم بالدور المراد منها على الوجه الذي يحب ربنا ويرضى، الله من وراء القصد.
ـ السياسة في اللغة:
لفظ 'السياسة' في لغة العرب محمل بكثير من الدلالات والإرشادات والمضامين، فهي إصلاح واستصلاح، بوسائل متعددة من الإرشاد والتوجيه والتأديب والتهذيب والأمر والنهي، تنطلق من خلال قدرة تعتمد على الولاية أو الرئاسة. وما جاء في معاجم اللغة يدل على ما تقدم، فقد جاء في تاج العروس في مادة سوس: 'سست الرعية سياسة' أمرتها ونهيتها، والسياسة القيام على الشيء بما يصلحه'، وفي لسان العرب في المادة نفسها: 'السوس: الرياسة، وإذا رأسوه قيل سوسوه، وأساسوه، وسوس أمر بني فلان: أي كلف سياستهم، وسُوِّس الرجل على ما لم يسم فاعله: إذ ملك أمرهم، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه.
والسياسة: فعل السائس يقال: هو يسوس الدواب إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعتيه'.
والإصلاح في 'السياسة' ليس مجرد هدف أو غاية تسعى السياسة في حركتها لتحقيقه، بل هو السياسة نفسها وحقيقتها، إذا فقدته فقد فقدت نفسها.
ـ السياسة في النص الشرعي:
لم يرد لفظ 'السياسة' ولا شيء من مادته في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإن جاء الحديث فيه عن الصلاح والإصلاح والأمر والنهي والحكم وغير ذلك من المعاني التي اشتمل عليها لفظ 'السياسة'. وأما السنة فقد جاء قوله صلى الله عليه وسلم: 'كادت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي ...'، وقوله صلى الله عليه وسلم: 'تسوسهم الأنبياء'؛ أي: تتولى أمورهم كما يفعل الأمراء والولاة بالرعية'.
ويتبين بما تقدم أن السياسة في الشريعة استخدمت بمعناها اللغوي. وهي تعني:
القيام على شأن الرعية من قِبَل ولاتهم بما يصلحهم من الأمر والنهي والإرشاد والتهذيب، وما يحتاج إليه ذلك من وضع تنظيمات أو ترتيبات إدارية تؤدي إلى تحقيق مصالح الرعية بجلب المنافع أو الأمور الملائمة، ودفع المضار والشرور أو الأمور المنافية.
وهذا التعريف يبرز الجانب العملي للسياسة، فالسياسة هنا إجراءات وأعمال وتصرفات للإصلاح، وعلى ذلك فإن سياسة الرعية تتطلب القدرة على القيادة الحكيمة التي تتمكن من تحقيق الصلاح عن طريق إتقان التدبير وحسن التأتي لما يراد فعله أو تركه، وهذا بدوره يحتاج إلى معرفة تامة بما تتطلبه القيادة والرئاسة من خبرة وحنكة، وقدرة على استعمال واستغلال الإمكانات المتاحة على الوجه الأمثل الذي يتحقق المراد المطلوب.
وقد جاء من كلام أهل العلم عن السياسة ما يدل لذلك، فمن ذلك: قال ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ في بيان السبب الذي من أجله جعل عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر الخلافة في الستة الذين اختارهم: 'لم يكن في أهل الإسلام أحد له من المنزلة في الدين والهجرة والسابقة والعقل والعلم، والمعرفة بالسياسة؛ ما للستة الذين جعل عمر الأمر شورى بينهم'.
وقال ابن حجر ـ رحمه الله ـ: 'والذي يظهر من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد أنه كان لا يراعي الأفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها'، ومما ورد في ذلك أيضًا ما جاء في شرح قول النبي صلى الله عليه وسلم: 'يا عائشة، لولا قومك حديث عهدهم بكفر لنقضت الكعبة، فجعلت لها بابين؛ باب يدخل الناس، وباب يخرجون'، والذي ترجم له البخاري في صحيحه بقوله: باب من ترك بعض الاختيار مخالفة أن يقصر فهم بعض الناس عنه فيقعوا في أشد منه'، قال ابن حجر: 'ويستفاد منه أن الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم، ولو كان مفضولاً، ما لم يكن محرمًا'.
والسياسة فيما تقدم مجالها رحب فسيح، فهي ليست مقصورة على شيء أو محجوزة عن شيء؛ إذ هي 'القيام على الشيء ـ بما يحمله لفظ الشيء من العموم والشمول، ـ بما يصلحه'، فيعمل بنا كل صاحب ولاية في تدبير أمر ولايته.
ومن أمثلة السياسة في عصر الراشدين ـ رضي الله عنهم ـ ما قام به أبو بكر رضي الله عنه من استخلافه لعمر رضي الله عنه، وما قام به عمر من جعل أمر الخلافة شورى في ستة من أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رعاية لمصلحة الأمة وتجنيبها مضرة الاختلاف، ومن ذلك جمع عثمان رضي الله عنه المسلمين على مصحف واحد، وإحراق ما سواه من المصاحف؛ لأن ذلك يحقق المصلحة من الائتلاف والاتفاق، ويدفع مضرة التفرق والاختلاف، وكذلك ما أمر به عثمان من إمساك ضوال الإبل لما ضعفت الأمانة، وصار تركها مضيعًا لها على أصحابها، ومن ذلك نفي عمر بن الخطاب لنصر بن حجاج لما افتتنت بعض النساء بجماله ـ من غير ذنب أتاه ـ لما كان في ذلك تحقيق مصلحة العفة والطهارة، ودفع مضرة تعلق القلوب به، ومن أمثلة ما تلاهم من عصور تسعير السلع التي يضطر إليها الناس إذا تمالأ التجار على رفع سعرها بغير مسوغ يدعو لذلك، فكان في التسعير دفع مضرة الظلم عن الرعية من غير ظلم للتجار، والأمثلة في هذا كثيرة، والجامع بينها تحقيق المصلحة ودفع المضرة من غير مخالفة للشريعة.
ـ السياسة عند الفقهاء:
هناك اتجاهان عند الفقهاء في نظرتهم للسياسة:
الاتجاه الأول:
ويمثله قول أبي الوفاء بن عقيل الحنبلي: 'السياسة ما كان من الأفعال؛ بحيث يكون الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي'، وقد قيده بقوله: 'ما لم يخالف ما نطق به الوحي' وعلى هذا النحو يحمل كلام ابن نجيم الحنفي، حيث يقول في باب حد الزنا: 'وظاهر كلامهم هاهنا أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'، وكلام ابن نجيم يحتمل أن يصيب في الاتجاه الثاني كما يأتي، وكلام ابن عقيل أدق منه وأسد؛ لأنه قيد تحقيق المصالح ودرء المفاسد بعدم مخالفة الشريعة، وقد يكون هذا أيضًا مراد ابن نجيم، لكن عبارته قصرت عن ذلك، وهذا الاتجاه موافق لما تقدم ذكره من أمثلة السياسة.
والاتجاه الثاني:
وهو اتجاه يضيق مجال السياسة ويحصرها في باب الجنايات أو العقوبات المغلظة، وقد تجعل أحيانًا مرادفة التعزير، وهذا الاتجاه غالب على الفقه الحنفي في نظرته للسياسة، قال علاء الدين الطرابلسي الحنفي: 'السياسة شرع مغلظ'.
وقد 'نقل العلامة ابن عابدين ـ الحنفي ـ عن كتب المذهب: أن السياسة تجوز في كل جناية والرأي فيها إلى الإمام، كقتل مبتدع يتوهم منه انتشار بدعته وإن لم يحكم بكفره .. ولذا عرفها بعضهم بأنها تغليط جناية لها حكم شرعي حسمًا لمادة الفساد، وقوله: لها حكم شرعي معناه أنها داخلة تحت وقاعد الشرع وإن لم ينص عليها بخصوصه .. ولذا قال في البحر: ظاهر كلامهم أن السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي'.
وقال بعض علماء الحنفية: 'والظاهر أن السياسة والتعزيز مترادفان، ولذا عطفوا أحدهما على الآخر لبيان التفسير كما وقع في الهداية والزيلعي وغيرهما'.
وتضييق هذا الاتجاه لمعنى السياسة وحصرها فيما حصرها فيه ليس بسديد؛ 'إذ السياسة قد تكون بغير التغليظ، وبغير العقوبة، وقد تكون بتخفيف العقوبة أو تأجيلها أو إسقاطها إذا وجدت موجبات التخفيف أو الإسقاط، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين مع علمه بأعيانهم لما يترتب على ذلك من المفسدة، وقال: 'لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه'، وترك تأديب أو تعنيف الأعرابي الذي بال في المسجد تقديرًا لظروف بداوته وجهله، ونهى عن قطع الأيدي أو إقامة الحد في الغزو تأخيرًا للحد لمصلحة راجحة؛ إما لحاجة المسلمين إليه، أو خوف اللحاق بالمشركين'.
وأيضًا فإن عهد أبي بكر لعمر بالخلافة، وكذلك جعلها عمر شورى في ستة من الصحابة، وعمل عمر الديوان، وجمع عثمان للمصحف الإمام وتحريق ما عداه ليس من العقوبة في شيء.
ـ السياسة الشرعية:
تنقسم السياسة بحسب مصدرها على قسمين كبيرين: سياسة دينية، وسياسة عقلية، وقد بين ذلك ابن خًُلدون عندما تحدث عن وجوب وجود قوانين سياسية مفروضة في الدولة يسلم بها الكافة، فقال: 'فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها كانت سياسة عقلية، وإن كانت مفروضة من الله بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسة دينية'.
وانطلاقًا من تقسيم ابن خُلدون للسياسة؛ فإنه بين أنواع النظم السياسية القائمة عليه، فيقول: 'الملك السياسي: هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها'.
وابن خلدون رحمه الله في حديثه عن القوانين السياسية يبرز الجانب الكلي أو المعياري لها بوصفها تشريعات ضابطة أو حاكمة، وحديثه في هذا المجال يقترب من الحديث عن 'الأحكام السلطانية'.
ومن هنا ومما تقدم يتبين أن للسياسة جانبين: أحدهما معياري كلي 'تأصيلي'، والآخر عملي تطبيقي، والسياسة الشرعية ما كانت مراعية للشرع في الجانبي، تلتزم به وتتقيد، ولا تخرج عنه.
والذي يظهر لي أن عبارة 'السياسة الشرعية' لم تكن مقيدة أولاً بقيد 'الشرعية'؛ انطلاقًا من أن السياسة هي الإصلاح، ولا إصلاح حقيقيًا إلا بالشرع، فكان إطلاق لفظ 'السياسة' بدون قيد كافيًا في إفادة المطلوب من عبارة 'السياسة الشرعية'، ثم مع ضعف العلم وعدم الفقه الجيد لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم عند الولاة وعند من تقلد لهم القضاء؛ صارت 'السياسة' تخالف الشرع، فاحتيج إلى تقييد السياسة بالشرعية لإخراج تلك السياسة الظالمة من حد القبول، وتسمى السياسة الشرعية أحيانًا بالسياسة العادلة. وقد تحدث شيخ الإسلام عن هذا التغيير الحاصل في السياسة وبَيَّن سببه، فقال: 'لما صارت الخلافة في ولد العباس، واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيًا في السياسة العادلة؛ احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة ... والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة، فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق، وعطلوا الحدود، حتى تسفك الدماء، وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات، والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة'.
ويقول ابن القيم رحمه الله: 'ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها، وتضمنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها، وحسن فهمه فيها؛ لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة، فإن السياسة نوعان: سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها، وسياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر، فهي من الشرعية، علمها من علمها وجهلها من جهلها'، إلى أن يقول: 'فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعًا لمصطلحهم، وإنما هي عدل الله ورسوله'.
ـ الفقه في السياسة الشرعية:
تواجه السياسة الشرعية نوعين من المسائل:
أحدهما: جاءت فيه نصوص شرعية.
والثاني: لم تأت فيه نصوص بخصوصه.
والفقه في النوع الأول يكون عن طريق:
1ـ فهم النصوص الشرعية فهمًا جيدًا، ومعرفة ما دلت عليه، والتنبه للشروط الواجب توافرها في تطبيق الحكم والموانع التي تمنع من تنفيذه، ثم يلي ذلك تطبيق الحكم وتنفيذه.
2ـ التمييز بين النصوص التي جاءت تشريعًا عامًا يشمل الزمان كله، والمكان كله ـ وهذا هو الأصل في مجيء النصوص ـ، وبين النصوص التي جاءت الأحكام فيها معللة بعلة، أو مقيدة بصفة، أو التي راعت عرفًا موجودًا زمن التشريع، أو نحو ذلك.
والأول يسميه ابن القيم: 'الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة'، بينما يسمي الثاني: 'السياسات الجزئية التابعة للمصالح فتتقيد بها زمانًا ومكانًا'.
ومن مسائل هذه السياسات 'النوع الثاني' منع عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهم المؤلفة قلوبهم عن قوم كان يعطيهم إياه، وذلك لزوال تلك الصفة عنهم، فإنما كانوا يعطون لاتصافهم بهذه الصفة لا لأعيانهم، فلما زالت الصفة منع السهم عنهم، وليس في هذا تغيير للحكم وإنما هو إعمال له، وهو من باب السياسة الشرعية، وكذلك أمر عثمان رضي الله عنه بإمساك ضوال الإبل مع أن المنع من إمساكها مستفاد من سؤال أحد الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن إمساك الإبل فقال: 'ما لك ولها، معها حذاؤها وسقاؤها ـ ترد الماء وتأكل من الشجر ـ حتى يلقاها ربها'، ومع النظرة الثاقبة في الحديث يتبين دقة فهم عثمان رضي الله عنه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد ظهر من كلامه أنه يفتي عن حالة آمنة تأكل فيها الإبل من الشجر وتشرب من الماء، من غير أن يلحقها ضرر حتى يجدها صاحبها، فأما إذا تغير حال الناس ووجد منهم من يأخذ الضالة، صار هذا الحال غير متحقق، فإنها إذا تركت في هذه الحالة لن يجدها صاحبها، ومن هنا أمر بإمساكها وكذلك نقول: لو أن حالة الناس من حيث الأمانة لم تتغير، وإنما كان الناس يعيشون بجوار أرض مسبعة، وكان في تركها هلاك لها حتى يأكلها السبع؛ لكان الأمر بإمساكها هو المتعين حفظًا لأموال المسلمين، وهذا من السياسة الشرعية، والأمثلة في ذلك كثيرة.
والنوع الثاني من المسائل: وهو ما لم تأت فيه نصوص بخصوصه، فإن الفقه فيه يكون عن طريق الاجتهاد الذي تكون غايته تحقيق المصالح ودرء المفاسد، والاجتهاد هنا ليس لمجرد تحصيل ما يتوهم أنه مصلحة أو درء ما يتوهم أنه مفسدة، بل هو اجتهاد منضبط بضوابط الاجتهاد الصحيح، وذلك من خلال:
1ـ أن يجري ذلك الاجتهاد في تحقيق المصالح ودرء المفاسد في ضوء مقاصد الشريعة تحقيقًا لها وإبقاء عليها، والاجتهاد الذي يعود على المقاصد الشرعية أو بعضها بالإبطال هو اجتهاد فاسد مردود، وإن ظهر أنه يحقق مصلحة، أو يدرأ مفسدة.
2ـ عدم مخالفته لدليل من أدلة الشرع التفصيلية، إذ لا مصلحة حقيقية ـ وإن ظهرت ببادي الرأي ـ في مخالفة الأدلة الشرعية.
والنوعان الأول والثاني من المسائل قد تحتاج كل منهما ـ وخاصة في هذا العصر ـ لضمان حسن تطبيقه وتنفيذه إلى إنشاء هيئات أو مؤسسات تكون مسؤولة عن التطبيق والتنفيذ، وإنشاء هذه الهيئات أو المؤسسات في ظل موافقة مقاصد الشريعة وعدم مخالفتها لنصوصها التفصيلية؛ هو من السياسة الشرعية.
والاجتهاد في مسائل السياسة الشرعية قد يؤدي إلى 'استنباط أحكام اجتهادية جديدة تبعًا لتغيير الأزمان مراعاة لمصالح الناس والعباد، أو نفي أحكام اجتهادية سابقة إذا ما أصبحت غير محصلة لمصلحة أو مؤدية لضرر أو فساد، أو غير مسايرة لتطور الأزمان والأحوال والأعراف، أو كانت الأحكام الاجتهادية الجديدة أكثر تحقيقًا للمصالح ودفعًا للمفاسد.
ـ السياسة الشرعية والنظم السياسية:
مما تقدم يتبين أن موضوعات السياسة الشرعية كثيرة، وأن أحد موضوعاتها هو التشريعات السياسية التي تسير بمقتضاها الدولة أو بالتعبير القديم 'الأحكام السلطانية'، أو بالتعبير المعاصر 'النظام السياسي'، فإن البحث في النظام السياسي الإسلامي وتطبيقه في الواقع والاجتهاد في تكوين مؤسساته، ووضع النظم واللوائح المنظمة لذلك؛ هو مما يدخل في السياسة الشرعية، ولمكانة هذا الموضوع من السياسة الشرعية؛ فإن بعض أهل العلم المعاصرين قد عرف السياسة الشرعية به فقال: 'فالسياسة الشرعية هي تدبير الشؤون العامة للدولة الإسلامية بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار؛ مما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية، والمراد بالشؤون العامة للدولة كل ما تتطلبه حياتها من نظم، سواء أكانت 'دستورية' أم مالية أم 'تشريعية' أم قضائية أم تنفيذية، وسواء أكانت من شؤونها الداخلية أم علاقاتها الخارجية، فتدبير هذه الشؤون، ووضع قواعدها بما يتفق وأصول الشرع هو السياسة الشرعية'، وعلم السياسة الشرعية على ذلك هو 'علم يبحث فيه عما تدبر به شؤون الدولة الإسلامية من القوانين والنظم التي تتفق وأصول الإسلام، وإن لم يقم على كل تدبير دليل خاص'. ولا شك أن هذا من السياسة الشرعية لكنه جزء من أجزائها كما تقدم، ويدخل في ذلك الرد على الشبه التي تثار حول السياسة الشرعية، وعليه فإن التعرض للنظم المناقضة للنظم الإسلامية وبيان فسادها وبطلانها يدخل في علم السياسة الشرعية.
ـ متطلبات النظر في السياسة الشرعية:
نظرًا لطبيعة السياسة الشرعية على الوجه المتقدم بيانه، فإنه يلزم الناظر فيها والمتفقه أمور منها:
ـ المعرفة التامة بأن الشريعة تضمن غاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها كاملة في هذا الباب صورة ومعنى؛ بحيث لا تحتاج إلى غيرها؛ فإن الله تعالى قد أكمل الدين وقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، ومنها الاطلاع الواسع على نصوص الشريعة مع الفهم لها ولما دلت عليه من السياسة الإلهية أو النبوية، ومنها المعرفة الواسعة الدقيقة بمقاصد الشريعة، وأن مبناها على تحصيل المصالح الأخروية والدنيوية ودرء المفاسد، ومنها التفرقة بين الشرائع الكلية التي لا تتغير بتغير الأزمنة، والسياسات الجزئية التابعة للمصالح التي تتقيد بها زمانًا ومكانًا، ومنها المعرفة بالواقع والخبرة فيه، وفهم دقائقه، والقدرة على الربط بين الواقع وبين الأدلة الشرعية، ومنها دراسة السياسة الشرعية للخلفاء الراشدين والفقه فيها،ومنها معرفة أن الاجتهاد في باب السياسة الشرعية ليس بمجرد ما يتصور أنه مصلحة وإنما يلزم التقيد في ذلك بالمصالح المعتبرة شرعًا، ومنها رحمة الناظرين في هذا الباب بعضهم بعضًا عند الاختلاف في مواطن الاجتهاد
النظام السياسي في الإسلام
تعتبر تجربة الخليفة عمر بن عبدالعزيز أول نموذج للإصلاح السياسي بعد عقود من التشويه الذي طال النظام السياسي في الإسلام والمتأمل في تلك المرحلة يرى أن عمر بن عبدالعزيز قد نجح سياسيا بعد توفيق الله له بسبب فهمه الصحيح للنظام السياسي للإسلام وفهمه للواقع الذي يعايشه وبالتالي فهمه للواجب في الأول والممكن في الثاني ولذا كان أول قرار اتخذه هو عزل نفسه من الملك وإرجاع الأمر للشعب الذي بايعه بعد ذلك عن قناعة فهذه الخطوة أعادت الروح للنظام الأصلي ( الشورى ) الذي تم الالتفاف عليه بالوراثة وهذا ينم عن علم بالسنة وتجرد لله ثم اتجه بعد ذلك للتدرج في الإصلاح بنفس طويل مراعاة للناس ونفوذ أمراء بني أمية ولا أجد أفضل من هذا الحوار بينه وبين ابنه عبد الملك لشرح سياسته تلك ( قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَلا تُمْضِي كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ ، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا أُبَالِي أَنْ تَغْلِيَ بِي وَبِكَ الْقُدُورُ ، فَقَالَ لَهُ : ” يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرُوضُ النَّاسَ رِيَاضَةَ الصَّعْبِ ، أُخْرِجُ الْبَابَ مِنَ السُّنَّةِ فأَضَعُ الْبَابَ مِنَ الطَّمَعِ ، فَإِنْ نَفَروَا لِلسُّنَّةِ سَكَنُوا لِلطَّمَعِ ، وَلوْ عُمِّرْتُ خَمْسِينَ سَنَةً لَظَنَنْتُ أَنِّي لا أَبْلُغُ فِيهِمْ كُلَّ الَّذِي أُرِيدُ ، فَإِنْ أَعِشْ أَبْلُغْ حَاجَتِي وَإِنْ مِتُّ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِي ” ) والملاحظ هنا أن عمر بن عبد العزيز لم يقبل بالوضع المتوارث بشأن نظام الحكم مع أن كثير من أهل العلم قد أجازه بل أصر على إعادة الأمر شورى كما كان في الخلافة الراشدة ولم يغتر بوجودة على رأس السلطة للإندفاع في تطبيق الشريعة بل تدرج بخطوات مدروسة تتماشى مع واقعه وهذا ما جعل نموذج عمر بن عبد العزيز علامة بارزة في التاريخ الإسلامي بالرغم من أن حكمه استمر سنتين ونصف فقط ومع أن الفساد السياسي والإداري قد عاد للدولة بعد وفاته إلا أن تجربته أعطت الأمة ( كتيب إرشادات ) في طريقة الإصلاح السياسي في كل مرحلة تندرس فيها معالم النظام السياسي في الإسلام ويتخبط في فهم واقعه .
الحقيقة أن باب السياسة الشرعية من الأبواب التي لم يعهدها التيار الجهادي وهذا سبب جموده أمام مسائل العصر وهو نفس الموقف الذي مرت به التيارات الأخرى في بداية المد الجهادي إبان الجهاد الأفغاني ضد السوفيت ففتاوى المجدد عبدالله عزام رحمه الله التي أحيت ثقافة الجهاد في الأمة كانت محل استغراب لدى كثير من قيادات العمل الإسلامي آنذاك بل إن الشيخ كان ينقل لبعض العلماء أقوال أئمة مذهبه في فرضية الجهاد والعالم يجهل أن هذا القول هو قول مذهبه ! ونفس الاستغراب يتكرر مع بعض الجماعات الجهادية التي تسعى لأن تكون جزء من مشروع سياسي إسلامي دون وجود ثقافة وإدراك للسياسة الشرعية اللازمة لذلك فلا يكفي فقط التأمل في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنتلمس أساليبة السياسية بل يجب جمع ذلك مع نصوص الكتاب والسنة لتتكون لدينا رؤية واضحة لحقيقة وركائز وروح هذا النظام السياسي وما الواجب والمحظور والمقبول فيه وقد وجدت في كتاب الله والكتب الستة أكثر من ٥٠٠ باب وفصل في السياسة وهذا يدحض دعاوى المستشرقين والمتغربين بافتقار الإسلام لنصوص تنظم الحياة السياسية ولست هنا بصدد عرض تلك المواد لأني سأنشرها إن يسر الله لاحقا في كتاب أسميته ( ديوان الوالي ) وإنما القصد من هذا المقال هو الذهاب مباشرة إلى لُب النظام السياسي في الإسلام للتعرف على مفاتيح العمل التي يمكن أن تكون أرضية لمشروع سياسي يؤثر ويتفاعل مع الواقع المعاصر .
تميز العهد النبوي السياسي في المدينة بترسيخ نظام الشورى لأن بساطة أوضاع الجزيرة آنذاك لم تتطلب من النبي صلى الله عليه وسلم سوى أن يستخلف أو يقر من يرضاه على المدن وأن يأخذ الزكاة ويقسم بين الناس الفيء وأن يرسل لرعاياه من يقضي بينهم ويعلمهم أمور دينهم فلما جاءت خلافة أبي بكر ظهرت أهمية طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار الذين ومن خلال اجتماعهم في سقيفة بني ساعدة جاء ترشيح خليفة رسول الله ثم دخلت الدولة في مرحلة استثنائية “انتقالية” بسبب حروب الردة ولذا لم تتطور آليات الحكم حتى جاء عهد عمر وجاء الاستقرار فبدأت آليات الحكم تتطور شيئا فشيئا فظهر الديوان وأقر عمر حق الرعية في خلع من لا يرضونه من الولاة وأقر حقوقهم المالية فجعل خراج سواد العراق وقفا للدولة بعد موافقة عامة أهل الشورى وقدم قائمة مرشحين في نهاية عهده ثم جاء عهد عثمان عبر عملية شورى شملت رجال ونساء المدينة في أول اختيار مباشر لرئيس الدولة الإسلامية واستمرت حركة تطوير آليات نظم الحكم في عهد الملك العضوض واندثار الشورى حتى دونت كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب الماوردي وغيره والتي جاء فيها مصطلحات وآليات ونظم حكم لم تكن موجودة من قبل بسبب تطور التجارب البشرية وأساليب سياسة الناس ومصالح الدولة ، ومن هنا يتضح أن المرحلة النبوية جاءت لترسيخ مبدأ الشورى كنظام سياسي ولذا لم نجد فيها الآليات التي ظهرت في مرحلة الخلفاء الراشدين فهي شبيهة بالمرحلة المكية التي ركزت على العقيدة فلما رسخت نزلت الشعائر في المرحلة المدنية، فالضابط في النظام السياسي في الإسلام هو أن الشورى أساسه أما الآليات فهي قابلة للتغيير والتطوير بما يخدم ويسهل عملية الشورى على الناس فنتيجة الشورى التي تتم باجتماع مجلس أهل الحل والعقد في غرفة واحدة هي نفس النتيجة باجتماعهم عبر دائرة اتصال ألكتروني حديثة ولو كانوا متباعدين لأن المعنى هو تبادل الرأي وتقليبه للوصول إلى قرار محدد في مسألة معينة وترشيح عمر بن الخطاب لقائمة مرشحين ثم قيام عبدالرحمن بن عوف بأخذ آراء أهل المدينة في اختيار الخليفة هي نفس النتيجة التي يقدمها ترشيح أهل الحل والعقد لقائمة مرشحين لينتخب الناس منهم رئيسا بالتصويت المباشر.
وللتوضيح أقول أن ما جرى في سقيفة بني ساعدة هو “ترشيح أولي” لأبي بكر من قبل أهل الحل والعقد إلا أنه لم يصبح خليفة إلا بعد مبايعة أهل المدينة في المسجد النبوي وكذا الحال في بيعة عمر التي أتت عبر”ترشيح أولي”من أبي بكر وهو رأس أهل الحل والعقد ثم أصبح خليفة بعد مبايعة العامة والخاصة بعد ذلك ونفس الأمر في ترشيح عمر للستة فعثمان كان مرشحا ضمن عدة أسماء مختارة من رأس أهل الحل والعقد عمر ثم بايعته الأمة بعد ذلك ولولا أن أبا بكر وعمر وعثمان بويعوا بيعة عامة بعد الترشيح الخاص لما صحت بيعتهم وهذا ما قرره شيخ الإسلام ابن تيميه .
وهذا النظام هو المتبع أيضا في كثير من الدول في العالم فأي مرشح للرئاسة في الغرب يجب أولا أن يعرض أوراقه على لجنة الانتخابات وهي لجنة من كبار قضاة الدولة تقرر قبول ترشيح الشخص أو رفضه بناء على شروط الترشيح – في إيران تسمى هيئة تشخيص مصلحة النظام والتي مكن المرشد الأعلى من إزاحة الإصلاحيين – والقصد أن هذه “القنطرة” تمكن من ضبط مسار الانتخابات بحيث لا تنتج عنها شخصيات تعارض مبادئ الدولة وهذا الأمر منضبط في نظامنا الإسلامي عبر أهل الحل والعقد الذين يقومون بترشيح أهل الأمانة الموثوق بهم حتى تقوم الأمة بانتخاب من تشاء دون أن تتعرض لعملية اختراق خارجي عبر دعم المرشحين الموالين للخارج كما يحدث في الأنظمة الديمقراطية فحقيقة اهتمام الغرب بنشر الديمقراطية في العالم تنبع من كونها النظام المثالي لاختراق أي بلد عبر دعم بعض الأحزاب وتوجيه الإعلام معهم لإنجاحهم في الانتخابات حتى ينفذوا سياسات الغرب صاحب الفضل في إيصالهم وحماية شرعيتهم بعد ذلك والمطلوب لإعادة هذا النظام الآن هو إعطاء مجلس الحل والعقد حق القيام بالخطوة الأولى وهي ترشيح قائمة أسماء لمنصب الرئاسة ممن يتفق على عدالتهم وكفائتهم ثم تنظم انتخابات مباشرة تمكن الشعب من اختيار حاكمه وهذه وكما أنها الطريقة الأقرب للشرع ففيها أيضا قطع لدعايات شبح الدكتاتورية الذي يرتبط دائما في أذهان الناس بحاكم لم يشاركوا في اختياره كما أن هذه الطريقة تسد الباب أمام الغرب في تحريك العملية الانتخابية لصالحه أو حتى الطعن فيها لأن الجميع يشاهد الناس وهم واقفين طوابير لممارسة حقهم الانتخابي .
والذي أريد قوله هنا هو أن الدور الذي يجب أن تقوم به الحركات الجهادية والقوى المماثلة لها بوصفهم أركان الثورة هو نفس الدور الذي قامت به طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين كانوا قاعدة المشروع الإسلامي فأولئك الرهط الذين كانوا نواة الحكم الإسلامي في المدينة وبعد فتح جزيرة العرب وفارس والروم ومصر وإفريقيا مهمتهم لم تكن الانخراط في الحكم بل المحافظة عليه بحيث لا ينحرف عن خطه الإسلامي ولذا كانوا هم من يشرف على ترشيح الخليفة وهم من تتم مشورتهم في الأمور التي تمس وجود الدولة كحروب الردة وفتح فارس والروم وهم القوة التي تستطيع تقويم الحاكم وعزله إن انحرف دون أن تدخل الدولة في اقتتال داخلي فالمشكلة التي كانت وما زالت تعاني منها الأمة هي طريقة التعامل مع انحرافات الحاكم بدءا من عدم كفائته مرورا بظلمه وانتهاء بكفره فهذه الدوامة هي التي أنتجت الفقة المشوه الذي تأثر بأحداث التاريخ المأساوية فأنتج لنا فكرا شبه جامد لا يقدم آلية واقعية للتعامل مع الحاكم وإنما يجعل الناس تتوه معه حيث تاه أو تجعل الناس مع الحكام كالميت بين يدي مغسله فهذا الفقه الذي ظهر بعد فتنة ابن الأشعث دفع كثير من الفقهاء لتغليب منع الخروج على الحكام الظلمة ثم تطور بمن بعدهم لمنع ما دون الخروج كالإنكار والنصح والمسائلة مع أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون وينصحون ويسائلون الخلفاء الراشدين في شؤون الحكم المتنوعة وحتى أقرب صورة المسألة أقول لو أن الشعب السوري مباشرة أو عبر ممثليه اختار رئيسا للبلاد ثم بعد سنين وبعد أن دانت له البلاد واستقرت له الأمور تغير فضيع البلد وكثر ظلمه أو كفر وخرج من الإسلام بموالاة إسرائيل مثلا فإن كانت الأولى فالناس لن تصبر حتى تثور مرة أخرى وإن كانت الثانية فأهل الدين لن يصبروا حتى يجاهدوه فنعود لنقطه الصفر خاصة إن استعان بالأنظمة الحليفة ضد معارضيه وشعبه كما هو السائد في المنطقة، أما في عهد الخلافة الراشدة فقد كانت هناك آلية مرنة وواقعية تتيح تقويم انحرافات الحاكم إن ظلم وعزله إن تعدى ظلمه أو كفر وذلك عبر وجود طبقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار كقوة مستقلة لها خصوصية وفضل ومرهوبة الجانب ومسموعة الكلمة لدى الحاكم والشعب على حد السواء فهذه الطبقة التي أتت بفعل الأحداث لا بفعل الحاكم كما في تعيينه للولاة لا يمكن له تجاوزهم او فرض رأيه عليهم فيما يخالف الخطوط الحمراء من الدين أو الصالح العام فهذه الطبقة كانت بحق صمام أمان للدولة ولم يتغير ذلك إلا بعد ذهاب عهد الخلافة وبداية عهد الملك العضوض الذي تفرد فيه الحاكم بالسلطة فأصبح الخروج عليه مهلكة من المهالك سواء كان سفاح ظالم أو زنديق كافر ! ولذا يجب أن يعود دور تلك الطبقة في ضبط مسار الدولة كي يأمن الناس غائلة انحراف الحكام ولكيلا يفتنوا بالأنظمة الغربية التي تتيح عزل الحكام ومحاسبتهم عند أدنى خطأ بينما هم يضطروا لخوض برك من الدماء لعزل حكامهم بجانب الدمار والأعراض المنتهكة وفي حالة الثورة السورية مثلا نجد أن الطبقة المشابهة لطبقة السابقين من المهاجرين والأنصار “عمليا” هم قادة الفصائل الإسلامية أصحاب المشروع الإسلامي الذي يرتكز على إقامة شرع الله بمفهومه الشامل فهؤلاء هم “القوة العقدية” التي يجب أن تحافظ على مسار الدولة لا أن تنخرط في مسؤولياتها الإدارية وهو نفس الدور الذي مارسه { السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار } الذين مدحهم الله في كتابه ومنع عمر بن الخطاب خروجهم من عاصمة الخلافة لأهمية دورهم، فدولة الخلافة لم تعتريها الفتن إلا بعد أن سمح عثمان بن عفان لكبار الصحابة بالخروج من المدينة والانسياح في بقية مناطق الدولة فهنا وجد أهل الفتن مناخ يتيح لهم زعزعة مركز الدولة بعد أن خلت العاصمة من قوة دينية متماسكة مستقلة مرهوبة الجانب تحسم أي نزاع بخصوص نزع شرعية الخليفة.
والحقيقة أن هذه الطبقة موجودة أيضا في كثير من البلدان المعاصرة فشعوب العالم وبعد مراحل من التجربة البشرية في أنظمة الحكم توصلوا لضرورة وجود “قوة عقدية” تحمي مبادئ الشعب التي ثار من أجلها على الملوك والطغاة وهذه القوة تسمى بعرف الثورات مجلس قيادة الثورة أو اللجان الثورية أو الحرس الثوري وما شابه فهذه القوة المستقلة عن أجهزة الدولة مهمتها مراقبة مسار الدولة ومدى ثباتها على مبادئ الثورة التي يعتبر الانحراف عنها سببا شرعيا لاعتقال وعزل ومحاكمة أعضاء السلطة وهو دور مقارب لما كان يفعله الجيش التركي في مراقبته لالتزام الرؤساء بعلمانية الدولة والتجارب البشرية تختلف أيضا في تطور هذه القوة بداخلها فبعضها نجح بعد عدة حروب وتجارب لتحويل هذه القوة العقدية لقوانين ثابتة يحترمها الشعب ويحرسها نظام الدولة بمؤسسات رقابية مستقلة ومنتخبة كما حدث لدى شعوب الغرب وبعضها تحولت هذه القوة بداخله لمستبد آخر كما حدث في كوبا أو لمستبد مأجور لقوى خارجية كما حدث في ثورة الجزائر أما الثورة الإيرانية فقد ركز الخميني القوة العقدية في يده عبر فكرة “ولاية الفقيه” التي مكنته من المحافظة على الخط الشيعي للدولة دون أن تتأثر بسياسات الرؤساء المنتخبين من الشعب .
ولهذه الاعتبارات يجب أن يهتم قادة المشروع الإسلامي بتشكيل مجلس قيادة للثورة بميثاق واضح ومحدد ليكون بمثابة القوة العقدية التي تحمي وجود النظام الإسلامي وتحسم مسائل الانحراف ونزع الشرعية عن الحاكم عبر أي آلية تتيح لها ذلك كالمحكمة العليا التي تسري أحكامها على الرئيس في الدول الحديثة فوجود مثل هذه المحكمة في الأنظمة القمعية لا قيمة له بسبب سطوة الحاكم أما وجودها في ظل حماية قوة شرعية مستقلة يعطيها الحق في النظر في تلك الدعاوى ويعطي مجلس قيادة الثورة الشرعية في تنفيذ الحكم فهذا الوضع سيمنح قادة المشروع الإسلامي وضع إشرافي “دائم” على توجيه دفة البلد دون التعرض لانتقادات الاستئثار بالسلطة وسيمنحهم مرونة في ترتيب وهضم العملية السياسية دون الوقوع في فخ السخط الشعبي جراء الفشل أو أي حصار اقتصادي يفرضه الغرب لاجهاض الحكم الإسلامي فوجود حكومة منتخبة من الشعب يجعله يتحمل خياره ويسحب الفرصة من الغرب في تأليب الناس على النظام الإسلامي ويجعله بعيدا عن أن يمس بمثل هذه التكتيكات التي يمارسها الغرب كثيرا مع الإسلاميين .
الثابت والمتغير في النظام السياسي للإسلام
رفض النبي صلى الله عليه وسلم إعطاء عامر بن الطفيل الخلافة من بعده مقابل النصرة وقبوله إسلام النجاشي بالرغم من عدم دعوته لقومه للإسلام وعدم الحكم به وشطبه لعبارة بسم الله الرحمن الرحيم ولعبارة محمد رسول الله من أجل تمرير اتفاقية الحديبية وقوله أنه لو دعي لحلف كحلف الفضول قبل الإسلام لنصرة المظلوم لقبل به وقوله لقريش .( أما والله لا يدعوني اليوم إلى خطة يعظمون فيها حرمة ولا يدعوني فيها إلى صلة إلا أجبتهم إليها ) هذه المواقف وغيرها كثير توضح أن هناك ركائز وخطوط حمراء ومساحات مرونة للنظام السياسي في الإسلام يجب فهمها لنعرف أين نقف ونتحرك سياسيا مهما اختلف الزمان والمكان فالإسلام الدين الوحيد الذي جعله الله صالح لكل زمان ومكان والإرتباك الذي يقع في أي مرحلة تجاه التطور الحضاري للبشرية يرجع للخلل في فهم الدين وليس في عجز الدين عن التعامل مع الواقع ومن أوائل من وضع يده على هذا الجرح هو الإمام ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين حيث قال ( هذا موضع مزلة أقدام ، ومضلة أفهام ، وهو مقام ضنك في معترك صعب ، فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود ، وضيعوا الحقوق ، وجرؤا أهل الفجور على الفساد ، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد ، وسدوا على أنفسهم طرقا صحيحة من الطرق التي يعرف بها المحق من المبطل ، وعطلوها مع علمهم وعلم الناس بها أنها أدلة حق ، ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع ، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة حقيقة الشريعة والتطبيق بين الواقع وبينها ، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم أمرهم إلا بشيء زائد على ما فهمه هؤلاء من الشريعة فأحدثوا لهم قوانين سياسية ينتظم بها مصالح العالم فتولد من تقصير أولئك في الشريعة وإحداث هؤلاء ما أحدثوه من أوضاع سياستهم شر طويل ، وفساد عريض ، وتفاقم الأمر ، وتعذر استدراكه ، وأفرط فيه طائفة أخرى فسوغت منه ما يناقض حكم الله ورسوله ، وكلا الطائفتين أتيت من قبل تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله فإن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض ، فإذا ظهرت أمارات الحق ، وقامت أدلة العقل ، وأسفر صبحه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه ورضاه وأمره ، والله تعالى لم يحصر طرق العدل وأدلته وأماراته في نوع واحد وأبطل غيره من الطرق التي هي أقوى منه وأدل وأظهر بل بين بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة الحق والعدل وقيام الناس بالقسط فأي طريق استخرج بها الحق ومعرفة العدل وجب الحكم بموجبها ومقتضاها . والطرق أسباب ووسائل لا تراد لذواتها وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد ولكن نبه بما شرعه من الطرق على أسبابها وأمثالها ولن تجد طريقا من الطرق المثبتة للحق إلا وهي شرعة وسبيل للدلالة عليها ، وهل يظن بالشريعة الكاملة خلاف ذلك ؟ )
الحقيقة أن من يفهم الفقرة الذهبية السابقة لابن القيم سيدرك تلقائيا أبعاد العمل السياسي في الإسلام ويخرج من المغالطة الفكرية التي تقول بأن أي عمل سياسي يجب أن يكون له نموذج في السنة ! فالإسلام لم يأت بنظام محدد للحكم وإنما بمبادىء ثابتة لا تتغير مع تغير العصور فالأساس الذي لا يتغير هو قوله تعالى ( وأمرهم شورى بينهم ) أما كيف تتم هذه الشورى فهذا يتغير من عصر لآخر لأنه مرتبط بتطور ثقافة وطرق حياة البشر فكما أن الإسلام دين لا يتصادم مع الفطرة البشرية فهو أيضا لا يعارض نتائج التجربة البشرية سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو تعليمية بشرط ألا تخالف الشرع وهذا المعنى هو ما أكد عليه ابن عقيل في مناظرته المذكورة في كتاب الطرق الحكمية ( ابن عقيل : العمل بالسياسة هو الحزم ولا يخلو منه إمام وقال الآخر : لا سياسة إلا ما وافق الشرع فقال ابن عقيل : السياسة ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد وإن لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي فإذا أردت بقولك : لا سياسة إلا ما وافق الشرع ، أي : لم يخالف ما نطق به الشرع ؛ فصحيح . وإن أردت ما نطق به الشرع ، فغلط ، وتغليط للصحابة ) فركائز النظام السياسي في الإسلام والتي أتت بها النصوص الشرعية تدور حول أن الشريعة هي المصدر الوحيد للتشريع وأن الأمة هي صاحبة السلطة وأن الإمام وكيل عنها وأن لها حق الرقابة عليه وأن الشورى هي العملية السياسية التي يتم من خلالها إخراج قرارات الدولة وفق ما سبق وهذه الآلية التي أتى بها الإسلام هي ما توصل إليه الغرب بعد تجارب سياسية طويلة عبر عهود حكم الكنيسة والإقطاعيين والملوك ثم ظهور الثورات والدول القومية الحديثة، فالقرار في الأنظمة الغربية يخرج وفق النظام الديمقراطي الذي ينظم العلاقة بين الدستور والبرلمان والحكومة إلا أن الفرق بين الشورى والديمقراطية هو أن الأولى يكون مصدر التشريع فيها الشريعة الإسلامية حصرا أما الديمقراطية فالشعب هو مصدر التشريع ولذا فالشورى والديمقراطية تتفق في بعض الآليات كالتصويت والرقابة وتختلف في مصدر التشريع في كل منها بمعنى أنه لو أخذنا الديمقراطية ونزعنا منها حق التشريع للبشر وأثبتناه للشريعة لأصبح نظام أشبه بالشورى ولا يضر أن يسميه البعض حينئذ ديمقراطية لأن العبرة بالجوهر كما قال عمر بن الخطاب عندما رضي بطلب نصارى تغلب بتغيير اسم الجزية إلى صدقة حتى لا يشعروا بالمهانة فقال ( سموها ما شئتم ) وفي رواية قال ( القوم حمقى رضوا المعنى وأبوا الإسم ) وحتى على مستوى مبادئ النظام نجد أن قوانين الحكم والتعايش الإنساني في الإسلام هي أساس بعض ما توصلت إليه شعوب الغرب بعد قرون من الصراعات الفكرية كمثل ( العدالة الإجتماعية – حق الاختيار – المحاسبة – فصل السلطات – استقلال القضاء – حرية التعبير – تداول السلطة ) وغيرها فأساس هذه الأفكار موجود في شريعتنا بل إن هناك دراسة نشرت مؤخرا في أمريكا تشير إلى أن بعض أفكار وثيقة الإستقلال التي شارك في صياغتها المؤسس جونسون كانت مستمدة من نسخة ترجمة القرآن الخاصة به .
متى تكون الدولة إسلامية ؟
قال الله تعالى ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ تضمنت هذا الآية أهم البنود التي تذكر عادة في الدساتير المعاصرة والتي تعلن بها عقيدة الدولة ( والذين استجابوا لربهم ) ونظامها السياسي ( وأمرهم شورى بينهم ) والاقتصادي ( ومما رزقناهم ينفقون ) فأي دستور لأي دولة يجب أن يحدد أولا عقيدة الدولة سواء علمانية أو مسيحية أو إسلامية ثم نظامها السياسي هل هو ديمقراطي أو ملكي وغيره ثم نظامها الاقتصادي هل هو رأسمالي أو اشتراكي أو يجمع بينهما وهذا الأمر لم تحتج إليه البشرية سابقا لأن أنظمة الحكم لم تكن متطورة إداريا كما هو الآن في الدول الحديثة التي يرتبط كل شيء فيها بنظامها المعلن في الدستور وحتى بالنسبة للمسلمين الأكثر تطورا بين الأمم آنذاك لم تكن هناك حاجة للتعريف بالدولة إلا ما جاء في الفقه من أحكام الديار دار إسلام ودار كفر والتي زاد عليها ابن تيمية دار مركبة في مسألة ( ماردين ) أما مع التطور الحضاري في العصر الحديث فقد ظهرت أهمية تحديد عقيدة الدولة وأنظمتها لأنها العناوين الرئيسية التي تشكل شخصية الدولة وبالتالي تشكل شخصية الشعب دينيا وثقافيا واقتصاديا وهذا سبب محاربة الغرب لمحاولات الإسلاميين صياغة دستور إسلامي لأن وجود دستور إسلامي تحت حكم العسكر كما في باكستان لا ينتج عنه شيء ووجود إسلاميين في السلطة دون وجود دستور إسلامي كما في تركيا أمكن سابقا تداركه بالانقلابات ولكن وجود دستور إسلامي وحكومة إسلامية هو الذي يشكل خطر على الغرب لأنه يمهد لعودة الشخصية الإسلامية لمجالات الحياة المختلفة تلك الشخصية التي يخشى الغرب أن تجدد عصر النهضة الإسلامية فالمسلمين على مر العصور مروا بمراحل صعود وبمراحل انحطاط ولكن كان هناك دوما شخصية تدفعهم للأمام وهي ما يحرص الغرب على طمسها فينا خاصة بعد مرحلة الإستشراق التي تمكن من خلالها من فهم العالم الإسلامي .
ولذا نستطيع القول بأن العلامة التي جعلها الفقهاء قديما مقياسا للحكم على الديار بأنها دار إسلام وهي ( عُلو أحكام الإسلام فيها ) تنطبق في العصر الحديث على الدولة التي تنص على ذلك في دستورها بشكل واضح ولا يلغي هذا الوصف ما تتلبس به من مخالفات من عهد لآخر والحديث هنا عن وصف الدولة وليس وصف الحاكم الذي يكفي فيه حديث ( إلا أن تروا كفرا بواحا ) فالبلدان الإسلامية منذ الخلافة الأولى في عهد أبي بكر إلى الدولة الأموية ثم العباسية ثم العثمانية وما تخللها وعاش في ظلها من دويلات كانت تدين بالإسلام كنظام حياة وحكم وهذا المبدأ لم يتغير رغم كم المخالفات الشرعية الجسيمة كالفساد المالي الذي ورثه الخليفة عمر بن عبد العزيز أو الفساد الفكري كقضية خلق القرآن التي تم تبنيها في عهد المأمون أو الفساد الأخلاقي الذي عشش في قصور حكام الأندلس وحتى على مستوى التغيرات التي طرأت على النظام السياسي في الإسلام ( الشورى ) مع بداية نظام التوريث في عهد بني أمية ثم شعار الرضا من آل محمد الذي مهد لحكم العباسيين ثم بروز القوة العسكرية والسياسية التي تحكم من خلف الستارة بعد تراجع مركز الخليفة وتحوله لمنصب شكلي كبني بويه والسلاجقة والأيوبيين والمماليك وغيرهم ثم بداية عهد نظم الحكم الحديثة وكتابة الدستور وتنظيم القوانين ومجلس ممثلي الشعب في أواخر العهد العثماني فمع كل هذه التطورات التي طرأت على النظام السياسي ظلت البلدان الإسلامية تدين بالإسلام كنظام حكم وحياة وهذا الأمر لم يتغير إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية وفرض بريطانيا لبند إلغاء الحكم بالشريعة الإسلامية في معاهدة ( لوزان ) ١٩٢٣ فمنذ ذلك بدأت الدولة القومية العلمانية بالظهور وبدأ واقع جديد لم يعهده المسلمون وتكرس وجوده بعد الحرب العالمية الثانية التي أنتجت النظام الدولي المعاصر ولذا أي حرب أو صراع ينتج عنه إعادة وضع الإسلام كنظام للحكم والحياة والتسليم بذلك بنص واضح في دستور الدولة يعيد نفس السقف الشرعي الذي تعايش تحته المسلمون لأكثر من ألف عام منذ العهد الأموي إلى نهاية العهد العثماني مهما اندرج تحته من فساد فكري أو مالي أو أخلاقي ومهما ابتعد عن منهج الشورى فما دام نظام الدولة يقر بأن الشريعة مصدر التشريع الوحيد ويبطل كل قانون يخالفها فالمناخ السياسي هنا هو إسلامي مهما تلطخ بقرارات أو مظالم قد يتواطأ عليها مسؤولي الدولة بالتحايل أو الاستبداد إلا أن نظام الدولة الإسلامي لا يقرها لأنها مخالفة للشريعة الإسلامية مصدر التشريع فتظل بذلك فرصة نقض هذه القرارات متاحة مهما طال الزمن أو حماها المستبد ولعل في حديث بريرة الذي أمر فيه النبي صلى الله عليه وسلم عائشة بأن تؤدي ثمن إعتاق بريرة لأهلها وتقبل باشتراط الولاء لهم مع تأكيده بأن الولاء لمن أعتق وأن أي شرط ليس في كتاب الله فهو باطل دليل على أن المخالفة الشرعية قد يلجأ للتعايش معها لظرف ما إلا أن وجود قانون أعلى ( كتاب الله ) يجعلها تحت تهديد النقض متى ما تبدلت الظروف التي ولدتها وهذا يمكن اعتباره في مجلس الشورى الذي قد يصدر عنه مخالفات شرعية ولكن وجود قانون أعلى وهو الدستور الإسلامي يتيح إزالة هذه المخالفات لأن نظام الدولة هنا يستوعب واقعية ضغط الواقع ويصحح نفسه تلقائيا بعكس الدساتير التي لا تهيمن عليها الشريعة لأن المخالفات حينئذ تأخذ صفة قانونية دائمة وهذا هو الفرق بين النظام الذي أتاح للخليفة عمر بن عبد العزيز التعايش مع المخالفات التي ورثها والتدرج في إصلاحها وبين النظام الذي لا يعترف بحق الشريعة في ذلك فالأول إسلامي والثاني علماني